بينما لا تظهر أي مؤشرات على تمكن إسرائيل من تنفيذ هدف حربها الراهنة بالقضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة، تعتمد حكومة بنيامين نتنياهو -التي تواجه أعنف تصعيد ضدها داخليًا وعالميًا- سياسة الأرض المحروقة في الجنوب، حيث تحاول غسل يديها من فشلها الاستخباراتي والعسكري الكبير، بإلحاق أكبر تعداد للقتلى بين سكان القطاع، دافعة إياهم إلى حدود مصر، التي تخوض الدولة العبرية الآن حربًا أخرى معها تحت رماد غزة، عنوانها “التهجير”.
منذ هجمات حماس على مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر الماضي، شنت إسرائيل عدوانًا وحشيًا غير مسبوق على القطاع، خلف ما يزيد عن 18 ألف شهيد، وما يقرب من 50 ألف مصاب. وهو عدد مرشح للزيادة مع استمرار العدوان، الذي طال كل مدن القطاع، حتى الجنوب “المؤمّن” -بتعبير قادة الاحتلال- بعد أن طال الاجتياج البري مدنه، مع استئناف إسرائيل الحرب في أول ديسمبر الجاري، وإعلان فشل الهدنة المؤقتة.
اقرأ أيضًا: التهجير القسري.. جريمة حرب بالتعريف الدولي
مصر هدف إسرائيل الثاني من حرب غزة
“في 7 أكتوبر، صرحت الحكومة الإسرائيلية بأن هدفها هو القضاء على حماس، بينما يتضح على نحو متزايد أنها تسعى من هذه الحرب إلى تحقيق هدف ثانٍ: الطرد الجماعي للفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر”؛ يقول جوناثان أدلر، في تقرير نُشر نهاية أكتوبر الماضي بمركز “كارنيجي” للدراسات السياسية، مشيرًا إلى دعوة مبكرة من سياسيين إسرائيليين ومسؤولين في مؤسسة الدفاع إلى تنفيذ نكبة ثانية، حيث حثوا الجيش على تسوية غزة بالأرض، والضغط على مصر لقبول الفلسطينيين في أرضها.

ورغم أن العميد السابق أمير أفيفي والسفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة داني أيالون، أصرا على أن إجلاء الفلسطينيين من غزة هو مجرد إجراء إنساني، لحماية المدنيين، بينما تقوم إسرائيل بعملياتها العسكرية. فإن تقارير أخرى أكدت أنه سيتم إعادة توطين الفلسطينيين بشكل دائم خارج غزة، في عملية تطهير عرقي، كما يصفها زميل “كارنيجي” جوناثان أدلر.
وقد نشر معهد “مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية”، وهو مركز أبحاث إسرائيلي أسسه ويرأسه مسؤولون سابقون في مجال الدفاع والأمن، في 17 أكتوبر، ورقة بحثية تحث الحكومة الإسرائيلية على الاستفادة من “الفرصة الفريدة والنادرة لإخلاء قطاع غزة بأكمله” وإعادة توطين الفلسطينيين في القاهرة.
وبشكل منفصل، أوصت وثيقة مسربة من وزارة المخابرات الإسرائيلية بإعادة توطين الفلسطينيين من غزة قسرًا في شمال سيناء، وبناء منطقة عازلة على طول الحدود الإسرائيلية لمنع عودتهم.
الأزمة الاقتصادية.. ورقة الضغط “تسقط”
في دراسته بـ”مسغاف”، أوصى المحلل الاستراتيجي أمير ويتمان، بأن تستغل إسرائيل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر كورقة ضغط يمكن التعويل عليها، في محاولة لإقناع القاهرة بمخطط التهجير مقابل امتيازات مادية ضخمة.
وهو الأمر نفسه الذي أشار إليه الكاتب الإسرائيلي إيدي كوهين، وكان أول من طرح الفكرة، حين قال في تغريدة عبر موقع “إكس – تويتر”: “توطين الفلسطينيين في سيناء مقابل حذف ديون مصر الخارجية، فكروا فيها”، وتابع بأن “مصر ستقبل هذا الحل بسبب أزمتها الاقتصادية واحتمال دعم أمريكي للفكرة كما أنه لا يمكن منع دخول اللاجئين إلى حدودها”.
إلا أن هذا المخطط رفضته مصر بشدة في عدة تصريحات رسمية وعلى مستويات عدة، بدأت بالرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أعلن خلال لقاء جمعه بالمستشار الألماني أولاف شولتز بالقاهرة في أكتوبر، أن مصر تعي “أن ما يحدث في غزة الآن ليس عملًا ضد حماس، وإنما محاولة لدفع المدنيين إلى اللجوء والهجرة إلى مصر”، مؤكدًا أن تصفية القضية الفلسطينية أمر “في غاية الخطورة”، وأن بلاده لن تقبل أبدًا أن تتحول سيناء إلى منطقة جديدة للتوتر.
وقد أكد على أن ملايين المصريين مستعدون للوقوف خلف الدولة والنزول للشارع، رفضًا لفكرة تهجير الفلسطينيين من غزة. وهو ما حدث بالفعل في مظاهرات دعم القضية الفلسطينية التي انطلقت بالآلاف في القاهرة والإسكندرية للتأكيد على رفض المخططات الإسرائيلية بشأن غزة.
من التحذير إلى التهديد.. تصاعد تصريحات مصر
وفي كلمته في مؤتمر “تحيا مصر” في ستاد القاهرة أواخر نوفمبر الماضي، جدد السيسي رفض مصر “التهجير”، فقال: “إن التهجير القسري للفلسطينيين خط أحمر لا تقبله مصر ولن تسمح به”، بينما ندد باستخدام “منهج العقاب الجماعي وارتكاب المجازر كوسيلة لفرض واقع على الأرض بما يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطيني والاستيلاء على الأرض”.
وهو ما بدا كتصعيد في اللهجة المصرية مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، الأمر الذي وصل إلى حد أبعد مع وصول الاجتياج إلى الجنوب ونزوح عدد كبير من الفلسطينيين في اتجاه الحدود المصرية، وظهر تأثيره على تصريحات وزير الدفاع محمد زكي، أوائل ديسمبر الجاري، حيث أكد أن القضية الفلسطينية تمر حاليًا بمنحنى “شديد الخطورة والحساسية”.
وقد وصف وزير الدفاع المصري التصعيد العسكري الإسرائيلي في غزة بأنه “غير محسوب لفرض واقع على الأرض، هدفه تصفية القضية الفلسطينية”، مضيفًا: “لابد للسلام من قوة تحميه وتؤمن استمراره، فعالمنا اليوم ليس فيه مكان للضعفاء”. فيما بدا إشارة إلى استعداد القاهرة لمزيد من التصعيد، الذي تطور لاحقًا بتهديد مصري بـ”قطيعة في العلاقات مع إسرائيل”، إذا استمرت محاولات دفع الفلسطينيين إلى الحدود المصرية، كما نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي.
مخطط التهجير.. حلم إسرائيلي قديم
في تقرير لـ”أكسيوس”، يقول الباحث في شؤون الأمن القومي المصري، أحمد رفعت، إن مخطط التهجير وتفريغ الأرض من سكانها استراتيجية صهيونية قديمة، كانت ستنفذها إسرائيل إبان حربها مع مصر عام 1956، والتي عرفت باسم “العدوان الثلاثي”. وقد وردت تفاصيلها في كتاب “خنجر إسرائيل” الصادر عام 1957 للكاتب الهندي كارنجيا.
اقرأ أيضًا: التهجير إلى سيناء خط أحمر
يقول الباحث جوناثان أدلر، في تقريره بـ”كارنيجي“، إن هذه المقترحات ليست سوى الأحدث في تاريخ طويل من الخطط الإسرائيلية لإخلاء غزة وإعادة توطين الفلسطينيين في سيناء. فبعد حرب الأيام الستة، شن الجيش الإسرائيلي حملة قاتلة ضد حركات المقاومة الفلسطينية في مخيمات اللاجئين في غزة؛ وتم نقل 16 ألف فلسطيني ممن دَمرت إسرائيل منازلهم إلى العريش التي تحتلها إسرائيل، في حين تم نقل 12 ألف من أقارب الفدائيين الفلسطينيين إلى مخيمات جديدة في الصحراء.

وفي الآونة الأخيرة، قبل فك الارتباط الإسرائيلي عن قطاع غزة في عام 2005، اقترح رئيس الأمن القومي الإسرائيلي أن تقبل مصر نسبة كبيرة من سكان غزة مقابل الحصول على أراض في جنوب إسرائيل، وهو ما رفضه الرئيس المصري حسني مبارك.
وقد أعلن رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي أن مصر لن تتوانى في اتخاذ كل الإجراءات التي تضمن حماية وصون حدودها، مؤكدًا أن أي سيناريو يستهدف نزوح الفلسطينيين سيكون له رد حاسم من مصر وفقًا للقانون الدولي. مضيفًا أن مصر تنبهت للأمر منذ وقت طويل، فبدأت في إقامة المشروعات القومية، وكذلك تقوية وتسليح الشعب المصري.
هل شارفت ساعة إسرائيل على الانتهاء؟
بالأمس، ألمح الرئيس الأميركي جو بايدن إلى وجود خلافات في العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقد أكد أن رئيس الوزراء في “موقف صعب” وأنه كان لكل منهما نصيبه من الخلافات على مر السنين وفي الوقت الحالي.
وتناول بايدن، الذي كان يتحدث خلال حفل استقبال بالبيت الأبيض بمناسبة عيد يهودي، علاقته المستمرة منذ عقود مع نتنياهو. وأشار إلى ما كتبه على صورة قديمة لهما، قائلًا: “كتبت في الأعلى: بيبي (اسم يشتهر به نتنياهو)، أنا أحبك ولكني لا أتفق مع أي شيء لعين تعين عليك قوله”.

