منذ أيام راجعت خطاباتي السابقة التي كتبتها من محبسي وأوقفني خطاب كتبته لحبيبتي أشكو إليها صرصور حقل وقف على شرفة زنزانتي وظل يكرر صوته برتابه وإصرار حتى كاد يفتك بأعصابي يومها، وتخيلت أني قابلتها وأشكو إليها همي وحزني، وكعادتها تجد لي منظورًا جديدًا لأشياء وتبسيط للمشاكل بشكل لا يقوى عليه غيرها، فتخيلت أنها أخبرتني أن المشكلة تكمن في أني فقط أكره صوت صرصور الحقل لأني أسمعه في بيئة غير طبيعة تجعل من صوته نشازًا مستفزًا غير قادر على تحمله أو تقبله، أما إذا سمعته في حقل تحت سماء تنيرها النجوم وقمر يرتعش ضياه من المؤكد أني سأستعذب صوته ويشعرني بالراحة والانسجام مع الطبيعة والكون من حولي، ببساطة لأني التقيته في ظرف الزمان والمكان الطبيعي، وأن كرهي الحالي هو فقط نابع من لقائي له في بيئة غير طبيعية.
وهذه المعضلة لم تكن مشكلتي فقط مع الصرصور ولكن مع كل من حولي داخل السجن، فداخل السجن نخسر قسرًا العديد من المشاعر فتنفتح قلوبنا بشدة فتكون مشاعرنا حادة وقوية، نحب بقوة ونكره بقوة ونُخذل بعنف ونشعر بالشوق كما لم نشعر به من قبل و كما لن نشعر به مرة أخرى.
لذا حين تنفتح قلوبنا لشيء أو أحد في هذه الفترة فهي تنفتح بشدة، بما يجعل إخراجه منها كإخراج شوكة من صوف مبتل، وحين نكره شيئًا أو أحد في هذه الفتره يكون مذمومًا مدحورًا مطرودًا من كل أبواب الرحمة في قلوبنا.
لذا حين تستقر قلوبنا علينا أن نعيد تقييم الأشياء من حولنا بشكل موضوعي ودون اضطراب المشاعر الحاد الذي مررنا به أثناء التجربة الذي طغى على تقييماتنا وأحكامنا. ولكن للأسف المشاعر عكس الأفكار حين نكتشف زيفها أو كذبها لا نستطيع التخلص منها ببساطة، فقط لأننا اكتشفنا كذبها وزيفها، لأن المشاعر تنبت داخلنا واستئصالها دائمًا ما يكون قاسيًا وغير آمن، لأنها أثناء انتزاعها تنزع معها جزءًا من أرواحنا، جزء حساس يهدد بعدم قدرتنا المستقبلية على اللشعور بنفس الإحساس أو على الأقل بنفس القوة.
حين تنزع حب من داخل قلبك غالبًا لن تشعر بنفس الإحساس بنفس القوة مرة أخرى، أو على الأقل سيتطلب منك الأمر مجهودًا أكبر هذه المرة، وكذلك الكره أو أيًا كان الإحساس داخلك.
وتظل على مدار عمرك تنزع المشاعر وتنبتها من جديد، حتى تصل إلى مرحلة يصبح فيها المجهود اللازم لإنبات هذا الشعور أكبر من قدرتك على زراعته مرة اخرى، فتخسر هذا الشعور إلى الأبد.
لذلك تتخذ عقولنا إجراءات وقائية للدفاع عن مشاعرنا، وهو تبرير مشاعرنا تحت أي ظرف لأن خسارتنا الناتجة عن خطأ الإحساس لا تضاهي خسارتنا النهائية لهذا الإحساس، لذا تكون عمليه إعادة التقييم لأفكار في غاية الخطورة والصعوبة، خصوصًا أن صدق المشاعر وقوتها أثناء التجربة تجعل جذورها متعمقة في أرواحنا بشكل أكبر، مما يزيد من خطورة انتزاعها.
قبل تركنا للجام مشاعرنا واستسلامنا لانطلاقها علينا أن نتأكد أولًا من البيئة التي نحيا فيها ونسمح لمشاعرنا بالنمو داخلها، لأن النبتة تتأثر بمحيطها، علينا أن نفعل الأشياء في بيئتها الطبيعية وعلينا أن نتأكد قبل اللقاء أننا في بيئتنا الطبيعية التي تسمح لنا بإنبات مشاعرنا في أمان دون أن نندم على إنباتها أو نتألم عند انتزاعها.