أعاد الرفع المتتالي لأسعار أنبوبة البوتاجاز الحياة لأفران الخبز الطينية بقرى المحافظات الريفية مجددًا، أملًا في تخفيض التكاليف والأعباء اليومية المتزايدة.
أمام منزله، يقف أحمد أبو العلا في بركة من الطين والتبن (قش القمح المطحون)، يمزجها بيديه ليحوّلها إلى خليط متجانس يُستخدم كمادة بناء بين قوالب الطوب الأحمر، في مشهد كان قد اندثر في الريف منذ عقود.
بعد تعتُّن الخليط الطيني، يشرع “أبو العلا” في تأسيس بناء مربع الشكل بفتحة صغيرة من الأمام مخصصة للحطب. يضع عليه قطعة من الحديد ثم يصنع قبوًا في النهاية فوق تلك القطعة الحديدية، ليصبح جاهزًا للاستخدام كبديل عن فرن يعمل بأنابيب البوتاجاز.
يقول أبو العلا إن فرن الغاز يستهلك حوالي أنبوبتين في الشهر على أقل تقدير، وثالثة للبوتاجاز، ما يصل سعره 750 جنيهًا تُخصم من ميزانية أسرته لبند أنابيب البوتاجاز وحدها. وهو مبلغ لا يستطيع عامل في مزرعة دواجن بيومية 120 جنيهًا تحمّله.
يجذب رفع أسعار البنزين اهتمام الشارع المصري، بينما تظل الأنبوبة لاعب ظل لا يشعر به إلا الريفيون ومنازل المدن التي لم يطرق بابها الغاز الطبيعي بعد، ومعها مزارع الدواجن التي تعتمد عليه في تدفئة عنابر الإنتاج في فصل الشتاء.
في كثير من قرى الريف، وصلت خطوط الغاز إلى مداخل المنازل، لكن لم يتم ضخ الغاز الطبيعي بها بعد.
الاعتماد هنا فقط على الأنبوبة التي تُباع في المستودعات بـ225 جنيهًا حاليًا، دون التوصيل الذي يرفع سعرها ما بين 250 و300 جنيه، حسب المنطقة.

وفقًا للبيانات الحكومية، تم تنفيذ شبكات الغاز الطبيعي بـ 926 قرية، منها 723 قرية يتم تنفيذ الشبكات الداخلية والخارجية لها، وعدد 203 قرى يتم تنفيذ شبكات الغاز الخارجية فقط بها، بينما تستهدف الوزارة رفع العدد إلى 1450 قرية موزعة على جميع أنحاء الجمهورية.
ترى وزارة البترول أن توصيل الغاز الطبيعي للمنازل يوفر عليها أكثر من 2 مليار جنيه من استيراد غاز البوتاجاز لغرض ملء الأسطوانات، إذ يبلغ الاستهلاك اليومي منها مليونًا و200 ألف أسطوانة يوميًا.
ويصل حجم الاستهلاك السنوي من غاز البوتاجاز إلى حوالي 4.3 مليون طن، وذلك بعد تراجع معدلات الاستهلاك بنسبة 12% في عام 2022 مقارنة بعام 2016، بنسبة تعادل 5% سنويًا نتيجة زيادة معدلات توصيل الغاز للمنازل.
وقد تم رفع عدد الوحدات التي تم توصيل الغاز الطبيعي لها إلى 14.5 مليون وحدة سكنية، ما يرفع عدد المستفيدين من خدمة الغاز الطبيعي الحضارية لأكثر من 62 مليون مواطن، بحسب بيانات وزارة البترول.
التطور غير الطبيعي لسعر الأنبوبة
أنبوبة البوتاجاز هي أحد أهم المحروقات التي ارتفعت على مدار العقد ونصف العقد الماضي، إذ سجل سعر الأسطوانة حتى عام 2010 حوالي 2.5 جنيه داخل المستودعات، ثم تتضاعف في 2012 إلى 5 جنيهات بزيادة 100%، ثم 8 جنيهات في 2013 ليقفز مرة أخرى في 2016 إلى 15 جنيهًا بزيادة 87.5%، قبل أن يتضاعف مجددًا إلى 30 جنيهًا في 2017.
وفي 2018 سجلت الأنبوبة 50 جنيهًا، ثم 65 جنيهًا في 2019، فـ 70 جنيهًا في 2021، ثم 75 جنيهًا في 2023، فـ 100 جنيه في مارس 2024، ثم 150 جنيهًا في سبتمبر 2024 بزيادة 50%، لتسجل في 2025 مستوى 200 جنيه بزيادة 50% مجددًا، وأخيرًا قفزت قبل أيام إلى 225 جنيهًا.
هذه الزيادات المستمرة والمتصاعدة بررتها وزارة البترول بأن زيادة سعر الأسطوانة هو ارتفاع تكلفتها إلى 130 جنيهًا في 2017، ثم 380 جنيهًا في 2024.
الأمر أكبر من مجرد أنبوبة
لا تقل الموجات التضخمية التي تسببها زيادات أنابيب البوتاجاز عن باقي المحروقات، حتى وإن كانت خافتة في الظل على عكس السولار، إذ تتحكم في حياة المواطنين بشكل مباشر وغير مباشر، خاصةً “طبق الفول”.
على عربة فول في منطقة الجيزة، يدور الحديث منذ رفع سعر أنبوبة البوتاجاز حول أسباب رفع سعر “شقة الفول البلدي” من 6 إلى 7 جنيهات. يؤكد صاحب العربة “أسامة فولة” – كما يُسمي نفسه – أن الأنبوبة التجاري تصل إلى عربته بـ500 جنيه.
المخابز الحرة أيضًا رفعت أسعار الخبز للسبب نفسه، إلا أنه ليس السبب الوحيد. هناك مبرران لهذا الأمر فيما يتعلق بالخبز؛ الأول كثافة استهلاك الأنابيب، وثانيًا السولار الذي تعتمد عليه المخابز في توصيل الدقيق وباقي مكونات الإنتاج.
وبحسب خالد صبري، المتحدث باسم شعبة المخابز العامة باتحاد الغرف التجارية، فإن أي زيادة في سعر السولار تؤدي تلقائيًا إلى ارتفاع أسعار الكثير من مدخلات الإنتاج، وعلى رأسها العمالة والنقل من المطاحن إلى المخابز، لكن يحد من ارتفاع الأسعار انخفاض سعر الدقيق وتوافره في الفترة الأخيرة.
ويضيف صبري أن الرغيف الذي كان يُباع بـ2 جنيه سيصل سعره إلى 2.25 جنيه، أما رغيف الخبز المدعوم فلن يشهد أي زيادة على الإطلاق، لأن الحكومة تتولى تعويض أصحاب المخابز التموينية عن فارق زيادة سعر السولار بأثر رجعي، وبشكل نقدي مباشر.
وقد قدمت شعبة المخابز مذكرةً رسميةً تطالب بإعادة النظر في “تكلفة إنتاج” رغيف الخبز المدعم من 390 جنيهًا للشوال إلى 450 جنيهًا، لأن كل المدخلات ارتفعت أسعارها، وتتم دراسة المذكرة حاليًا تمهيدًا لإصدار القرار خلال 10 أيام، مع استمرار بيع رغيف الخبز المدعوم للمواطن عند 20 قرشًا.

مزارع الدواجن.. الأنابيب كالعلف والمياه
في الشتاء، يحتاج عنبر إنتاج الدواجن الواحد إلى 5 أنابيب يوميًا من أجل تدفئة الكتاكيت، أي أن المزرعة التي تضم ثلاثة عنابر تحتاج إلى 300 أنبوبة بوتاجاز لتوفير الدفء بكل منها بمعدل 100 أنبوبة للعنبر في الدورة الواحدة للدجاج حتى سن 45 يومًا، وهو السن الجاهز للبيع.
الدكتور عبد العزيز السيد، رئيس شعبة الدواجن بالغرفة التجارية بالقاهرة، يقول إن ارتفاع أسعار الوقود يظهر بشكل أكبر في فصل الشتاء، بسبب الحاجة الماسّة إلى التدفئة في المزارع، التي تعتمد على السولار أو الغاز، مضيفًا أن مزارع الصعيد تحتاج إلى تدفئة ما بين 6 و10 ساعات فقط، لكن في المناطق الشمالية قد تستمر لـ24 ساعة، ما يرفع التكاليف بشكل متفاوت.
وتتركز معظم مزارع الدواجن في مصر بالدلتا، فمحافظة الشرقية تستحوذ على العدد الأكبر بإجمالي 5800 مزرعة، تليها محافظة القليوبية بإجمالي 2500 مزرعة، ثم البحيرة والغربية والدقهلية، وبطبيعة الحال تستحوذ تلك المحافظات أيضًا على النسبة الأكبر من مصانع إنتاج الأعلاف ومفارخ الكتاكيت.
تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى الإجهاد الحراري للدواجن وانخفاض النمو وإنتاج البيض وقد تؤدي إلى النفوق، والأمر ذاته ينطبق على درجات الحرارة الباردة، ما يتطلب توفير درجة حرارة ثابتة في العنابر بين 25 و34 درجة صيفًا وشتاءً.
أضاف السيد أن أي زيادة في مستلزمات الإنتاج تؤدي إلى زيادة في الأسعار بنسب تتراوح بين 2% و5%، مشددًا على أهمية الحفاظ على استقرار صناعة الدواجن باعتبارها مصدر البروتين الحيواني لجميع المواطنين، إلى جانب أنها صناعة حققت فيها الدولة الاكتفاء الذاتي بإنتاج 1.6 مليار دجاجة و16 مليار بيضة سنويًا.
لماذا الزيادات الضخمة؟
مصطفى عادل، الخبير الاقتصادي، يكتفي بالتعليق على ارتفاع سعر الأنابيب بذكر إحصائية واحدة تجيب عن كل التساؤلات، قائلًا إن أنبوبة البوتاجاز ارتفعت خلال 13 سنة بمقدار 45 ضعفًا، ما يعادل 4400%، وبمقارنتها بالحد الأدنى للأجور نجد أن الحد الأدنى كان يعادل 240 أنبوبة، وحاليًا يعادل 31 أنبوبة فقط.
لكن د. أسامة كمال، وزير البترول الأسبق وعضو مجلس الشيوخ، يؤكد في تصريحات صحفية أن “البوتاجاز” يُستورد 50% منه من الخارج، بتكلفة تتراوح بين 900 و1000 دولار للطن، بينما متوسط سعر البوتاجاز المنتج محليًا 300 دولار للطن، موضحًا أن مصر تستهلك ما بين مليون ومليون ونصف أنبوبة بوتاجاز يوميًا.
تتحدث الحكومة كثيرًا عن أنها نجحت في حل الاختناقات المعتادة في أنابيب البوتاجاز، التي كانت تتكرر في نوفمبر من كل عام، بعد تجهيز 7 موانئ لاستقبال شحنات البوتاجاز على مستوى الجمهورية، بجانب زيادة السعات التخزينية له من 77.7 ألف طن عام 2014 إلى حوالي 220 ألف طن نهاية عام 2022.
أضاف كمال أن متوسط السعر في إجمالي الاستهلاك ما بين 630 و650 دولارًا للطن الذي يملأ 80 أنبوبة، ومن ثم تبلغ تكلفة الأنبوبة الواحدة نحو 8 دولارات، أي ما يعادل نحو 380 جنيهًا للأنبوبة الواحدة (أي أن الدولة لا تزال تدعم الأنبوبة الواحدة بـ155 جنيهًا).
الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، أكد على فكرة دعم الأنبوبة أكثر من مرة، آخرها في مارس الماضي، حينما قال إن الحكومة لديها خطة لرفع الدعم التدريجي بنهاية 2025، لكن سيكون هناك دعم لأنبوبة البوتاجاز، دون أن يحدد قيمة ذلك الدعم الذي يواصل التقلص باستمرار أو يتعرض للتغيير وفقًا لحسابات سعر الصرف وتقلبات الأسعار العالمية.
