"ذهب أحدهم ذات يوم لزيارة الطبيب، كان يعاني ثقبًا في القلب حالته متأخرة وحرجة، يبدو أن الموضوع أكبر من الطب، أخبر الطبيب عائلة المريض بأهمية الراحة وانتظار مصيره القريب في هدوء، غادر الأهل عيادة الطبيب محبطين وحزانى قلوبهم مرفوعة نحو الله، يطلبون منه "معجزة".
وعند عودتهم إلى المنزل، طلب المريض طماطم: عايز طماطم.. نفسي في طماطم.
مرت أيام انتظر فيها الأهل موته في أي لحظة. وجاءت المفاجأة، تحسن مريض ثقب القلب وتعافى تمامًا.
بعدما أكل "الطماطم"، وبعد فترة وجيزة، تحسنت صحته. وفي زيارته التالية للطبيب، أخبرهم أنه تعافى، وبالفحوصات اكتشف الطبيب أن المشكلة حُلت: "لقد تعافى تمامًا، أما ثقب القلب فقد التحم تمامًا".. فرح الأهل وعرفوا أن الله قد تمجد بمعجزة وكان تفسير ما حدث هو : "أن قشرة الطماطم التي أكلها، تسرسبت حتى وصلت للثقب وسدته، ظل يضيق ويضيق إلى أن اختفى تمامًا".. في حكايته عن إرادة الرب يؤكد القمص إبراهيم عبده عبر برنامجه: "حاجات فوق الخيال، فوق العلم بيتمجد بيه الله".
قـال الرب لليهود: «إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي. وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فآمِنُوا بِالأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُـوا أنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَـا فِيهِ».. إنجيل يوحنا 10: 38
انقسمت الآراء حول تعريف المُعجزة، فالمقطع المتداول بين تأييد كلام الأسقف من الجانب الإصلاحي ورفضه رفضًا قاطعًا من الجانب الأصولي الذي يرى بالضرورة أن المعجزة هي عمود ثابت من أعمدة المسيحية لا يجب التشكيك فيها.
فبداية من ميلاد المسيح مرورًا بحياته الغنية بالمعجزات من شفاء الأمراض وحتى إقامة الموتى، نهاية بقيامته وصعوده للسماء، كلها مشاهد للمعجزة غير منطقية، أثرت في العقل الجمعي بالتبعية ومهدت الطريق لقبول فعل "المعجزة" كأمر مقبول ورائج شعبيًا.
وبالحديث عن المعجزات، أثار انتشار فيديو الأنبا بيمن أسقف نقادة وقوص، جدلًا واسعًا بين المسيحيين الأرثوذوكس في مصر، حيث أشار في عظة قريبة له أن 99% من كتب المعجزات موجودة بغرض التجارة والتربح المالي.
وحذر أسقف نقادة من الانغماس في التعلق بقصص المعجزات على حساب المسيح والكتاب المقدس، خاتمًا حديثه بوصف الأقباط أنهم أعباط، ولأنه يعرف قدر "المنطقة الملتهبة" التي يتحدث فيها، توقع الهجوم على كلامه "أنا عارف إني هطلع من هنا..ربنا يستر". وهو ما حدث بالفعل.
اقرأ أيضًا:أهل الكهف.. "أسلمة" الشخصية المسيحية في السينما المصرية
المعجزات في المسيحية
تعتمد المعجزة على الإيمان المطلق، بأن تؤمن بالعجيبة وتصدقها تمامًا دون أن تسأل حتى وإن راودك الشك، وبحسب الموسوعة البريطانية، فالمعجزة هي تلك التي تُسبب العجب والدهشة، وغير عادية في حد ذاتها ومذهلة أو لا يمكن تفسيرها بالمعايير العادية.
بينما تبنى سبينوزا أن المعجزة هي فعل طبيعي، لكن يُنظر إليه على أنه خارق لجهلنا بالأسباب الحقيقية التي أدت لوقوعه، ليضع حلًا للتناقض الظاهر في ماهية تفسير المعجزة.
ويقول الباحث في التراث القبطي ماركو الأمين: "المعجزات جزء أصيل من الإيمان المسيحي وهي إشارة لقدرة الثالوث (الآب والابن والروح القدس) على ضبط العالم وتعزية المؤمنين، ويمنحها كهدية لبعض مختاريه"، ويضيف: الكتاب المقدس هو المصدر الأول لقصص المعجزات التي قام بها المسيح نفسه والتي تنوعت بين شفاء الأمراض وإقامة الموتى ومباركة الطعام، ولم يكن يفعل ذلك إلا تضامنًا مع المحتاجين الذين يمروا به أو يطلبوا منه.
وبحسب أمين: "القرون الأولى لم تتداول كتبًا إلا عن معجزات المسيح، ولكن في مطلع القرن الرابع والخامس الميلادي وما بعدهما، ومع زيادة وتيرة الاستشهاد وحركات الرهبنة بدأت تظهر مزارات القديسين ومنها ظهرت حكاوي المعجزات وقصصها المختلفة، وأصبح لدينا في كنيستنا القبطية تقليدًا لكتابة المعجزة".
وأشار الأمين إلى اقتران سير القديسين بالمعجزات، كانت تُقرأ في أعياد القديسين أو في الصلوات المختلفة لتشديد المؤمنين وتحديدًا في عصور التضييق والاضطهاد، وعلى هذه المخطوطات بُنيت كافة كتب المعجزات التالية.
مؤخرًا، كان لظهور العذراء مريم فوق قباب كنيستها بالزيتون عام 1968 في الفترة رئاسة البابا كيرلس السادس، بطريرك الكنيسة القبطية آنذاك، من أهم الأسباب التي أدت إلى زيادة وتيرة النشر عن المعجزات وسير القديسين.
وعن شيوع حركة تحرير ونشر كتب المعجزات، جاء في دراسة للباحثة بريدجت فوال، بعنوان "أقباط مصر في عهد ناصر" أو Les coptes d'Égypte sous، أن تلك الفترة من "1959 حتى 1971" مثلت قفزة إلى الأمام في هذه الصناعة، وكانت أبرز مصادر هذه الكُتيبات دور نشر منها: الجهاد، شيكولاني ومرقص وبيت التكريس ودير السريان ومكتبة المحبة.
اقرأ أيضًا:كيف تعامل المصري القديم مع الهويات الجنسية؟
ساهم رجال الدين عبر وسائل الإعلام وبعض من التأييد العلمي من بعض الأطباء وغيرهم من العلماء قدموه للمجتمع القبطي الذي كان مؤهلًا لتلقيه، في نشر وترسيخ ثقافة الاحتفاء بالمعجزات دون تدقيق قصتها، أو حتى انتظار بيان رسمي يفيد وقوعها من المقر البابوي.
وفي الفترة التي تلت وفاة البابا كيرلس السادس بداية السبعينات، مثلت أيضًا مناخًا مناسبًا لزيادة كتب المعجزات التي تناولت بشكل أساسي قدسيته كرجل الصلاة والمعجزات. وبداية من الثمانينات ظهرت سلسلة معجزات البابا كيرلس والتي وصل عددها أكثر من 10 أجزاء.
ظهرت كذلك سلسلة من مقاطع الفيديو كان بطلها القمص يؤانس كمال، تحت عنوان صدق ولابد أن تصدق، والتي حكى فيها عن معجزات وعجائب البابا كيرلس والشهيد مارمينا العجايبي وآخرين من القديسين، ويتناقلها الأقباط حتى الآن، وفي التسعينات تداول الأرثوذوكس كتاب باسم "العدرا حالة الحديد" وهو كتاب اعتقدوا أنه يشفي الأمراض ويحفظ البيوت والأزواج.
وحتى هذه اللحظة يُباع بأسعار خيالية على مجموعات فيسبوكية، حيث يستهلك الأقباط حكايات المعجزاتعن طريق مقاطع الفيديو الرائجة لبعض الكهنة والأساقفة في الاجتماعات والعظات الأونلاين.
ومن حكاياته المنتشرة على مواقع التواصل يقول أحدهم، أنه كان يشعر بالحزن لأنه لن يرى البابا شنودة في صلاة العيد مرة أخرى، وذلك بعد رحيله في العام ٢٠١٢، فقرر تحميل قداس مسجل له في صلاة العيد، من أحد مقاهي الانترنت ليُعيد تشغيله ليلة العيد كما تعود، لكن: "مساحته كبيرة حوالي، وقد يستغرق حوالي 4 ساعات".
توقف الرجل عن تحميل الفيديو عدة مرات في مقاهي مختلفة بسبب بُطء الانترنت، وحين شعر باليأس ذهب إلى منزله ونام مستاءً، لكنه استيقظ في الصباح التالي ليشهد المعجزة: "صحيت وبفتح اللابتوب، وجدت في مكان الـ"داونلوود" أن قُداس عيد القيامة سنة 2011 للبابا شنودة اللي كنت عاوزه موجود بالكامل".. وفي نهاية حكايته، يدعو الرجل كل من يقرأ هذه المعجزة أن ينشرها لتصل للجميع.
اقرأ أيضًا:البهائيون في مصر.. أن تكون مواطنًا بـ"شرطة" (حوار)
المعجزات في الانثروبولوجيا
المعتقدات بالكرامات والمعجزات يعود تاريخها إلى المصري القديم الذي لجأ للآلهة للاحتماء من الطبيعة وكل ما لا يستطيع تفسيره، إلى جانب الشفاعة لطرد الأرواح الشريرة وشفاء الأمراض، وفي كتاب "الإنسان الحائر بين العلم والخرافة" للدكتور عبد المحسن صالح، نقرأ صلاة: "السلام عليك ياحورس، إني قصدتك لتقضي على الشيطان الذي يتملك جسدي".. ثم صلاة لحورس يرد فيها "أغربوا ياشياطين المرض إني حورس".. في إشارة لقدرته الخارقة التي صنعت المعجزة فعلًا.
ومن المصريين القدماء، للمصريين حاليًا، الذين ينقسمون بين الأضرحة وكرامات الأولياء وبين مزارات القديسين وكتب معجزاتهم، وإيمانهم الشديد بالشفاعة التي ربما أصبحت بابهم الوحيد في ظل الأزمات والضيقات التي لا حلول لها إلا المعجزة.
في كتابه "كنت طفلًا قبطيًا في المنيا" يشير مينا عادل إلى ممارستين مرتبطتين بالمعجزات: الشفاعة والنذور، فالشفاعة جزء من الاعتقاد الديني الشعبي، فالقديسين يحبهم الله ويضعهم في مكانة عالية، لذا فهم يتمتعون بقدرات خارقة، أما النذور فهي المرحلة الثانية حيث ينذر الفرد نذرًا ماديًا أو عينيًا لأجل تحقيق طلبه.
والشفاعة، يمنحونها للقديسين كل منهم بحسب اهتمامه المرتبط بسيرته، على سبيل المثال هناك إجماع ضمني على أن "القديس أبانوب" شفيع الإنجاب، و"أبو سيفين" شفيع الأمراض الصعبة والخطيرة، و"القديسة مارينا" لحالات الولادة الخطرة، و"القديس تيطس" شفيع مرضى العظام، و"البابا كيرلس السادس" لطلاب العلم والامتحانات، أما "الأنبا ونس" فهو شفيع الأشياء المفقودة، فإذا ضاع منك شيء، قُلْ: "يا أنبا ونس".. ستجدها على الفور.
وفي كتابه يرى جيد أن حدوث المعجزة متكاملة عناصر السرد، لها بداية: فالحياة كانت طبيعية حتى اكتشفنا المرض الفلاني أو أردنا طفلًا أو النجاح، وطرقنا الأبواب دون جدوى. ثم الوسط: نطلب من القديس أن يتدخل أو يأتي ترشيح من أصدقاء ومقربين بقديس أثبت جدارته في معجزات مشابهة، أو الذهاب للأماكن المقدسة أو استخدام زیت مقدس وماء مُصلى عليه أو الصلاة أمام أيقونة مقدسة. وفي النهاية: تحدث المعجزات، سواء بظهور القديس ووضع يده على مكان العلة أو سبب المشكلة وعلاجها وحلها، أو أن يستيقظ المريض فيجد القديس قد أجرى له العملية الجراحية التي فشل الأطباء في حلها.
وفي كتاب عن معجزات الشهيد بيشوي "أحد ضحايا تفجير كنيسة طنطا" في أبريل 2017 المعروفة بتفجيرات أحد السعف، يحكي شابًا: "دخلت الامتحان وشعرت بفقدان في الذاكرة، نسيت كل ما حفظت، فصمتُ وتشفعتُ بالشهيد.. حتى سمعت الإجابات عن بُعد، كتبتُ وراء الصوت ونجحت بدرجات مرتفعة".
هل يؤمن المسيحيون بالمعجزات الآن؟
وفي استطلاع رأي عشوائي بشكل بسيط عبر الانترنت، أجريناه عن إيمان المسيحيين الأرثوذوكس -طائفة الأغلبية في مصر- بالمعجزات وإذا اقتنوا أو لا يزالوا يقتنوا كتبًا للمعجزات، ملء الاستطلاع 30 شخصًا تتراوح أعمارهم بين الـ 20 و45.
جاءت الإجابات على سؤال هل تؤمن/ين بالمعجزات؟ 85% بنعم و15% لا، وكانت الأسباب المذكورة هي أن المعجزات جزء من قدرة الله والإيمان المسيحي، فيما أجاب 95% من العينة بنعم على سؤال اهتمامهم باقتناء كتب للمعجزات، فيما اكتفى الآخرون بمتابعة فيديوهات الكهنة والواعظين على اليوتيوب والفيسبوك.
وفي دراستها تقول الباحثة بريدجت فوال، أن الأقباط كأقلية عددية يواجهون العنف الطائفي من وقت لآخر، ويقتنعون أن الله لن يتخلى عنهم في بيئتهم المعادية، وأن وساطة القديسين إلى الله تضمن الاستجابات المناسبة واستعادة ولو على المستوى الرمزي، القوة التي يفتقرون إليها كثيرًا في الواقع.
وبالإشارة لهذا التفسير، ارتبطت المعجزات الشهيرة بحوادث الاضطهاد والضيق الذي وقع على المسيحيين في فترات كثيرة، ومنها في التراث مثلًا: نقل كنيسة القديس أبسخيرون من قلين بكفر الشيخ، إلى البيهو بالمنيا، ومازالت هناك إلى اليوم.
ففي أحد احتفالات الكنيسة بهذه المدينة -بحسب سيرة القديس، كان المؤمنون يتشفعون بالقديس أبسخيرون ابن بلدتهم، وأثناء الليل تربص لهم المضطهدون، لكن قبل تنفيذ هجماتهم نُقلت الكنيسة بمن فيها، وفي الصباح خرج الناس من الكنيسة ليجدوا أنفسهم في بلد غير بلدهم.
ظهر لهم القديس دون أن يعرفوه، وسار معهم حتى شاطئ النيل، وركبوا سفينة ثم وصلوا إلى قلين في يوم واحد وليس ثلاثة أيام، فتعجب صاحب السفينة وآمن بالمسيحية، وفي مكانها وجدوا بركة ماء تُسمى بحيرة القليني.
وفي سياق آخر يرى تقرير نشرته OUPBLOG التابعة لجامعة أكسفورد، أن الإيمان بالمعجزات هو مجرد أمنيات، فالعديد من الناس يؤمنون بالمعجزات لأنهم يريدون أن يعتقدوا أنها تحدث، وهناك بعض الوجاهة في هذا، فقد يزعم البعض أن الإيمان بـالمعجزات شائعًا، لأن الناس يريدون أن يظلوا متفائلين حين يعانون.
فوضى حكاوي المعجزات.. من المسؤول؟
"لا أحد ينكر المعجزات لكن بلاش نجري ورا الغيبيات وبلاش تعميم، والأنبا بيمن اتكلم بمنتهى العقل والإيجابية" هكذا رد الأنبا رافائيل أسقف كنائس وسط القاهرة على سؤال تلقاه حول الإيمان بالمعجزات وحول صحة عظة الأنبا بيمن المشار إليها بالأعلى، مشيرًا لفكرة أن المعجزات ليست من العقيدة وانتشارها والسعي لها ربما يفقد الإنسان إيمانه الحقيقي.
يُشير هذا الرد إلى بعض الدعوات بتنقيح الكتب والتراث المسيحي من الخرافات والقصص الخيالية، والتي بدأت منذ فترة البابا شنودة الثالث، ونتج عنها مشروع تنقيح وتنقية كتاب السنكسار على عدة مراحل، وهو كتاب يحتوي على سير القديسين ومعجزاتهم.
وبحسب معلومة حصلنا عليها في فكّر تاني، فإن النسخة الحالية من السنكسار هي نسخة ضعيفة وتحتاج إلى التنقيح والمراجعة الدقيقة.
أما مراجعة كتب المعجزات وسير القديسين الجديدة، فالمفترض أن الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية لها لجنة كنسية لمراجعة الكتب لكنها غير مفعلة بأي درجة، ونتيجة تجاهل هذا الأمر، تسبب في إنتاج عدد من الكتب دون تدقيق وتحتوي على الكثير من الخرافات.