وردة تتكئ على يمين ورشة النجارة، وأخريان تزينان ما تطالانه من زجاج ضلفتَي صالون الحلاقة المجاور. ثلاث وردات في إحدى حارات السيدة زينب العتيقة، ينالها يوميًا ما جادت به مياه تروي بلاط الحارة، وجردل بلاستيكي أخضر يسميه الصديقان “مبروك”، حيث تفوح رائحة الورد الممزوجة بالماء، إيذانًا بيوم سعي جديد في حياة عم فتحي وعم محمود.
تفاؤل قد يراه البعض خيالًا، يعتنقه الصديقان فلسفةَ حياة يؤمنان أنها الباقية في مواجهة الأيام.
“زي ما تبص للدنيا، الدنيا هتبصلك. هاتفتح عينيك على كلمة طيبة هاتلاقي اليوم كله طيب، أما والعياذ بالله، لما تفتحهم على كلمة أو حاجة مش كويسة، ابقى قابلني بقى لو لقيت حاجة كويسة”. هكذا هو طقسهما الصباحي منذ سنوات كفا عن عدها، وارتضيا المآل. “أمال إحنا بنصبح على بعض بصباح قشطة، وصباح أبيض ليه؟ وبنرش مية قدام محلات أكل عيشنا ليه؟ إحنا بنشتري الطيب بالطيب”.
أربعون عامًا “في وش العاصفة”
ما بين ورشة نجارة لا تتجاوز 20 مترًا، وصالون حلاقة بالكاد يبلغ 9 أمتار، صداقة وجيرة تمتد لأكثر من أربعين عامًا. عجوزان أكل الدهر على شيبهما وشرب، يعدّان إفطارهما معًا في انتظار زبون قد يأتي أو لا. لا يهم، هذه عادتهما التي عنها ما تخليا، وهذا ثباتهما الذي يبدو الآن كجسديهما في مواجهة عاصفة مزدوجة الارتطام تضربهما بتضخم اقتصادي يلتهم قيمة العمل، وقانون إيجار قديم محدّث يهدد بإلقائهما خارج محليهما، ومأواهما الأخير.

كان طرشي.. وبقى نجارة
بعد الفطور، يبدأ شاي الذكريات. يتذكر عم فتحي والده، الذي كانت ورشته هذه في الأصل محلًا لصنع وبيع المخلل. “أبويا كان أكبر طرشجي في المنطقة، كان بيعمل الطرشي في براميل خشب، بتاعة زمان، ويطلع يبيعه قدام جامع السيدة زينب.. اللي بناكله اليومين دول مش طرشي، تعالى شوف الطرشي بتاع زمان”.
على الضفة الأخرى من الذكريات، يجلس عم محمود الحلاق. لقد ورث هذه المهنة عن أبيه. “أنا حلاق ابن حلاق”؛ يقولها بافتخار يليه استسلام للواقع: “بس خلاص راحت علينا”.
يرى عم محمود أن موضات اليوم غريبة على مهنته الأصيلة. “الشباب دلوقتي كلهم بقوا يدوروا على اللي يحلقلهم عالموضة، بيعملوا حاجات غريبة في شعرهم، حاجات كانوا بيعملوها حلاقين الحمير زمان، زي سيف ع الجنب، وسكينة ع الجانبين وأحجبة ومثلثات، حاجات أجارك الله منها”.
حلاق ابن حلاق.. وصبي نجار
عم فتحي وعم محمود قصتان مختلفتان ربما، إلا أن المكان والزمان الطيب يجمعانهما.
عم فتحي، ليس بالطويل أو القصير، بانحناءة بسيطة في ظهره ووجه مشوب بالحمرة. شعره أبيض منذ 40 عامًا تقريبًا، وأغلب أسنانه سبقته الرحيل، وهو “يدق مسمارًا هنا، ويخلع غيره من هناك”. لم يفكر يومًا في تركيب طقم أسنان بديل. فلسفته في ذلك لا تختلف عن فلسفته في الحياة: “هي سناني طلّعت عيني، وهيّ بتقع وحدة ورا التانية، هاروح احط سنان تاني مكانها تطلع عيني برضه”.
اقرأ أيضًا: مالك ما أخدش حاجة.. حكايات الإيجار القديم
كان تلميذًا مجتهدًا، لكنه أحب النجارة. ترك المدرسة في الصف السادس الابتدائي ليعمل صبي نجار، وبعد وفاة والده بفترة قصيرة، صار هو المسؤول. يقول: “فضلت لحد ما كملت 20 سنة صبي نجار، وبعدين بقيت أسطى اشتغلت في ورش كتير، لحد ما فتحت محل أبويا وخليته ورشة نجارة”.
على عكسه لم يدخل عم محمود، الأسمر الهزيل الذي تخطى الستين، مدرسة قط، لكنه يحرص على متابعة أخبار العالم من راديو قديم قِدم المحل الذي ورثه. كان هو وفتحي يلعبان “الكورة الشراب” في الساحة التي ضُمت لاحقًا لمسجد السيدة زينب، في شارع لا يزال الأهالي يسمونه “شارع السد”، رغم أن الحكومة أطلقت عليه اسم يوسف السباعي.

نجار بريمو.. بس الخشب غلي
تلك الأيام التي كانت فيها “المنطقة ريحتها حلوة” و”المزاج رايق” باتت ذكرى بعيدة الآن. يتذكر عم محمود: “كنا كلنا بنفتح حوالي الساعة 9 الصبح ونقفل الساعة 10 بالليل. كان بيبقى عندنا وقت نروح مسارح وسِيَما. وفي الإجازات كنا حلوين في بعض”.
هكذا كان الأمس أما اليوم، فالواقع مختلف. يجلس عم فتحي، الذي يرى نفسه “نجار بريمو”، في انتظار عمل لم يأتِ منذ شهر رمضان الماضي. المشكلة ليست في جودة صنعته، بل في تكاليفها التي حلّقت بعيدًا عن متناول الجميع.
“الناس ما بقاش معاها فلوس تعمل شغل نجارة”؛ يقول ثم يفصّل الأرقام التي تقصم الظهر: “لوح الخشب الموسكي اللي كنا بنجيبه بـ 1200 جنيه وصل 6 آلاف جنيه النهاردة، ويمكن أكتر. ولوح خشب الزان اللي كنا بنجيبه بـ 1800 جنيه، سعره وصل، حسب الجودة، بين 22 ألفا و36 ألف جنيه”.
ورشة للعمل.. وسكن للروح
تطل ورشة عم فتحي على محل عم محمود. إذا كان مع كل منهما زبون، انشغل كلٌ في رزقه. أما في أوقات الفراغ، وهي كثيرة، تجدهما على كرسيين خشبيين متقابلين أمام أيٍ من المحلين يتسامران.
رائحة صالون عم محمود عالم قائمة بذاتها تتحدث. مرايا من ثلاث جهات، وعبق معجون الحلاقة الممتزج بالكولونيا، وصوت ماكينة الحلاقة يناوش المقص. أما ورشة عم فتحي، فهي أكثر من مجرد مكان عمل. حين يغلق جاره صالونه في المساء ويعود لبيته وزوجته في دار السلام، تتحول الورشة إلى بيت فتحي.
هناك، بين ألواح الخشب والمسامير والشواكيش، ينام على مرتبة صغيرة. وعلى أنبوبة بوتاجاز صغيرة، يصنع طعامه. هو “صاحب مزاج” في الأكل كما في الحياة: “قرنين فلفل وفصين توم وبتنجانة وبطاطساية، رضا وفضل من ربنا”.
هذا المأوى البسيط، الذي يسدد عنه 48 جنيهًا شهريًا، مسكنه ومحل عمله الآن مهددًا.
حين تُحدثه عن قانون الإيجار القديم الجديد، واحتمالية طرده بعد خمس سنوات، يرد بثبات لا يخلو من قلق: “هو حد ضامن من الحكومة ولّا المستأجرين ولّا الملاك هايعيش الـ 5 سنين؟”.

قانونهم قاسي.. مش شايفنا
“بعد خمس سنين يكون حلها الحلال”؛ قالها عم فتحي. لكن تفاصيل القانون الجديد لا تبدو “حلالًا” في عينيه. هي نص قاسي كُتب بلغة الأرقام لا بلغة البشر. قانون “مش شايفهم، لا هو ولا عم محمود”.
هكذا تترجم هذه القسوة إلى واقع مالي جديد:
الضربة الأولى.. خمسة أضعاف: تأتي أولى ضربات القانون فورية ومباشرة بقفزة في الإيجار إلى خمسة أضعاف قيمته الحالية. الـ48 جنيهًا التي يدفعها فتحي، ستتحول فجأة إلى 240 جنيهًا. هكذا يرى القانون ورشته: مجرد “نشاط تجاري يحقق عائدًا”، متجاهلًا أنها بالكاد تحقق قوت يوم صاحبها.
جرح لن يندمل.. 15% سنويًا: بعدها سيأتي الضغط المتواصل على الجرح، بزيادة سنوية ودورية بنسبة 15%. هذا يعني أن العبء المالي لن يخف أبدًا، بل سيزداد ثقلًا عامًا بعد عام على أكتاف شاخت بالفعل.
الحكم الأخير.. عد تنازلي للإخلاء: وأخيرًا، سيكون الحكم النهائي في شكل مهلة الخمس سنوات. هي ليست فترة انتقالية، بل عد تنازلي صريح لنهاية كل شيء. خمس سنوات، ثم يلتزم المستأجر بإخلاء المكان الذي كان حياته، ليعيده إلى المالك.
رهانٌ على “ولاد الحلال”
عندما يميل نهار الحارة نحو الغروب، يرتفع صوت القلق الذي يخفيه ثبات عم فتحي، ويفصح عنه عم محمود بمرارة مباشرة. ينظر إلى صديق عمره ثم يقول: “أهو عمك فتحي ما اتجوزش ولا عنده عيّل ولا تيّل، إنما أنا عندي مراتي، لو خدوا مني الصالون هانعيش انا وهي ازاي؟”. ثم يعود ليشير إلى ورشة جاره، التي هي بيته: “ولو خدوا ورشة عمك فتحي هايعيش وينام ويشتغل في الشارع!”.
هذا الخوف هو ما يغذي غضبه الخام، كصرخة أخيرة في وجه ما هو آتٍ: “الحكومة دي لازم تمشي، وإلا اللي هم واحنا خايفين منه هايحصل… زودوها قوي علينا، مش كفاية حالنا واقف بسبب الأسعار اللي ما بترحمش حد”.
لا يراهنُ هذان العجوزان على وعود الحكومة أو قوانين برلمانها. يراهنان على معادن الناس. رهانهما على “ولاد الحلال” الذين يأتون لأخذ 48 جنيهًا، ويصبرون إن تأخرت. رهانٌ تضعه الخلاصة في مناجاة أخيرة، تضع الرحمة في مواجهة القانون: “الملاك هنا ولاد حلال وفي قلوبهم رحمة أكتر من الحكومة، ما اتخيلش إنهم عايزنا نمشي.. ممكن نزود الإيجار زيادة معقولة، لكن ما يطردوناش من محلات أكل عيشنا”.
تغرب الشمس، ويبقى الكرسيان الخشبيان متقابلين؛ شاهدين على صداقة أربعين عامًا، وعلى سؤال معلق في هواء المساء: هل سترش المياه غدًا من جردل “المبروك” على وردة الصباح، إيذانًا بيوم سعي جديد؟
