إن الوقوف أمام عمل أدبي يحمل عنوانًا مثل “أريد أن أموت، ولكن أريد أن آكل التوكبوكي” يضع القارئ مباشرة أمام صراع الإنسان الداخلي بين الرغبة في الانطفاء والتشبث بالحياة، فالعنوان يختصر تجربة وجودية شديدة الصدق، تعكس هشاشة النفس ومحاولتها المستمرة للعثور على سبب بسيط للبقاء.. إنه اعتراف صريح لا يتجمل ولا يدعي القوة، ولكنه يواجه الألم كما هو، دون رتوش.. في كل صفحة من الكتاب نلمس هذا التناقض الإنساني العميق: الحزن الذي لا يُلغي الرغبة، واليأس الذي لا يمنعنا من البحث عن لحظة دفء عابرة. إن قراءة هذا العمل تشبه الإصغاء لاعترافٍ هادئ صادر عن شخصٍ قرر أن يتكلم ويروي بدلًا من أن يستسلم ويصمت.

يلامس هذا الكتاب مناطق حقيقية في النفس البشرية، إذ كتبت بايك سي-هي Baek Se-hee بوضوح وبساطة عن لحظات الضعف التي يمر بها الإنسان حين يتأرجح بين الرغبة في الانتهاء والحاجة للاستمرار، كما كتبت عن الاكتئاب كتجربة يومية يعيشها شخص يحاول أن يفهم نفسه دون تزييف، تسجل تفاصيل العيش في تلك المساحة الرمادية بين الألم والرغبة، وتكشف كيف يمكن لأبسط الأشياء، مثل وجبة طعام، أن تصبح سببًا مؤقتًا للتمسك بالحياة.
سوف تشعر بثقل هذه الكلمات وعمقها، وثقل الرغبة في التوقف عن الوجود مقابل خفة الرغبة في تناول طبق من “التوكبوكي” الساخن واللاذع. إنها معركة داخلية يومية لا يفهمها إلا من خاضها، وقد جاءت سي-هي لتعلن بصوتٍ عالٍ أن هذا القتال ليس فرديًا ومنعزلًا، لكنه جزء أصيل من تكوين النفوس المنهكة. هذا الصدق الجارح في الكشف عن التناقض هو ما جعل الكتاب أيضًا خالدًا ومؤثرًا في قلوب الملايين حول العالم.
نُشر هذا الكتاب بلغته الأصلية -الكورية في 2018- وتم ترجمته إلى أكثر من 25 لغة أخرى منها: الإنجليزية والإسبانية والإيطالية،… وترجمته دار نشر “المحروسة” هذا العام للمترجم عماد العتيلي.
ولهذا الكتاب تأثيرٌ يمنح القاريء شرعيةً لتلك المشاعر المُحيرة التي غالبًا ما يكبتها الإنسان بداخله، لأنه لم يتعلم أن مشاعره يجب أن تكون واضحةً ومتسقةً؛ إما فرحٌ كاملٌ أو حزنٌ مطبقٌ. لكن سي-هي تكسر هذه القاعدة، معلنةً أن المرء يمكن أن يكون في أشد لحظات اليأس ومع ذلك يضحك على نكتة أو يشتهي طبقًا، وهو ما يعد تجلٍ لتعقيد النفس البشرية وعمقها الذي يتجاوز التصنيفات الجامدة.
اقرأ أيضًا: الكتابة كصورة.. الذاكرة البصرية في السرد المصري
صراع اكتئاب الخفة.. وإضاءة العُزلة
تُصارع الكاتبة -كما تُفصل في كتابها- ما يعرف بـ “اكتئاب الخفة أو اضطراب الاكتئاب المزمن -Dysthymia”، وهو نوع من الاكتئاب الخفيف ولكنه دائم ومزمن، يُلقي بظلاله الرمادية على الحياة اليومية دون أن يصل إلى حد الاكتئاب الحاد. هذا التشخيص يُمثل إزاحة للستار عن معاناةٍ صامتةٍ يعيشها كثيرون ممن تبدو حياتهم طبيعية من الخارج، بينما تنخرهم حالة من الفراغ المستمر وقلة الدافعية.
لقد أكدت سي-هي، أن الاكتئاب والقلق هما من المشاعر التي لا تتسامح معها المجتمعات بسهولة، خاصةً في كوريا، فالمرض النفسي لا يزال يُعامل كعيبٍ أو ضعفٍ في الشخصية، ما يُجبر المُصابين على مراجعة ذواتهم باستمرار، والاهتمام المفرط بما سيعتقده الآخرون عن حالتهم الداخلية.. إن هذا النبذ الاجتماعي يُضاعف من عبء المرض ذاته ويُعمق إحساس المريض بالوحدة والعُزلة القاتلة.
تُقدم الكاتبة من خلال صفحات الكتاب شعورًا بالطمأنينة والمواساة لمن يعيشون التجربة ذاتها، ويُعتبر هبة لا تُقدر بثمن، فتتحدث وكأنها تهمس في آذانهم: “لستَ وحدك في هذا النفق”، وهذا الاعتراف المتبادل يُمثل جسرًا نفسيًا يربط بين الأرواح المُتعَبة ويُخفف من وطأة العزلة، أحد أشد أعراض الاكتئاب إيلامًا. وكان هدفها النبيل إيجاد نقاط اتصال مع الآخرين الذين يشعرون بذات الطريقة.
أيضًا، من أهم الرسائل التي أرادت إيصالها هي أن الاكتئاب ليس سوى “مرض” كأي مرض جسدي آخر، مركزةً على أن العقل هو الذي يمرض وليس الشخص بأكمله. إنها دعوة صريحة لعدم الشعور بالإحراج، أو كره، أو تجاهل الأجزاء المُظلمة والصعبة عاطفيًا داخل الذات، مشددةً على ضرورة الرعاية الذاتية والاعتناء بالذات المنهكة في نهاية المطاف.
الكتابة كتجل للعلاج النفسي والشفاء
يتميز الكتاب ببنية مباشرة وغير تقليدية، إذ يتكون من حوارات حقيقية دارت بين الكاتبة بايك سي-هي وطبيبها النفسي على مدار عامين. تنقل هذه الجلسات كما هي، دون تزيين أو دراما، ما يمنح النص طابعًا توثيقيًا صادقًا، تعرض مسار العلاج النفسي كرحلة واقعية فيها تردد وهدوء، دون الاكتفاء بالانكسار أو الانتصار مطلق، فالأسلوب الحواري يُسهل على القارئ التفاعل مع التجربة وكأنه حاضر في الغرفة، يشارك لحظات الفهم البسيطة والتأمل الصامت. ومن خلال هذا الشكل، يحقق الكتاب توازنًا بين البوح الشخصي والطرح الإنساني، مقدمًا نظرة صافية إلى هشاشة النفس ومحاولتها المستمرة للفهم والتعايش.
وكان الجزء المفضل لدى الكثيرين، بما فيهم الكاتبة نفسها، هو تلك الصفحات التي تُلحق بكل فصلٍ، والتي تُقدم تأملاتها الخاصة وأفكارها الإضافية بعد كل جلسة، وفي هذه الملاحظات الشخصية، تظهر قدرتها الفائقة على الاستبصار والتحليل الذاتي، مُحولةً تجربة العلاج من مجرد حوار إلى عملية فهم وتعلم مستمرة وتطبيق عملي خلال الأسبوع، ما يجعل الكتاب دليلًا عمليًا للقارئ.
ومن الاقتباسات أيضًا، تلك الجملة التي تتعلق بقبول الذات: “أن تكون غير كاملٍ أمر لا بأس به، وأن تكون أخرق أمرٌ لا بأس به.. لستَ مضطرًا لأن تُجبر نفسك على الابتهاج.. يمكنني أن أكون على ما يرام اليوم، أو ألا أكون كذلك.. ستكون تجربةً في الحالتين، وهذا كافٍ”. بهذه الكلمات تُقدم الكاتبة تصريحًا قويًا بالمرونة البشرية، وتُعلم القارئ أن الحياة ليست سباقًا نحو الكمال المطلق الذي لا يُمكن بلوغه أو ادعائه.
وفي خطوةٍ جريئةٍ وملهمة، أتاحت سي-هي مساحةً في كتابها لصوت الطبيب النفسي، مقدمةً بذلك وجهًا آخر للقصة، يظهر هذا المنظور في مقاطع متفرقة، يشارك فيها الطبيب تأملاته وتحليله لجلسات العلاج، بما يُذكر القارئ بأن العلاج النفسي ليس طريقًا ذا اتجاهٍ واحد، بل حوار متبادل ومسيرة فردية تختلف من شخصٍ إلى آخر، دون وجود طريقة “صحيحة” أو “خاطئة” مطلقة للتعافي.
ووصف النقاد هذا العمل بأنه تصوير صريح وغير مبتذل لعقلٍ يشتكي ويُسابق نفسه، حيث نجحت سي-هي في تجريد الحديث عن المرض النفسي من أي بهرجة أو محاولة للإثارة، مركزةً على التفاصيل اليومية المرهقة للمعاناة المزمنة.
وقد أثنى عدد من النقاد على شفافيتها في تناول تجربتها مع الاكتئاب، معتبرين أن الكتاب يقدم قوة في وصف الحياة العادية كمصدرٍ للتوازن والراحة، كما ذكرت مراجعات في موقع Medium وThe StoryGraph أن هذه الواقعية الهادئة جعلت العمل موردًا روحيًا ومصدر مواساةٍ للقارئ أكثر من كونه مجرد مذكرات شخصية، إذ يقدم تجربةً صادقة ومألوفة لمن يعيشون في الظل بين الألم والرغبة في الاستمرار.

كانت سي-هي تصف الكتابة بأنها وسيلة لفهم الذات، تساعد الإنسان على رؤية نفسه من زوايا مختلفة، وقالت في إحدى مقابلاتها: “إنها طريقة لرؤية نفسك بشكل ثلاثي الأبعاد”، بدأت رحلتها مع هذا النوع من الكتابة حين استخدمت مدونتها الشخصية لنشر مقتطفات وتأملات مقتبسة من ملاحظات جلساتها العلاجية، في محاولة لتصوير مشاعرها اليومية بصدق ودون تزييف. وقد وجدت هذه التدوينات صدى واسعًا لدى القراء عبر الإنترنت، لما حملته من صدق وبساطة في تناول مشاعر الاكتئاب والقلق، وهو ما شجعها لاحقًا على تحويل تلك التدوينات إلى عمل منشور ذاتيًا، قبل أن يتحول إلى أحد أبرز كتب التجارب النفسية في كوريا الجنوبية.
اقرأ أيضًا: الترجمة الأدبية العربية.. مقاومة ضد ضمور اللغة
إرث سي-هي..
تُعرف عن نفسها بتواضعٍ بأنها “شخص عادي” عملت في دار نشر لمدة خمس سنوات، وأنها محبة للـتوكبوكي والكتب والكتابة. هذا التقديم البسيط لشخصيتها يُناقض التعقيد العميق لعملها، ويؤكد على أن الأعمال الأدبية قد تنبع من أكثر التجارب الإنسانية عاديةً، وأن الصدق هو مفتاح التأثير.
لم تتوقع أن يحظى كتابها، الذي بدأ “نشر ذاتي”، بكل هذه الشعبية الهائلة التي امتدت حول العالم، فلقد أشارت إلى أن العنوان هو العنصر الأهم في جذب القراء؛ إذ وجدوا فيه تعاطفًا فوريًا. هذا العنوان الجذاب أثبت أن الجمع بين الهشاشة الوجودية والشهية الغريزية هو الوصف الأمثل للحالة الإنسانية المعاصرة والمنهكة.
وكتبت ذلك العمل بدافع واضح هو أن تجد من يشبهها في الشعور.. أرادت أن تقول ببساطة “أنا هنا”، لتمنح الآخرين فرصة التعرف على أنفسهم في تجربتها.. فهدفها التواصل الصادق مع من يعيشون الاكتئاب في صمت.
كانت الكتابة بالنسبة لها وسيلة للفهم، وطريقة لإثبات أن الحديث عن الضعف لا يقل شجاعة عن تجاوزه، حلمت منذ طفولتها بتأليف كتاب، لكنها لم تدرك إلا لاحقًا أن تجربتها مع الاكتئاب هي أكثر ما تستطيع الكتابة عنه بصدق، وهكذا وُلد العمل من الحاجة إلى المشاركة، ومن الإيمان بأن مواجهة الألم تبدأ بالاعتراف به.

وفي ختام كتابها، تُركز على مفهوم “تحويل النظرة”؛ أي إعادة توجيه البصر الداخلي من زاوية اليأس إلى الأمل، ومن الشعور بعدم الارتياح إلى البحث عن قدرٍ من الطمأنينة. فتدعو القارئ إلى أن يتخلى عن هوسه بما هو “مفيد” وفق مقاييس الإنتاج والكمال، وأن يمنح نفسه مساحة للأشياء “غير المفيدة” التي تُنعش الروح وتُعيد لها جمالها الداخلي.
ترى سي-هي أن هذا التحول يعد عملية واعية لتبديل منظور الحياة، خطوة بعد أخرى، حتى يصل الإنسان إلى منطقة من الهدوء الذاتي والقبول. وهذه الفكرة تُلخص تجربتها في العلاج والكتابة، وتُشكل الرسالة الأعمق للكتاب: أن التغيير يبدأ حين نُغير نظرتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا.
ولقد نبهت إلى خطورة تقييم الذات وقمعها بمقياس المجتمع والآخرين، مُشددةً على أن الإرهاق العاطفي ليس فيه “أكثر” أو “أقل” عندما تشعر بالتعب فأنت متعب، وعندما تشعر بالاكتئاب فأنت مكتئب. ويجب عدم مقارنة الذات بالآخرين، بل التركيز على المشاعر الخاصة وقبولها كما هي، دون لوم أو محاولة للمقارنة الاجتماعية التي تزيد من العبء.
الصفحة الأخيرة من حياتها: تبرعٌ بالحب من قلبٍ أنهكته الحياة
رحلت الكاتبة الكورية الجنوبية بايك سي-هي عن عالمنا مؤخرًا، الخميس الماضي 16 أكتوبر، في الخامسة والثلاثين فقط. بعد أن تركت بصمة عميقة في نفوس الملايين حول العالم ولم تُكشف تفاصيل وفاتها التي أدت إلى دخولها حالة الموت الدماغي، لكن إرثها امتد ليشمل أعمالًا أخرى.
وفي مشهد أخير من الكرم الذي يعكس التعاطف الذي بثته في كتاباتها، أفادت الوكالة الكورية للتبرع بالأعضاء أنها تبرعت بأعضائها: القلب والرئتين والكبد والكليتين، في عمل إنساني نبيل أنقذ حياة خمسة أشخاص. وبهذا الفعل، لم تكتفِ بإنارة حياة الناس بكلماتها، حيث منحتهم حياة جديدة بفضل سخائها اللامحدود بعد رحيلها.
ويعلم قراؤها، كما صرح مترجم أعمالها إلى الإنجليزية أنطون هور، أنها أثرت في حياة الملايين من خلال كتاباتها التي طبعت مفاهيم الهشاشة والمرونة. لقد أصبحت بايك سي-هي، بتناقضها الإنساني الصادق وعملها الأخير الذي أنقذ أرواحًا، رمزًا لـ “قوة الحب والعاطفة” التي فضّلتها على العقلانية، وتركت إرثًا يتجاوز حدود الأدب ليصبح منارة أمل ودفء.

نُشر هذا الكتاب بلغته الأصلية -الكورية في 2018- وتم ترجمته إلى أكثر من 25 لغة أخرى منها: الإنجليزية والإسبانية والإيطالية،… وترجمته دار نشر “المحروسة” هذا العام للمترجم عماد العتيلي.