حكايات وآلام.. جولة بين رواد خدمات الإطعام والتكايا في قاهرة المعز (3-3)

بعكاز وحيد يرافقها في مرورها بجانب خدمة" الحاجة حلاوتهم والشيخ محمدعبدالله نصر"، أو قدومها إليها، لا تجلس مثل كل رواد  الخدمة، بل لمعرفتها بالعاملين بها، ولقرب سكنها منها، تقول:" عايزة أكل".

يقدم لها أحد العاملين، طبق فول ورغيفين، فتسأل عن ليمون أو "خيار مخلل"، وتنهي أكلها وتطلب من يأخذ بيدها لتقف على قدميها وتسير، حيث ملتقى أغلب رواد الخدمة بجوار مسجد السيدة زينب، وهنا تتعدد الحكايات والآلام.

اقرأ أيضًا : حبايب السيدة والحسين في تكايا قاهرة المعز (1-3)

تكية الرحمن أحد أبواب الخير في السيدة زينب
تكية الرحمن أحد أبواب الخير في السيدة زينب

رضا والعمرة والقصر العيني

سألتها: مالك يا رضا.

قالت: من أول ضهري لحد كعابي واجعني، وبتحرك بالعافية زي ما انت شايف.

تدخل رجب زوجها قائلا: عليها جني، لابسها عفريت يا أستاذ. أكدت رضا كلامه: عفريت، لابسني واسمه ميمون.

مؤكدا على كلامها يقول رجب: "وبيسيبها في الليل وييجي ياكل دماغي انا".

"بيقولك ايه: رغاي قوي يا أستاذ ما بعرفش أنام منه".

"بيقولك ايه بقى: بيقول كلام كتير".

مسجد السيدة زينب - خاص فكر تاني
مسجد السيدة زينب - خاص فكر تاني

"مش فاكر ولا كلمة من الرغي الكتير اللي بتقول عليه".

لأ.

قلت لهما: بصوا بقى يا جماعة مفيش حاجة اسمها كدا، انتو روحتو لدكتور: الاتنين في نفس  واحد لأ..نجيب منين الدكاترة غالية قوي.

عندنا معاد مع شيخ النهاردة في سيدي علي، يقول رجب: تيجي معانا.

لأ.. روحوا لدكتور مخ وأعصاب وبعدين نتكلم.

عندما قابلت رضا للمرة الثانية.

سألتها هل ذهبت للدكتور: قالت رحنا للشيخ، وقال مفيش جنى ولا عفريت ولا حاجة ولازم نروح لدكتور..هانروح مستشفي بنها بكرة، واحد قالنا انه كان زيي وحجزوه هناك ورجع زي  الفل قدامنا.

من القاهرة لبنها والعكس، ورضا كما هى ، لم يتم حجزها في المستشفى، وأعطوها روشتة مريضة غيرها، كتبوا على ظهرها أدوية لها.

طلبت منهم الذهاب لقصر العيني يكشفوا مخ وأعصاب ويجيبوا روشتة اصورها واديهالهم جابولي روشتة من مستشفى المنيرة، وكل مرة تطلب مني رضا تليفون الإعلامي عمرو الليثي، ما أغضب زوجها رجب، قائلا: "انتي عايزة تليفون عمرو الليثي عشان يطلعك عمرة مش علشان تخفي"

قالت رضا: لأ، علشان الاتنين.

رضا تزوجت 4 مرات قبل زوجها رجب، الذي يبيع الشرابات على فرش أمام مسجد السيدة زينب. أنجبت من زوجها الأول 4 أبناء: "عندي عيال في الجامعة، وهم عايشين مع أبوهم في شبرا، ورجب برضه كان متجوز وعنده عيال عايشين مع أمه هنا في السيدة، هو من هنا لكن أنا من شبرا"، تقول رضا.

تقع رضا على الأرض، وتصرخ طلبًا لمن يساعدها على الوقوف في الحارة وأمام المقهى وأمام المسجد، وأحيانًا أمام محل سكنها، ولا تطلب سوى الشفاء ورقم تليفون "عمرو الليثي".

بُلبُلة/ سماح..  إلى حضن الفقراء وطعامهم والخيال الكاذب

عجوز، قصيرة، تسرع بخطواتها لتسبق عصا تستند إليها، أو تتباهى بها، لأنها من النوع الغالي، كما تقول.

عباءاتها الحريرية المطرزة بحرفية شديدة تدل أنها تأتي من حيث يسكن علية القوم إلى هنا، رغم أنها تؤكد أنها ما تزال تعمل كخادمة. وحين نظرتُ ليديها لأتبين أثرًا لعملها كخادمة، قالت: "أخدم في البيوت الكبيرة، ناس مهمين، بمصر الجديدة والزمالك".

تقول السيدة العجوز إنها تخطت الـ65 عامًا، وتقول لآخرين إنها 60 عامًا فقط، ولغيرهم 70 عامًا. هناك من يقول إنها تفعل ذلك لمنع الحسد.

أحد مطابخ الطعام في الخدمات - خاص فكر تاني
أحد مطابخ الطعام في الخدمات - خاص فكر تاني

وترى بعض النسوة ممن يأتين للخدمة أنها متصابية. دخلت هنا منذ أيام قليلة تبحث عن عريس، من المغرب حتى السادسة صباحًا، بين المقامات والخدمات والمقاهي حول مسجد السيدة زينب.

"4 آلاف جنيه معاش أبويا اللي كان شغال في الأوقاف هتعمل إيه النهاردة؟ وأنا عايشة لوحدي في الدرب الأحمر، بدفع إيجار 3 آلاف جنيه".

مرة أخرى تشكو من معاملة أبنائها لها: "ابني متزوج ويقيم في مكان بعيد عنها مع زوجته وأبنائه، ولا يأتي لي إلا عندما يتشاجر مع زوجته، وبيجيلي إيد ورا وإيد قدام".

وتقول إنها تعيش مع ابنها الصغير، مع أن أم عبدالله، التي تجلس معها على المقهي، تقول: "إزاي الحاجة سماح قايلالي إنها عايشة مع 3 ستات في شقة في الغورية".

سألتها عن اسمها فقالت: "بُلبُلة اسمي اللي في البطاقة محدش مصدقني، ومالوش معنى، بحثت على جوجل عن معناه مالقيتش".

قلت لها: الناس بيقولوا إن اسمك سماح.

"لأ، بُلبلة اسمي اللي في البطاقة. سماح ده اسم دلع، ولا عشان محدش بيصدق إن اسمي بلبلة، مع إنه ده اللي في البطاقة".

سألتها: ممكن أشوف البطاقة؟

قالت: "مش معايا دلوقت".

في البداية قالت بُلبُلة لـ"فكّر تاني" إنها حصلت على تعليم جامعي عالٍ، فهي خريجة كلية الآداب قسم الفلسفة، من جامعة القاهرة.

سألتها عن أساتذتها في الكلية، فقالت إنهم توفوا منذ زمن: "وانت سنك صغير هاتعرفهم منين؟".

الكتب بتاعتهم موجودة.

قالت: "لأ دول ما بيعملوش كتب".

سألتها عن معنى كلمة فلسفة، التي تخصصت فيها بكلية الآداب، فأنكرت معرفتها بها.

وحين قلت لها بأنها ليست خريجة الجامعة، قالت: "خريجة مدرسة المعلمات من الزقازيق. تزوجت صغيرة من رجل كان متزوجًا، وتوفيت زوجته، وعشت معه هنا في جزيرة الدهب، ثم لما توفى جئت بأبنائي للدرب الأحمر، لأن أهل زوجي كانوا يريدونني أن أتزوج من أخو زوجي، فلما رفضت هددوني بالطرد".

تتابع: "فأخذت أبنائي ليلًا، تاركة كل شيء خلفي، وأخذت لنا حجرة في الدرب الأحمر، وعملت بخدمات تقديم طعام مثل هذه، وبعد سنوات تركتها للعمل بالخدمة في البيوتات الكبيرة".

تقطع حديثها وتسألني عن دار مسنين قريبة من هنا، ثم تتحدث في التليفون وتقوم مسرعة، ولا تعود.

عادل.. يخفف أحماله بأحمال العجائز

لا تراه إلا باسماً أو ضاحكاً، يسيل العرق خطوطًا على وجهه، ويترك بقعاً كبيرة في ملابسه بجوار أي مقام قائم بأحمال غيره، كأنه يتخفف بذلك من أحماله، يحمل على كتفه ما يميله يسارًا أو يمينًا.

يعمل عادل الحمّال، ساعياً في الصباح. رمته محافظته الزراعية إلى القاهرة، فقرر العمل كـ"ساعٍ" بإحدى الشركات، وتم تثبيته. ومع ذلك، بعد أن ينهي عمله في الرابعة من عصر كل يوم، يكون بجوار أي مقام من مقامات آل البيت: زين العابدين، السيدة نفيسة، السيدة زينب، أو الحسين.

رأيته على خدمة "الشيخ محمد عبدالله والحاجة حلاوتهم"، يحمل عن العجائز متعلقاتهن، أو من لا يستطيعون حمل بضائعهم. يفعل ذلك دون مقابل. دائماً يحمل شيئًا عن غيره، وحين يجوع، يجلس على طبلية أي خدمة ليأكل، ثم يعود ليكمل عمله.

يعمل حتى الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل بلا أي مقابل مادي، ثم يعود إلى شبرا لينام ويستيقظ مبكرًا ليتوجه إلى عمله. وهكذا كل يوم.

حين سألته: هل تفعل ذلك زكاة عن عافيتك؟

قال: "سيبها لله"، ومضى باسمًا.

قال أحد المارة: "هم يحتاجون إليه، وهو يحتاج لمودتهم!".

يسيطر ذوو الاحتياجات الخاصة، سواء كانوا يعانون من إعاقات خارجية أو داخلية، على الأماكن القريبة من مقامات الأولياء. فهم غالباً ما يكونون من رواد الخدمات، فقراء بحق، مجاذيب بحق، دراويش بحق، ومدعون بحق أيضًا.

يلفت نظرك الوجع الخارجي لمُعاق أو عاجز، يستند على عصاه، أو يسير بواسطة عكاز أو اثنين، أو من تستند على حائط ليقبضها آخر.

غسان العربي: يوسف السباعي أوصاني بالمحافظة على مال الفقراء

غسان محمد أحمد أبو الحسن، حاصل على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية من الجامعة الهاشمية الأردنية، يبلغ من العمر 38 عامًا. يعمل في الجامعة الروسية بمدينة بدر.

كان والده محمد أبو الحسن يعمل بالهيئة الثقافية في الديوان الملكي بالمملكة الأردنية الهاشمية، ثم عاد إلى مصر في التسعينيات ليعمل بمكتبة الإسكندرية. ألّف كتابين وحيدين، أحدهما رواية بعنوان "السوهاجي"، والآخر بعنوان "ما هو المدد".

محرر فكر تاني يشارك أهل الخدمات الطعام
محرر فكر تاني يشارك أهل الخدمات الطعام

جاء غسان مع والده المصري وأمه الأردنية إلى الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة. يقول غسان: "السبب كان حادثة سيارة أدخلتني المستشفى، حيث تكسرت عظامي، مما دفع والديّ للسفر بي إلى القاهرة لإدخالي معهد ناصر للعلاج".

يضيف غسان: "خرجت من معهد ناصر نفسيتي كانت تحت الصفر، ما دفعني إلى القراءة التي أخذتني بدورها إلى مجاورة آل البيت. مكثت على أعتاب السيدة زينب لمدة 3 سنوات، حتى قامت ثورة يناير. شاهدت العنف الذي قوبل به المتظاهرون، وشاركت بعدها في مظاهرة ضد الإخوان، وذهبت إلى مجلس الشعب وقتها، مطالبًا الكتاتني، رئيس المجلس حينها، بحقي في التعيين كمعاق. رد عليّ الكتاتني قائلاً: 'هو إحنا قادرين نوظف السليم لما نوظفك أنت؟!'".

يأتي غسان إلى خدمة الحاجة حلاوتهم من مدينة بدر، حيث يقيم ويعمل، بين الحين والآخر بعد زيارة مقام السيدة زينب.

كان والدي صديقًا لمثقفين وأدباء كبار، منهم يوسف السباعي، الذي كنا نذهب إليه في زيارات أسرية حين نأتي من الأردن إلى مصر. كان رجلاً متواضعًا وعظيمًا، لأنني كنت أخجل من تواضعه. فهو لا يجلس إلا على الحصير ولا يأكل إلا على الطبلية الدائرية، مثل أغلب فقراء الفلاحين. في آخر مرة كنا عنده، أوصاني أن أحافظ على مالي قائلًا: "دي مش فلوسك، دي فلوس الفقراء من بعدك".

قرأ غسان العديد من الكتب، وأقربها إليه كما يقول هو "كتاب الجفر"، المنسوب جمعه للإمام علي بن أبي طالب، وكتب ابن عربي والحلاج.

يقول غسان: "الأركان التي بنى عليها الإسلام 5، وأي بناء لا بد له من أساس. وأساس هذا البناء هو حب آل البيت، وهو ما أنا عليه الآن. فلولا محبتي وقربي لهم ما تخلصت من محنتي النفسية بعد تكسير عظامي إثر حادثة السيارة. فكأن تحولي الجسدي كان سببًا في تحولي لما أنا عليه الآن".

وعن سبب اختياره لمائدة الحاجة حلاوتهم والشيخ محمد عبدالله نصر، يقول غسان: "تعرفت على محمد شهدي، حيث كان يقوم بالعمل في إحدى الخدمات بمولد سيدنا الحسين. واستمر تواصلنا، وعندما جاء إلى هنا، جئت لألتقيه. ومن هنا تعرفت على الشيخ محمد عبدالله نصر بشكل شخصي. ولكني قبل ذلك، كنت أعرف الحاجة حلاوتهم من خدمتها بجوار السيدة زينب، التي كانت ملاصقة للقسم قبل أن تنتقل إلى هنا".

سيد.. "لا يعرف عمره ولا يعد نقودًا أكثر من 6 ميات"

قصير، عريض، عرضه يقل عن نصف طوله قليلاً، عيونه ضيقة كأنهما زراران في قميص مهترئ. لا يعرف سنه الحقيقي، لكن شكله يوحي بأنه في الخمسينيات. يأتي على الطبلية، وقبل أن يجلس، يسأل: "عندكم أكل إيه، ياللي بتاكلوا اللحم كله؟"

جزء من الطعام الذي يقدم لرواد الخدمات - خاص فكر تاني
جزء من الطعام الذي يقدم لرواد الخدمات - خاص فكر تاني

يضحك الجالسون والمارة، يسب أحدهم، فيعلو الضحك. يطلب سيجارة وكوب شاي قبل الطعام، كأنه يريد ضمان مستقبله في نصف الساعة القادمة.

من المنيرة هنا يا عم، بس عندي شقتي في 15 مايو، يقول سيد.

س: شغال بقالك كتير مع المعلم؟
ج: سنين، هتعزمني على شاي؟

س: المعلم بيقبضك فلوس حلوة؟
ج: آه، بيديني أدفع الإيجار أول كل شهر. هاتعزمني على شاي؟

ج: هات شاي على حسابي للمعلم سيد.

س: بس الإيجار؟
ج: وبيحوشلي الباقي معاه.

يقيم سيد بجوار السيدة زينب ولا يفارقها أبداً. يدفع إيجار شقة لا يعيش فيها، إنما يعيش فيها أخوه، لكنه، حسب قوله، له "عفش" هناك.

س: كم عدد إخوتك؟
ج: إحنا 12 أخ، 6 بنات و7 صبيان.

س: تبقوا 13 يا سيد؟
ج: ما أعرفش.

س: ما اتجوزتش ليه يا سيد؟
ج: الجواز عايز ميات كتير، والمأذون عايز ميات كتير.

س: بتشتغل إيه مع المعلم؟
ج: أي حاجة.

س: بتنام فين؟
ج: المعلم مديني أوضة بنام فيها.

عن إخوته، يقول سيد: "فيه 3 بنات ساكنات قريب من هنا. مش بروح عندهم، عشان هم متجوزين، لكن بييجوا يشوفوني أول كل شهر عشان ياخدوا الإيجار".

اقرأ أيضًا: سد الجوع.. شعار تكايا قاهرة المعز في زمن الغلاء (2-3)

أم عبدالله.. "رضا ع العيال"

عود زان شكّله الفقر على عجب عينه "المدغششة"، يصيبه الصداع، فيحني قامته، يشتد عليه ريح الهموم، فيقوّس ظهره، لكنه يعود فارعًا، لا ينكمش إلا حين ينام على كرسي المقهى أو الرصيف.

أم عبدالله، أو رِضا، أم لخمسة أبناء، مات أبوهم وتركهم لها وللفقر، جاء بهم أبوها من الصعيد للإسكندرية، وجاء بها زوجها للقاهرة، ورمتها الحاجة لرحاب السيدة زينب.

 

خمسة عيال، الكبيرة فيهم في الكلية، وبقبض من الحكومة، لكن مرتب الحكومة هايعمل إيه ولا إيه، تقول أم عبدالله.

تعمل في المقهى بمزاجها، بلا مقابل، قد تكون نومتها على رصيف أو كرسي المقهى هو المقابل، أو قد يكون المقابل كوبًا من الشاي.

ليه ما اتجوزتيش يا أم عبدالله؟ تقول رضا: "على العيال أربيهم وأكبرهم، ويتجوزوا وأبقى عملت اللي عليّ."

الفنان عادل عتمان: مثّلت مع الزعيم.. وضاع مستقبلي في القمار

كل من يقابله أو يراه يسلم عليه، شافعًا سلامه بـ "يا فنان"، وهو ما لفت نظري له، بعد ملابسه "البالية"، وعصاه "يد مقشة"، وشعر رأسه ووجهه "المنعكش"، بين الفضي والأسمر، وظهره المحني على عصاه، منيت نفسي بأني سأتعرف على فنان بوهيمي يعيش وسط فقراء السيدة زينب.

بعدما أنهى طعامه على خدمة حبايب الحسين، سألته عن عمله بالفن، فقال كأنه يوجه حديثه للجميع، يريدهم أن يسمعوه: "إحنا هانيجي نصور هنا، أنا قلت للمخرج، هنصور الجزء التاني من الأسطورة هنا، لما حكيت للفنان محمد رمضان، عجبته الحارة جدًا.

وهنصور هنا كمان فيلم "الشحاتين في خطر" مع الفنان الكبير أشرف عبد الباقي.

عايزين نقعد مع بعض شوية يا فنان.

بكرة أنا عازمك على شاي في القهوة.

في اليوم الثاني رأيته على القهوة، أشرت إليه، فقال: "تعالى أنا عازمك على شاي."

مع الشاي، قال: "شغلني معاك، في قناة شعّل مخك"، يقصد موقع "فكر تاني"، "أنا لما عرفت إنك شغال في المكان ده، قلت أشتغل معاك واللي تدفعه ادفعه، مش هنختلف."

سألته: "سمعت إنك مثلت مع عادل إمام؟"

آه، ومثلت في الأسطورة، وحاجات كتير، ومثلت مع الأستاذ الفنان عمر الحريمي، "هكذا نطقها"، في مسلسل إبراهيم الطاير، كان فنانًا محترمًا قوي، لكن ما عجبتنيش النهاية، فيه فنان يموت على الفلوس، حاجة وحشة قوي.

إنما الشغلانة دلوقتي لمّت، فبطلت شغل، أنا من مواليد السيدة زينب، ومن دراويشها، عشت كتير واشتغلت أكتر ما عشت، اشتغلت مع فنانات ورقاصات، كنت ماسك جراج كازينو الليل، وبعدين اشتغلت مع رقاصة كان عندها في جراج فيلتها عربيات كتير، في الليلة كان يتغير 3 أو 4 عربيات، كل كازينو أو فرح تروحه بعربية شكل.

كنت بقبض 500 جنيه في الليلة، وأرجع الفجر أضيعهم في القمار، بس أنا لاعيب حريف وكسبت فلوس كتير، أكتر مبلغ كسبته 95 ألف جنيه، جيت أمشي، المعلم قال لي كمل لعب، عشان تكملهم 100 ألف تجيب ميكروباص، وتشغله تاكل من وراه الشهد، سمعت كلامه طلعت من غير ولا قرش، اتحايلت عليه عشان يديني أجرة المواصلات.

بس أنا خلاص، عملت زي ما انت قلت، شغل مخك، بطّلت أروح أشتغل كومبارس صامت، اللي بياخدنا الشغل بياخد 50 جنيه من أجرتنا، والسواق بياخد 50 جنيه، واللي بيقبضنا بياخد 50 جنيه، ألاقيني في الآخر بقبض 60 أو 70 جنيه بعد وقفة اليوم كله، طب ما أنا بعمل أكتر منهم هنا حوالين الحسين.

بتنام فين يا فنان؟

ــ هنا في الشارع.

" سيارة دهست أبنائي الثلاثة وأمهم طلبت الطلاق"

إحنا 7 إخوات، ما يهمني فيهم البنات التلاتة، تزوج أبي، بعد وفاة والدتي، من امرأة سودانية، ويعيش معها بين أسوان والسودان، يمنع عنا أرض والدتي ومنزلنا في أبو زعبل.

ضخامة جسده، طولًا وعرضًا، تُهيئه لأن يعمل بودي جارد، يمكنك مصادفته في إحدى حواري وشوارع الحسين، يجمع القمامة، ستعرفه من رفعة إصبعه نحوك: "عايز وحدة"، لا تفهم خطأ، فهو يريد سيجارة.

فجملته: "عايز وحدة"، عبارة عن علامة جودة، لأحمد الشهير بـ"سيادة اللوا"، بين رواد خدمة حبايب الحسين.

أعطيته سيجارة وسألته: "إنت ما بتعملش حاجة غير إنك تشيل الزبالة من هنا لهناك؟"

قال لي: "أنا شغال في الكمين."

كمين إيه؟

كمين 15 مايو.

بس الناس بيقولوا إنك مش بتسيب المكان هنا خالص.

ما أنا مش بروح.

يعني شغال في الشرطة ومتثبت ومتأمن عليك؟

"آه يا جدع، أمال إنت فاكرني إيه".

يحكي أحمد أنه بعد وفاة أبنائه الثلاثة، طلبت أمهم الطلاق فوراً، مع أنه كان في عمله، وهي التي تركتهم في الشارع وذهبت للتسوق، كما يقول، لكنها بعد الطلاق، أخذت كل العفش، وتركت الشقة خالية، ما جعل أباه يغلقها، ويغلق الطريق على عودته إليها. يتغيب "أحمد" عن عمله باستمرار، ويقدم للضابط في الكمين أسباباً واهية ولا يقبض من راتبه سوى ألف جنيه فقط، والباقي يخصم منه،وفق ما يقول.

"أحمد" لا يدفع مليماً مقابل أي شيء وينام في أي حارة، أو مكان، فالنوم سلطان.

عتمان المغربي: "شفت هنا إبراهيم نافع وكاريوكا"

"الست هي اللي بتبعت"، يقول عتمان المغربي، تاجر المخدرات التائب، وهو يوزع بعض المأكولات من شنطة أعطاها له أحد المارة.

قال لي أحد زبائن المقهى الواقع بجوار مقام السيدة زينب: "إن عتمان حين يعطيه أحد شيئاً يوزعه دوماً هكذا ما دام طعاماً، أما النقود فيضعها في جيبه."

حين قابلت المغربي، وجدته عجوزاً تخطى عامه السبعين، بجسده السمين وبقايا طول حناه الزمن، يؤكد أنه كان عملاقاً في شبابه. قال لي: "قبضوا عليّ 9 مرات، حصلت على 6 براءات، وتم حبسي 3 مرات، وكلها بالتلفيق، لأنهم لم يضبطوا معي شيئاً، لكنهم كانوا متأكدين من تجارتي بالمخدرات."

تاب المغربي الآن، وأصبح من دراويش الست، كما يقول، يجلس على كرسيه ويعرض بضاعته، وكل من يشكو أو تشكو، حتى من الصداع، يخبرهم بأن هناك من سحر لهم، وأن له صديقاً يفك الأسحار والأعمال من أسوان سيأتي بعد قليل، ويعرض عليهم بضاعته من عطور وخواتم وسبح.

"كنا نعيش في الغورية، كان أبي موظفاً في المطبعة، وانفصل عن والدتي، فقالت جدتي: "حق الولد يا مجرمين." يحكي المعربي: "الله يرحمها، لولاها كان زماني في الشارع"، ويضحك، ويعود ليقول: "آه بجد، قدرت تاخدلي منهم فلوس وتجيبلي بيت هنا في السيدة".

"شفت إبراهيم نافع هنا، الست جابته على بوزه، كان ساعتها رئيس مجلس إدارة الأهرام، وحواليه 4 بودي جارد، أنا ما أعرفش حاجة عن الصحافة بس أعرف إن فيه صحافة الحكومة وصحافة المعارضة وصحافة حرة، إبراهيم ده كان له باب بيكتبه في الأهرام."

"وانا زمان كنت بعمل شوادر للرقص، الفن حلو يا أستاذ، بس الحكومة قفلتها."

"وكنت باشوف الفنانة تحية كاريوكا، وحبايبها كانوا بيجولها هنا فنانين كبار ، كانت بتحب الست قوي."

ياسر المجذوب:" الناس هنا وحشة قوي لكن حنينة"

سنتان بارزتان من مقدمة فمه، ليست هي السبب في تأتأة تتغلب على كل مفرداته، حين يطلب الماء، وهو جالس على ترابيزة الطعام، في حارة حوش الطاحون، القريبة من مسجد السيدة زينب، ليس طويلاً إنما هزيل، وجلابيته تجمع أوساخ الشوارع خلفه، ودائماً ما يرفعها هي وبنطلون "تريننج" تحتها.

أطفال مشاركون في اعداد طعام الخدمات
أطفال مشاركون في اعداد طعام الخدمات

يوحي مظهر ياسر أن كل شيء يسقط منه، إلا الفلوس، التي يعطيها له من يرأفون به، فتأخذها منه الستات. يقول: "إن واحدة ست تضغ أحمر في أصابعها تطلبها منه فيعطيها لها".

يقول ياسر: "الناااااس هــــــــــــــنااااا وكســـه قووووي بـــــس حوووونينه"، يقصد الناس هنا وحشة قوي لكن حنينة."

يأتي كل عدة أيام إلى حارة حوش الطاحون، يطلب فوووووول كما يقول، يشرب 3 أو 4 أطباق فول، لا يأكل إلا في الطبق الرابع أو الخامس، ويطلب الماء قبل أن يأكل.

بعرف ياسر كيف يعود لمنزله في أبو كبير، يقول: "أركب لرمسيس وهناك أشوف عربية رايحة الشرقية، ألركب واروح عشان أشوف أمي وأديها فـــــلوووووس."

يقول من يعرفون ياسر، هو "بييجي هنا فمحمد شهدي بيحميه ويغسله هدومه، ويلبسه لبس شايله ليه هنا، وبعدين يغيب ياسر بجوار أي مقام من المقامات ولا يعود إلا كل أسبوع أو 10 أيام إلى هنا".

تتعدد الحكايات والآلام، ولكن جولتنا انتهت هنا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة