كيف تعامل المصري القديم مع الهويات الجنسية؟ 

 

تم اعتبار المجتمع المصري القديم مجتمعًا متقبلًا للأقليات الجندرية ولجميع التوجهات الجنسية، هذا بحسب عدد من الباحثين من علماء المصريات الأوروبيين. تظل قصة اغتصاب حورس من عمه ست دليلًا قويًا لكل من يرى طبيعة المثلية الجنسية في مصر القديمة، فحسب القصة أن ست وحورس تناولا الخمر معًا حتى السكر فقام عمه بترغيبه في ممارسة الجنس معًا ولكن حورس وإيزيس قاما بتخطيط حبكة مسبقة للإيقاع بست.

هناك الكثير من التفاصيل في هذه العلاقة التي بدأت باغتصاب ست لحورس ليجبره الثاني على المثول أمام المحكمة الإلهية لإهانة حورس ولكن تتفق كل الروايات على قيام الاثنين بعلاقة جسدية معًا. وحسب قول الباحث محمد جمال، ظهر في بعض البرديات مجاملة ست لحورس لترغيبه في ممارسة الجنس معًا ولكن كان غرض ست في الأساس إهانة وتشويه سمعة حورس.  يرجع البعض أن المثلية الجنسية كانت طبيعية ومقبولة في المجتمع المصري القديم، سواء انتهى الأمر باغتصاب أو علاقة رضائية فيظل هناك علاقة جنسية بين رجلين.

يعتبر ست شخصية شريرة في معظم القصص التي يظهر فيها ولا خلاف على ذلك ولا علاقة في ذلك بميله الجنسي ولكنه ظل متزوج من نفتيس دون إنجاب الأطفال وهذا ما يعتبره البعض دليلًا قويًا على مثليته.

تاريخ موثق

أيضًا، يرى بعض الباحثين أن البرديات التي تصور علاقة جنسية بين ست وحورس، ما هي إلا محاولة لتوجيه الإهانة لحورس، بينما أظهرت الكثير من الجداريات على الأهرامات وجود علاقات بين أشخاص من نفس الجنس، وعلى تقبل المجتمع لها سواء بين الآلهة او الملوك.

اختلف العلماء حول علاقة ني عنخ خنوم وخنوم حتب فتظهر صورتهما على قبرهما في شكل ودي يقبلان بعضهما. عاش الثنائي خلال فترة الأسرة الخامسة وكان لكل منهما زوجة وأطفال، ودفنا في نفس المصطبة بعد وفاتهما.  يرى العلماء أن تقبيل الرجال لبعضهم أمر شائع في المجتمع المصري حتى الآن، ولكن ما يأخذ الأذهان إلى ظنهم بالمثلية الجنسية هو التصاق أنوفهم في الصورة المرسومة على المقبرة

اقرأ أيضًا: عن مجتمع “الميم”.. ثلاثية “التضييق والرفض والعنف”

يرد بعض الباحثين المصريين على ذلك بأنه لتوضيح تقاربهم فيرجح بعضهم أن ني عنخ خنوم وخنوم حتب كانا أخوين وعلى الأغلب توأم.  تستمر رحلة البحث حولهما، فهناك رأي نادر يقول بأن الصورة توضح تقاربهما الجسدي. فعلى الأغلب كانا توأم ملتصق ولكن لا يُفسر لنا إن كانا ملتصقين من الأنف أم لا.

ني عنخ خنوم.. وخنوم
ني عنخ خنوم وخنوم

وقصة الملك بيبي الثاني مع أحد كبار قادته ساسينيت التي تُعد إحدى قصص الأدب المصري القديم التي يظهر فيها الملك بيبي يتسلل في الليل عن طريق سلم خشبي إلى داخل بيت ساسينيت حتى كشف أحد حاشيته ما يدور بينهما ويقال في البردية “يفعل ساسينيت ما يريد جلالته” وهذا يعتبر تلميح واضح لما يجري.

عرف الملك بيبي الثاني بضعفه وشهدت فترة حكمه -استمرت تسعين عامًا- اضمحلال وتدهور أحوال الشعب، وقد كتب عالم الآثار “بريكن” عن بردية الملك بيبي الثانى وساسينيت وأوضح فيها أن الشعب كان على دراية بمثلية الملك وأن المصريين شعروا بالسخط والغضب، فتم كتابة البردية مرتين باللغة الهيراطيقية للتوعية بذلك “الفعل المشين”، وهذا أيضًا ما أكد عليه وزير الآثار الأسبق زاهي حواس.

العلاقات بين النساء كانت سائدة وأكثر قبولاً في المجتمع، ولكن معظم القصص التي تم تدوينها كانت بين الرجال. قد يرجع قبول العلاقات بين النساء إلى عدم تأثير ذلك على خصوبتها، فبالرغم من مثلية المرأة إلا أنها ستستمر في دورها الاجتماعي بالإنجاب وتربية الأطفال.

يعد كتاب “الأحلام” أقدم كتاب لتفسير الأحلام، وقد تم العثور عليه في “بردية كارلسبرج”، الموجودة حالياً في كوبنهاجن، وتعد البردية من أقدم ما احتوى على أدلة علمية وطبية في الحضارة المصرية، وترجع إلى عصر الدولة المتأخرة.

حسب كتاب الأحلام تظهر امرأة حامل تحلم بممارستها الجنس مع امرأة أخرى متزوجة، وتقول في ذلك عالمة المصريات “كاسيا سابكوكسا” أن المجتمع المصري القديم كان يجرم الزنا، وليست العلاقات من نفس الجنس على وجه التحديد.

في نص من نصوص الموتى تأتى العبارة “لم أمارس الجنس مع امرأة في المعبد”، وهذه إشارة واضحة إلى حرمانية الزنا داخل المعبد، ولكن المفاجأة أن من كتب هذا النص كانت امرأة، فيتضح الأمر أن المجتمع المصري القديم كان منفتحاً على الحديث عن الجنس، ولاسيما العلاقات من نفس الجنس.

هل عانوا قديمًا من اضطرابات هوية جنسية؟

يأتي ذكر التوجهات الجنسية والأقليات الجندرية ملازماً لاضطرابات الهوية الجنسية/ الجندرية، وفي هذا الصدد تحديداً فقد توصل بعض العلماء والباحثين إلى نتيجة أن بعض الشخصيات المصرية القديمة قد يكونوا قد عانوا من هذه الاضطرابات، أو على الأقل تعامل المصريون معهم ببعض من الوعي تجاه هذه المسألة.

من ضمن هؤلاء الشخصيات آلهة وقادة مثل رع وهابى وحتشبسوت وإيفيس. بدأت عبادة رع إله الشمس منذ عام 2600  قبل الميلاد خلال عهد الأسرة الرابعة وكان المعبود وقتها على هيئة رجل يرتدي تاج يتوسطه قرص الشمس . كتب عالم المصريات سير “الفريد واليس بادج” إن في عهد الأسرة الخامسة بين عامى2323 – 2465 بدأ المصريون فى عبادة رعت أو رعت تاوي والرمز إليها بأنثى، ويؤكد بهذا الشأن أن المعبود رع كان له طبيعة ثنائية الجنس وليس فقط أن رعت كانت الصيغة المؤنثة لرع.

ذهب البعض إلى القول بأن رعت هي حتحور وهي ايزيس، ولكنها لم تصل أبداً إلى مكانتهما، وقد ذهبت بعض الأراء إلى أن رعت هى ابنة رع أو زوجته لأنها كانت ملازمة له. في كل الأحوال يظل القاسم المشترك في الآراء هو الإجماع على ملازمة رعت لرع وهو ما قد يؤكد على ثنائية الهوية الجنسية للمعبود.

أخناتون (يمين) كان يُصوَّر في كثير من الأحيان بشكل مشابه لحابي على أنه ذو ثديين
أخناتون (يمين) كان يُصوَّر في كثير من الأحيان بشكل مشابه لحابي على أنه ذو ثديين

هابى من أقدم الآلهة في مصر القديمة وهو إله النيل ويرجح أنه كان ثنائي الجنس فهو يظهر كرجل يرتدي لحية مزيفة ذو بطن كبير وثديين متدليين، بينما يقول البعض أن ذلك معناه ضعف هذا الرجل وكبره في السن.

كان النيل شريان حياة المصري القديم فلا يعقل أن يرمز إليه برجل ضعيف، وخاصة أن مركز عبادة هابي كان وراء الشلال الأول قرب الفنتين وهو جزء يتميز بمرحلة شباب نهر النيل كاتساع مجراه وشدة تدفقه وجريانه. يرجح العلماء أن هابي كان ثنائي الجنس intersex وهو تفسير أكثر واقعية يتلائم مع الجزء الأنثوي للإله الذي يعبر عن هبة الحياة لدى المصري القديم.

يبدو أن المجتمع المصري القديم لم يخل من حالات اضطرابات الهوية الجنسية / ترانسجندر، فيرجح البعض أن حتشبسوت كانت أول هذه الحالات في سجلات التاريخ، على الرغم من كونها امرأة إلا أنها ارتدت ملابس رجال وارتدت اللحية المزيفة لتظهر بمظهر رجل. الحكاية السائدة هي أنها سلكت هذا السلوك لتبدو قوية، إلا اأن هذه تبدو كحجة ضعيفة، فتاريخ مملكتي طيبة وكوش كان لديهما الكثير من الملكات. يقال أن حتشبسوت حاولت تغيير اسمها إلى “حتشبسو”، بإزالة تاء التأنيث، ولكن يرى أخرون أن هذه حجة لا دليل عليها، فاسم حتشبسوت يعنى أنبل النساء وهذا اسم لا يجوز تذكيره، ولكن لا دليل قوى على ذلك ففي النهاية تم محو اسمها من التاريخ بشكل ما.  يظل اعتبارها كأولى حالات اضطراب الهوية الجنسية احتمال جائز.

فكرة قديمة

كانت فكرة تغيير الجنس سائدة في المجتمع المصري القديم، فكان هناك اعتقاد بأن الرجل يكوّن الجنين وينقله إلى جسد المرأة، ومن هنا ظهرت فكرة أن الرجل يستطيع تغيير جنسه، بينما لا تستطيع المرأة ذلك، باعتبارها غير مؤهلة بيولوجيا. ورغم ذلك كانت عملية التغيير واجبة بعد الموت، حيث تتم عبر عملية روحانية عن طريق تلاوة الكاهن ترانيم بعد الوفاة، وبعدها تستطيع المرأة تغيير جنسها عند البعث، حيث يرى الكهنة وقتها ضرورة تغيير الجنس لإتمام رحلة البعث والخلود.

على ذكر ذلك فقد كانت ايزيس إلهة الخصوبة والأمومة وحامية الأطفال، وانتشرت عبادتها في مصر وبين الرومان والإغريق، وقد زارت امرأة حامل تدعى “تليسوزا” في الحلم لتهدئ من روعها، فقد قلقت تليسوزا أن تضع أنثى ضد رغبة زوجها الذي كان يرغب في صبى ذكر، ولكن ايزيس طلبت منها أن تكمل حملها، وفى النهاية تلد ابنتها ايفيس التى تتم تنشأتها كصبى، فتكبر وتطلب من ايزيس أن تحولها إلى ذكر وتتم رغبتها وتتحول إلى ذكر.

من المؤكد أن اختلاط المصريين بثقافات مختلفة قد غير الكثير من الموروثات الثقافية وشكل الحياة الاجتماعية، مع فقدان الكثير مما تركه الأجداد ليساعد أجيالنا على فهم ما كان يجري منذ عصور، سواء اختلفت الأراء أم اتفقت، فتظل الضمائر الثلاثة في اللغة المصرية القديمة حقيقة يتفق عليها الجميع، فقد كان هناك الضمير المؤنث همت والمذكر تاي، والضمير سخت الذي عبر عن الهوية الكويرية.

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة