الرغيف.. خلاف متجدد بين المخابز والتموين حول “عيش” الفقراء

لرغيف الخبز معاملة مختلفة في حياة المصريين.. سموه “عيشًا” لكي يكون معادلًا لمعنى الحياة والمعيشة، فلا وجود لها دون ذلك المخبوز المستدير، الذي يعتبر وجوده فقط عند بعض الأسر بمصر مع حفنة من الملح نعمةً تستوجب الشكر والحمد.

أيقنت الحكومات كثيرًا تلك القدسية، فتحاشت الاقتراب من تسعيره أو أي محرّك يتسبب في زيادة سعره، وتصدّت لأي مشكلات تعترض إنتاجه وأعطته الأولوية، لكن وزارة التموين الحالية لا تدرك تلك الثوابت، في ظل المشكلات المتراكمة التي تواجه المخابز البلدية.

منذ تحريك أسعار المحروقات يوم الجمعة 16 أكتوبر، تعاني مخابز إنتاج الخبز المدعَّم من تحمّلها فروق تكلفة الإنتاج، فالحكومة أكدت بقاء أسعار البيع عند مستوى 20 قرشًا، على أن تتحمّل التكلفة، لكنها لم توردها حتى الآن.

أعباء ثقيلة على المخابز

“ناجي. أ”، صاحب مخبز، قال إن المخابز البلدية تتحمل ما لا يمكن تحمّله من غلاء السولار المبالغ فيه، وكذلك غلاء مستلزمات الإنتاج من الخميرة وزيادة أجور العمال، وارتفاع أسعار الكهرباء والماء.

تؤكد وزارة التموين أن التكلفة الفعلية لإنتاج رغيف الخبز المدعَّم ارتفعت منذ رفع سعر السولار لتصل إلى 1.62 جنيه في المتوسط، ما يعني أن الوزارة ملتزمة بدفع 1.42 جنيه للمخابز عن كل رغيف، لضمان توفيره بسعره الثابت عند 20 قرشًا.

يصل عدد المخابز البلدية المدعَّمة إلى 30 ألف مخبز على مستوى الجمهورية، تنتج ما بين 250 و275 مليون رغيف يوميًا لنحو 64 مليون مواطن من حاملي البطاقات التموينية.

خالد صبري، المتحدث الرسمي للشعبة العامة للمخابز، يعتبر أن سرعة تعويض الوزارة عن فروق التكلفة يحافظ على استقرار عمل المخابز المدعَّمة، وسداد الديون المتراكمة، وضمان استمرار العملية الإنتاجية بما يحقق المصلحة العامة ويخدم المواطنين.

وفقًا لأصحاب المخابز، فإن بعضهم اضطر إلى الاقتراض لتغطية التكاليف لحين صدور القرار الوزاري من التموين بتغيير احتساب فروق الإنتاج (الفرق بين سعر بيع الرغيف وتكاليف إنتاجه).

قرار متأخر لحساب التكلفة

اعتاد أصحاب المخابز عند صدور أي زيادة في أسعار السولار المستخدم في تشغيل المخابز المدعَّمة، أن يزامنه قرار من وزير التموين والتجارة الداخلية بتحمّل الوزارة فرق تكلفة الإنتاج بشكل مباشر.

لكن صبري قال إنه منذ ارتفاع أسعار السولار الأخيرة، لم يصدر بعد أي قرار رسمي بشأن تحمّل الوزارة فارق التكلفة، الأمر الذي اضطر أصحاب المخابز البلدية المدعَّمة إلى تحمّل هذه الزيادة على نفقتهم الخاصة حتى يتم معالجة الموقف.

وبحسب الشعبة العامة للمخابز، فإن هذه الزيادة في أسعار السولار ترتب عليها تبعات إضافية تمثلت في ارتفاع أجور العمال وزيادة نولون نقل الدقيق من المطاحن إلى المخابز، ما زاد من الأعباء المالية على أصحاب المخابز.

قيمة دعم الخبز في الموازنة تبلغ 116 مليار جنيه، تمثل 72% من التكلفة الإجمالية لدعم السلع التموينية، وتستهدف الحكومة توفير 8.5 ملايين طن قمح في العام المالي الجديد 2025/2026، منها 7.9 ملايين طن موجهة لرغيف الخبز التمويني، و560 ألف طن لدقيق المستودعات، بإجمالي 116 مليار جنيه.

تكفي الـ7.9 ملايين طن لإنتاج 117 مليارًا و200 مليون رغيف خبز، لكن الدولة تراهن أن يكون السحب منها 83.6%، ما يعادل 100 مليار رغيف، على أن يستبدل المواطنون النسبة المتبقية (16.4%) بنقاط الخبز.

اقرأ أيضًا:
مشاهد من آخر طوابير “أبو شلن”.. الحكومة ترفع أسعار الخبز 300%
45 ضعفًا في 13 عامًا.. أنبوبة “حرقت” جيب مواطن

أعباء متغيرة لرغيف الخبز

حسام الجراحي، مساعد وزير التموين والتجارة الداخلية، يقول إن تكلفة إنتاج رغيف الخبز المدعَّم ليست ثابتة، ولكنها تتأثر بشكل مباشر بالمتغيرات العالمية، وعلى رأسها ارتفاع أسعار الطاقة والمواد البترولية مثل السولار، بالإضافة إلى أسعار القمح عالميًا.

كانت تكلفة الرغيف الواحد حتى 15 أكتوبر تقدَّر بـ1.52 جنيه، وارتفعت مؤخرًا إلى 1.62 جنيه، ويتم حساب فارق التكلفة بين السعر المدعَّم (20 قرشًا) والتكلفة الفعلية، ثم يُسدّد مباشرة في حساب أصحاب المخابز في صباح اليوم التالي.

يقول الجراحي إن منظومة الخبز المدعَّم تضم حوالي 30 ألف مخبز على مستوى الجمهورية، تنتج يوميًا ما يقارب 270 مليون رغيف، بإجمالي سنوي يصل إلى 100 مليار رغيف، وستتحمّل وزارة التموين 1.1 مليار جنيه قيمة فارق التكلفة السنوية بعد تحريك سعر السولار.

تراكمات مستمرة لإنتاج الرغيف

قبل زيادة السولار، نشب خلاف بين الدولة والمخابز حول تحديد سعر تكلفة إنتاج جوال الدقيق المدعَّم، فوزارة التموين قدّرته بسعر يتراوح بين 380 و410 جنيهات حسب نوع خط الإنتاج، بينما طالبت الشعبة العامة بألا يقل عن 500 جنيه نتيجة زيادة مدخلات الإنتاج.

أمام ذلك الخلاف، أعلنت الغرف التجارية، الجهة الشرعية الممثلة للمخابز، عن اختيار جهة محايدة على نفقة الاتحاد لإعداد تكلفة لسعر الرغيف، وعرضها على الحكومة لإقرارها بشكل موضوعي ومدروس.

اشتكى عبد الله غراب، رئيس شعبة المخابز، خلال لقاء بأحمد الوكيل رئيس الغرف التجارية أخيرًا، من التأمينات الاجتماعية التي يقول إنها فرضت غرامات أضعاف الدين نفسه على أصحاب المخابز، بخلاف محاضر التبديد التي تحرّر ضدهم، والتي تداولت بالمحاكم، وصدرت فيها أحكام قضائية.

لفت أيضًا إلى مشكلة ضرب البطاقات التموينية بالمحافظات، خاصة القليوبية وسوهاج والمنيا والجيزة، إذ تم فرض مبالغ بالملايين على أصحاب المخابز بالمضاعفة وبأثر رجعي، رغم إعفاء المخابز من تلك الغرامات منذ عام 2022.

يقول أصحاب المخابز إن هناك غرامات تحت اسم “صرف عدم صرف المقررات الخاصة للمواطنين أو حصتهم من الخبز”، رغم أنه لا توجد مخالفة تحت هذا المسمى، ولا يوجد نص تجريمي لها في القانون، وفقًا للشعبة.

منظومة تجريبية جديدة للتسعير

يشكو أصحاب المخابز من إجراءات إصدار التراخيص الجديدة وفقًا للقانون رقم 154 لسنة 2019 واللائحة التنفيذية، فالعديد من أصحاب المخابز سبق لهم استيفاء الشروط المطلوبة وسداد الرسوم السنوية اللازمة لتجديد التراخيص، بحسب شعبة المخابز.

طالبت الشعبة بإعفاء المخابز التي تحمل تراخيص سارية من التكاليف الإضافية التي تفرضها اللوائح الجديدة، فضلًا عن أن تشغيل المخابز يتطلب هامش ربح ثابتًا لمواجهة تكاليف الإنتاج، لكن استيفاء المتطلبات الحكومية يستنزف وقتًا ومالًا كبيرين.

خاطبت الشعبة وزارة التنمية المحلية لتطبيق استثناء خاص على المخابز المرخَّصة سابقًا، وتحويلها إلى نظام التراخيص الرقمية وفقًا للنظام الجديد دون تحميل أصحابها أعباء مالية إضافية، مع استعدادهم لسداد رسوم إصدار التراخيص، ما يعزّز استمرارية عمل المخابز وتحقيق استقرار الخدمة للمواطنين.

لا يهتم المواطن بخلافات التموين والمخابز، فكل ما يهمه هو الرغيف وجودته، وهو محل شك من محمد عبد المولى، موظف سابق بشركة النيل للمجمعات الاستهلاكية، إذ يشكو من عدم التزام المخابز بوزن الرغيف، فرغم تخفيضه قبل سنوات من 110 جرامات إلى 90 جرامًا وتعديل سعره من خمسة قروش إلى عشرين قرشًا، فإن المخابز غير ملتزمة بالتسعين جرامًا.

تراهن وزارة التموين في مواجهة مشكلات الرغيف على منظومة جديدة للخبز المدعَّم (منظومة الخصم المباشر)، والتي تم تطبيقها في 16 أبريل 2025 بمحافظة بورسعيد بشكل تجريبي، على أن يتم تعميمها فيما بعد، تمهيدًا لتطبيق الدعم النقدي.

تستهدف منظومة الخصم المباشر وضع آليات تسعير عادلة تعكس التكاليف الفعلية للإنتاج، خاصة في ظل التغيرات التي يشهدها السوق المحلي بأسعار مستلزمات التشغيل والنقل، مع ضرورة ضمان عدم المساس بحقوق المواطنين أو تعريض أصحاب المخابز للخسائر.

لم تكن تسمية المصريين الخبز “عيشًا” من سبيل الصور البلاغية، فهو مسمّى فرض نفسه على حياتهم، إذ إن 90% من الأسر المصرية تستهلك الخبز البلدي المدعَّم في غذائهم بشكل عام، و60% يعتمدون عليه بشكل أساسي.

ووفقًا لنتائج مرصد أحوال الأسرة المصرية، يبلغ متوسط استهلاك المصريين للخبز البلدي نحو 4 أرغفة للفرد يوميًا، وإجمالي الاستهلاك السنوي للفرد نحو 1360 رغيفًا، ما يعني أنه حاضر في غذاء المواطن منذ الصباح وحتى النوم.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة