هي نور في كل مكان

محمد عيسي

نور هي اسم على مُسمى، وإذا تعرفت عليها يومًا ستتفق معي، لأنها ستكون دائمًا بالنسبة لك نبراس الأمل عندما تنطفئ روحك وتُحبط وتُسلم نفسك إلى براثن اليأس، خاصة حين ترى همومها التي لم تستطع أن تقتل داخلها الأمل في غد أفضل وتضعها أمام همومك التي تكون في الغالب في غاية التفاهة مقارنة بهمومها التي تثقل كاهل أي شخص، ولا أبالغ حين أقول لك أنها كفيلة من أن تقتله كمدًا إذا استسلم لها.

لا أتذكر على وجه الدقة متى تعرفت على نور، ولكني أتذكرأني ألتقيت بها أول مرة في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، وقتها هي من بادرت بالكلام معي حين رأتني أبحث بعيني في القسم عن شيء ما فسألتني “أنت من سوريا؟”، فأجبتها بالنفي، واستطردت مُفسرة سبب سؤالها قائلة “أصل شايفاك عم تتطلع”؛ ابتسمت لها، وغادرت المكان دون أن أنبس ببنت شفة.

لم يكن الحوارالمُقتضب هو بداية صداقتنا، ولكن ترجع بدايتها حين وصمت من زميلات ليّ بقلة الأدب، لأني رديت على أستاذة لنا ردًا أثار حنقها هي وكل الزميلات اللواتي كن حاضرات في الموقف، كانت نور الوحيدة فيهن التي لم تغضب مُجاملة لأستاذتنا، ولم تنتظر أيضًا انتهاء المشكلة حتى تأتي إلي لتطيب خاطري، ولكنها هرولت ورائي بعد مغادرتي مكتب أستاذتنا مكبوسًا ساخطًا لكي تقول لي “جدع أنك ما رديت”.

من هذه اللحظة بدأت أتعرف على نور عن قرب، وساعدني في ذلك حسن الحظ الذي جعل نور تطمئن لي كصديق مثلما اطمأننت لها كصديقة على الرغم من أننا كنا على طرفي النقيض، فنور كانت في عينيّ الفتاه المُسالمة الهادئة التي قضت الحرب على استقرارها وابعدتها عن وطنها وأسرتها رغما عنها، بينما كنت أنا في عينيها الشاب المُعارض الذي لايسلم أحد من جنونه وسلاطة لسانه ومقالاته التي كانت تنشر لي حينذاك في مجلة الحائط.

والغريب أن هذا الاختلاف لم يؤثر على صداقتنا، وإن كان سببًا لتعجب الزملاء من ناحية، ولعلو صوتنا في كثير من المناقشات التي كانت تدور بيننا حول التغيرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على الوطن العربي بعد ثورات الربيع من ناحية أخرى، كانت نور وقتها تتبنى نظرية “كنا مفروض نخلينا في حالنا…ملناش دعوة بالسياسة والناس الكبار..شوفنا ايه من الثورات غير القتل والتشرد والغربة”، ونظريتها هذه كانت تثير غضبي، خاصة حينما كانت تتفوه بمثل هذه العبارات، وغضبي هذا كان يدفعني إلى وصمها بالتخاذل والخنوع وخيانة دماء إخواننا في الإنسانية، واتهامات هذه كانت تثير حفيظتها هي الأخرى، فكانت ترد بأنني لم أتعرض إلى ما تعرضت له، فكنت أدافع عن نفسي وقتها بأن أقسم بأغلظ الأيمان لها بأني أتخيل نفسي في كل وقت وحين مكان من هم في قلب المعاناة، فكانت ترد عليّ بأن كل التخيلات التي من الممكن أن أتخيلها لا تُذكر أمام الواقع المُريع؛ ردها هذا كان يربكني ويجبرني على الالتزام بالصمت، لا لأني سلمت للإيمان بنظريتها ولكن حتى لا أغضبها أكثر من ذلك.

والآن وبعد أن ألقت نور بنفسها في أتون المعاناة وانقطعت سبل الحوار بيني وبينها، أقر وأعترف أني لم أتفهم نور حينها بسبب حداثة سني ونظري للأمور نظرة ضيقة، وأتمنى لو يعود بي الزمن للوراء حتى لا أتورط في توجيه الاتهامات الحمقاء التي كنت أوجهها إليها، ولكي أنظر للأمر من الزاوية التي تنظر هي إليها، حتى أستطيع تفهمها، وذلك لأن نور وإن كانت تحيا هي وأسرتها في وضع سيء قبل الثورة، فبعدها لم ترَ إلا الأسوأ، الأسوأ الذي جعل أفراد الشعب السوري بعد أن كانوا يعيشون على شاكلة معظم الشعوب العربية بين براثن نظام قمعي مستبد حياة مُستقرة (ما داموا يسيرون بجانب الحائط) مُعرضين إلى القتل بالرصاص أو بصاروخ طائش أو من شدة البرد والجوع أو من تهدم بيوتهم فوق رؤوسهم بين اللحظة والأخرى .

ومثلما أتاحت صداقتي بنور بأن أتعرف على آرائها بشأن ثورات الربيع العربي وتداعياتها، أتاحت ليّ أيضًا أن أتعرف على الجانب الإنساني لنور، وعلى المعاناة التي تعرضت لها نور خلال فترة إقامتها في مصر، وما تعرضت له أيضاً في حياتها، وكان له آثرًا بيّن في تشكيل وجدانها، الذي ولدت من رحمه آرائها بل وفلسفتها ونظرتها للعالم، فرغم أن نور كانت معتزة بأخوتها أعتزازًا حقيقيًا لا مراء فيه، إلا أنه كان هناك هوة بينها وبينهم، دفعتها أن تفاجئني وترد عليّ في إحدى المرات التي كنت أحاول فيها أن أواسيها في غربتها قائلاً لها “أعتبريني زي أخوكي” بأنني صديقها فحسب لا أخيها، وحين لاحظت امتقاع وجهي بفعل الكبسة والدهشة، واستني قائلة ليّ بأنه لا يوجد صداقة بين الأخ وأخته، وأنها لو اعتبرتني مثل أخيها بالفعل لن تحدثني مرة أخرى عن أي شئ متعلق بحياتها الشخصية، أي أن صداقتنا القائمة على الصراحة والشفافية ستتصدَع دون أدنى شك.

وحين رأتني نورفارغ الفم، وعلامات الدهشة التي امتزجت بعلامات الاستفهام مازالت على وجهي، تابعت حديثها محاولة أن توضح ليّ ما تعنية بكلامها قائلة ليّ ” شوف محمد أنت دلوقتي عندك اخوات بنات.. الله يحفظهم.. هل مثلاً ممكن واحدة فيهم تيجي تحكي معك عن شاب بيحبها وبتحبه”، لا أخفي عليك أن أول ما انتهت نور من توجيه هذا السؤال ليّ، تأكدتُ وقتها أنني مهما ادعيت أني مؤمن بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فإن هذا المجتمع نضح عليّ بأفكاره الذكورية، وأعتقد أن هذا تجلى لها هي أيضاً حين رددت عليها مرتبكاً “هي تيجي تكلمني في حاجة زي كده ليه”، قبل أن يستدرك الخطأ الذي وقعت فيه الذي لا يستقيم بالمرة مع قناعاتي، وأحاول أن أغالب أفكاري الذكورية وأتحلى بالشجاعة اللازمة وأقول لها ” عادي يعني…هي مش بني آدمة زي زيها وعندها قلب ووارد أنها تحب أي حد.. زي ما أنا وارد إني أقع في غرام أي بنت”.

يبدو أن الطريقة التي استدركت بها كلامي حينذاك أوحت لنور أني متردد ومحرج مما أقوله، فأجهزت على ما تبقى لدي من مقاومة لكي أظهر أمامها بمظهر التقدمي المتفتح قائلة ليّ “وما دام يا محمد فخور بأفكارك كده.. ليش صوتك واطي ومحرج وأنت بتتكلم.. أنت مكسوف أن حد من أصحابك الولاد يسمعك وأنت بتقول حاجة زي كده فيقول ليك أن ماعندك نخوة”.

لن أكابر وأحاول أن أقنعك بأني تقبلت تهكمها عليّ برحابة صدر، لأني وقتها غضبت منها كما لم أغضب من قبل، بل وكبحت رداً حاداً كنت على وشك أن أطلقه في وجهها، وما ساعدني في كتم غضبي، هو أنني كنت أعلم في قرارة نفسي أن نور لم تخطئ فيما قالته، لأنني لم أكن وقتها عندي من الشجاعة أن أفصح عن هذه الأفكارعلى الملأ، بل أن مثل هذه المسائل حينما كانت تطرأ على ذهني قبل معرفتي بنور، كانت دائماً ما تُعيد إشعال صراع يدور داخلي ما بين الأفكار الذكورية التي ألتقطها من المجتمع الذي أحيا في كنفه، وبين مبادئ المساواة التي أسعى جاهدًا أن أطبقها على الأقل في الدائرة المحيطة بيّ، ولكن ما لا تعرفه نور وما أريد أن أقوله لها الآن أنني أصبحتُ عندي من الشجاعة أن أفصح عن هذه القناعات في كل وقت وحين، لأنني بتُ مؤمناً بها الآن أكثر من أي وقت مضى، بل أنني مُستعد أن أقف مدافعًا عنها وأتحمل مغبة التعبيرعنها.

لا أعتقد بعد الذي حكيته لك عن نور أنك ستستغرب كثيرًا عندما أقول لك أن آثار البيئة المفعمة بالأفكار الرجعية التي نشأت نور في رحابها، لم تقتصر فقط على طبيعة علاقاتها بأخوتها، وذلك لأن الأمر للأسف الشديد امتد إلى حياة نور الدراسية، التي لم يشفع لها نبوغها وتفوقها الدراسي لكي تستكمل دراستها الجامعية، الأفكار الرجعية التي خلقت هوة بينها وبين أخوتها هي نفسها التي جعلت أسرتها تختزل دورها كفتاة في الزواج والإنجاب فقط، وكان هذا هو السبب الذي جعل نور تتخلف أكثرمن عام عن البدء في دراستها الجامعية، لولا الثورة السورية التي استحالت إلى حرب أهلية أجبرت نور على النزوح مع والدها إلى مصر، فقررت بعد أن أستقر بها المقام أن تتمرد وتُحيي حلمها القديم وتلتحق بالجامعة رغماً عن أنوف جميع أفراد عائلتها، وبرغم كل الظروف المضنية التي تكبدتها بتجلد وصبر منقطع النظير في سبيل إحياء حلم كانت تظن طيلة الوقت أنه حلم بعيد المنال.

كانت عودة نور لدراستها من جديد مُحاطة بكثير من الكواليس الكاشفة لحجم المعاناة التي تجشمتها نور ومدى إصرارها على دخول الجامعة في مصر بعد أن حُرمت من دخولها في سوريا، ومن هذه الكواليس أنها قامت بفسخ خِطبتها من أحد أفراد عائلتها التي نالت من أفرادها سيل من اللعنات لمجرد أنها قررت أن تبدأ في دراستها الجامعية بعد أن كانت الفتاة المُطيعة المُدللة لهم، في الوقت نفسه التي كانت الأوضاع تتأجج في سوريا يوم بعد يومٍ، وهذا الأمر الذي جعلني أتهكم عليهم في إحدى المرات التي كانت تحكي فيها نور ليّ عما تتعرض له من مضايقات وأقول لها “هم التافهين دول في ايه ولا في ايه.. مايتنيلوا يخليهم في اللي هم فيه”.

كان والد نور وقتها هو الوحيد الذي لم تلبث جذوة غضبه أن انطفئت بعد فترة ليست بالطويلة، ربما بفعل توسلات نور التي كانت تطارده بها في كل وقت وحين، وربما بفعل الأحداث في سوريا التي أضفت على شخصيته نزعة صوفية، وربما نتيجة مراجعته لنفسه وإعادة تقيمه لوضع نور من جديد، وربما لاحترامه إصرار ابنته على الحصول على شهادة جامعية.

أيًا كان السبب المهم أنه بعد أن كان يُشاطر أفراد عائلته التهكم على ابنته الوحيدة، أصبح المُشجع والمُحفزالوحيد لها على استكمال دراستها، ليس فقط بالكلام وبالدخول في مشادات كلامية مع من يريد أن يؤلبه عليها من أخوتها أو أبناء عمومتها، ولكن بتدبيره مصاريف دراستها التي كان الله وحده هو الذي يعلم كيف كان يقوم بتدبيرها، وكيف كان يضغط على نفسه حتى يستطيع تدبيرها، فنور نفسها لم تكن تعلم كيف كان يقوم بتدبيرها، بل وكيف كان يقوم بتدبير مصاريفهما المعيشية في مصر من إيجار للمنزل فضلاً عن مصاريف الطعام والشراب، وهذا لا يعني أن نور كانت (مِكّبرة رأسها) تاركة له مهمة تدبير مصاريفهما الحياتية، فهي الأخرى كانت تضغط على نفسها بشتى الطرق حتى يتسنى لها الاستمرار في الحياة واستكمال دراستها الجامعية، والعبد لله كان شاهداً على ذلك، وشهادتي هذه لم تأتِ من حكي نور ليّ عن ما كانت تفعله حتى تستطيع أن تذهب للجامعة بصورة يومية، وذلك لأني رأيتها بنفسي كيف كانت تقطع مسافة طويلة تقدر من أربعة لخمسة كيلومتر بشكل يومي على قدميها في مجيئها ومرواحها تحت وطأة أوار الشمس في أحيان وتحت وطأة البرد القارس في أحيان أخرى، وكيف كانت تضطر أن تترجى وتتوسل لـ(اللي يسوى واللي مايسواش) لكي تستطيع أن تستعير كتاب كي تستذكر دروسها، وكيف كانت تقتر على نفسها حتى تتمكن من شراء كتبها الدراسية، وكيف كانت تبحث في كل وقت وحين عن أي عمل حتى تستطيع مساعدة والدها على تحمل صعوبة حياة الغربة، وكيف كانت تتعرض للعنصرية بشكل مستمر من فتيات قليلات التربية والذوق، وكيف كانت تتعرض للتحرش اللفظي من شباب ليسوا بكل تأكيد أفضل حالاً من هؤلاء الفتيات.

كانت نور حينذاك تؤثر إبتلاع جميع الإهانات التي كانت توجه إليها في صمت، لكي تستطيع تحقيق هدفها بدون أن تحدث أي (شوشرة)، وهذا الأمر كنت أستغربه فيها كثيراً، بل كان يثير التساؤلات في ذهني، كيف من الممكن أن تتحمل كل هذا دون على الأقل أن تصرخ متألمة ومستغيثة؟ كيف كانت تستطيع أن تكتم كل هذه الآلام في صدرها لكي لا تحدث أي جلبة؟ كيف كانت تقتصر على نفسها بهذا الشكل دون أن تطلب أي مساعدة من أحد حتى تستطيع استكمال دراستها؟.

وما كان يمنعني أن أطرح على نور هذه التساؤلات هو خجلي منها، ولكني حين غالبته في إحدى المرات، وسألتها بعد أن رأيتها أثناء ركوبي وسيلة مواصلات تمشي ناحية الجامعة في الحر القائظ على قدميها عن مصدر مصاريفها هي ووالدها، وعما إذا كانا يكتنزا أموالاً جاءا بها من سوريا، ردت عليّ وقتها بلهجة عصبية غاضبة: (محمد احنا باختصار احنا ما معنا مصاري…وارجو ان تغير هذه السيرة) ندمت كثيرًا حينذاك بل ولازلت نادماً على قلة ذوقي وسذاجتي، واعتذرت لها عن توجيه هذا السؤال، وعرفت وقتها أن هذا الموضوع خط أحمر بالنسبة لنور، ولا ينبغي أن أتطرق معها للحديث فيه بأي شكل من الأشكال.

كما أنني لا زالت نادماً على سؤالي السخيف الساذج، فإني لن أسامح نفسي أيضًا لأني سمحت لزحمة الحياة أن تُفتر صداقتي بنور بل وتجعلني أقصر في حقها تقصيراً حال دون أن أشد من أزرها حين توفى والدها، ورغم تقصيري هذا معها، كان آخر عهدي بنور رسالة تركتها ليّ عبر موقع التواصل الإجتماعي (الفيسبوك) تقول ليّ فيها بأنها ستعود إلى سوريا، لأنها لم يعد هناك ما يدعوها إلى البقاء في مصر، خاصة بعد وفاة والدها، وأنها فخورة كثيراً بأنها تعرفت عليّ.

وللأسف الشديد لم تخولني نور الفرصة بعد إغلاقها لصفحتها على (الفيسبوك) – وسيلة التواصل الوحيدة بيني وبينها حينذاك- بعد إرسالها الرسالة ليّ لكي أعتذر لها عن تقصيري معها أو أحاول أن أقنعها للبقاء في مصر، أو على الأقل أن أقول لها بأنني أنا الفخور بل والمحظوظ لأني تعرفت على فتاة مثلها بنقائها ورقتها وطيبتها وجدعنتها، وأنني أتمنى أن التقي بها مرة أخرى وهي في أفضل حالاً على جميع الأصعدة لأنها تستحق ذلك، لا لأنها فقط مثال للفتاة المُكافحة، ولكن لأنها هي نور في كل مكان.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة