فتنة العندليب والسندريلا

بكل ما أغدقت به السماء عليها من كاريزما أخَّاذة، وحضور استثنائي طاغٍ، وبصوتها المموسق الحنون، قدمت السندريلا سعاد حسني، ذات أمسية، حفل من الزمن الجميل: "نقدَّم لكم دلوقتي مطربنا العاطفي؛ البلبل الأسمر عبدالحليم".

معلومٌ أن لقب حليم هو العندليب. أطلقه عليه الكاتب الراحل مصطفى أمين، لكن السندريلا رأته "بلبلًا"، فالبلبل طائر أجمل، ذو ألوان أكثر تناسقًا وقوام أرشق.. كذلك ارتسمت صورته في عينيها، إذ صعدت إليهما خواطر مهجتها.

من معجزات الحب أنه يغيِّرُ طبيعةَ الأشياء، فيتشكَّل مَنْ نحب في منطقة عميقة وربما سرية من ذواتنا، على الشاكلة التي نحب.

البلبل الأسمر ليس مصطلحًا فائنًا عفويًا، بل تعبير كاشف عما في نفس السندريلا التي مضت.

تهبط السندريلا عن خشبة المسرح بخطو وئيد مرتبك، وبأنوثة مصرية خالصة. ولم تنس قبل ذلك أن ترسل لحليم نظرة تشع حنينًا دافئًا، كأنما تُدثره تحت رموشها، أما هو فشرع يغني من ألحان الطويل، منسابًا صوته رشيقًا خفيفًا، مرهفًا ناعمًا مثل حد خنجر عربي:"الحلوة برموشها السودا الحلوة، لولا ضحكتها الحلوة، وعدتني بحاجات حلوة".

لا شك في أن حبًا كبيرًا كان بين الأيقونتين؛ أيقونة الرومانسية وأيقونة الجمال، كذلك كشف المشهد عن ما في قلبيهما.

من المستحيل إخفاء الحب، إنه يفصح عن نفسه بمنتهى الإصرار، وفي ذلك يقول شاعرنا الكبير نزار قباني: "أنا عنكِ ما أخبرتُهم/ لكنهم لمحوكِ تغتسلين في أحداقي/ أنا عنكِ ما كلمتُهم/ لكنهم قرؤوكِ في حبري وفي أوراقي/ للحبِّ رائحةٌ وليس بوسعِها/ ألَّا تفوحَ مزارعُ الدُّراقِ".

نعم كان العندليب والسندريلا عاشقين، هذا واضح للغاية، لكنهما لم يتحدثا عن هذا الأمر في العلن، وهذا من أبسط حقوقهما الإنسانية. والمؤكد أن العندليب كان أكثر قدرة على كبح مشاعره، فإذا تحدث عنها في لقاء، تحسس العبارات بدقة، قبل أن يطلقها، وإن كانت نظراته إليها في صور فوتوغرافية عفوية قد فضحته، ومنها صورة تفور من جفنيه فيها نيران الغيرة، إذ كان يرمقها وهي ترقص مع صحافي بمناسبة عامة. 

كان الراحلان متحابين، هذا يقين لا يشوبه أي شك، وربما تزوجا أو لم يتزوجا، وربما انفصلا بعد زيجة سرية؛ رسمية أو عرفية، وكل هذه الاحتمالات ليست من شأن نابشي القبور.

بداية اللغو والنميمة

غير أن الكاتب الصحفي الراحل مفيد فوزي، ارتأى شيئًا آخر، فإذا به بعد رحيل العندليب بنحو ثلاثة عقود، ورحيل السندريلا بحوالي عقد، يرمي إلى أسنة المطابع، كتابًا يقول فيه إنه شاهد عيان على زواجهما.

على المستوى الأخلاقي فإن رواية مفيد تلك -إن صحّت- لا يمكن توصيفها ضمن أعمال الصحافة، فالصحفي قد تجمعه الصداقة بمصدر ما، فيسرُّ له من باب الثقة فيه أشياءً لا يريد الكشف عنها؛ "يفضفض" لا أكثر ولا أقل، وليس مناسبًا بعدئذٍ أن تُشاع تلك الفضفضة.

لكن تلك ليست مدرسة مفيد فوزي المهنية، إنه من أتباع "صحافة الفرقعة" قبل اختراع التريند على صفحات السوشيال ميديا، وما من تريند ستشرئب الأعناق لملاحقته، أكثر إثارة من قصة تتعلق بمطرب الرومانسية الأول؛ فتى أحلام الفتيات في عصره، ونجمة السينما الأجمل؛ فتاة أحلام الشباب في زمنها؛ "الحلوة" التي يقال فيها وصفها "سعاد التي لم يُخلق مثلها في البلاد".

ومع الكتاب الموسوم: "أيام مع العندليب"، لم تهدأ الزوابع، فهنا شقيقة السندريلا تؤكد الزيجة، وهنالك ورثة العندليب ينفون، وبين هذه وأولئك يطل مفيد فوزي عبر الشاشات، ليستعيد الوهج فجأةً، بعد أن كان تقاعد فطواه النسيان.

من هنا بدأت فتنة العندليب والسندريلا، فأخذت تنثر اللغو والنميمة، وتنحدر أخلاقيًا إلى حدود سحيقة؛ حدود بلغت قعر الدونية إذ طال النقاش قدرة عبدالحليم الجنسية، وهل بوسعه أن يؤدي واجبات الفراش، مع الفاتنة الشابة؟

وكأي جائحة وبائية تنتشر فيروساتها فجأةً، ثم تتبدد فجأة، هدأت الزوابع، ونسي الناس الأمر، إلا قليلًا، ولم يعد أحد يهتم بصدق أو كذب رواية الصحفي، فالزبد يذهب جفاء، حتى أعاد ورثة العندليب بغير مناسبة نبش الماضي، فنشروا رسالة نسبوها إلى الراحلة، تسترحم فيها حليم أن "يحن عليها"، وتستغرب من هجره إياها، وهي التي استسلمت لحبه، ورفعت رايات الأنوثة البيضاء له، دون قيد أو شرط.

وكالعادة.. شكك ذوو رحم سعاد في الرسالة، ودفعوا بأن الخط ليس خطها، وتشبثت أسرة حليم بما جاء فيها، فإذا بهم يستنون بسنة مفيد فوزي، دون أن يراعوا أن فقيدهم تجنب الخوض في المسألة، وبغير أن يميتوا السفالة الأخلاقية بالسكوت عنها.

السر المقدس على كل لسان

على كل حال، وبغض النظر عن صحة الرسالة أو تلفيقها، وبعيدًا عن الموقف منها، تتبقى الحقيقة التي تغيب في "فتنة العندليب والسندريلا"، أن علاقتهما التي حرصا على أن تكون في طي الكتمان، قد أصبحت مشاعًا لكل من هبَّ ودبَّ، وسرهما "المقدس" لم يعد مقدسًا.

الأصل في أي علاقة عاطفية، أنها شأن شديد الذاتية، ولا ينبغي لأحد أن يخوض فيها، ما دام طرفاها لم يأذنا بذلك، فمسألة ارتباطهما بزيجة عرفية أو رسمية، ليست من الشؤون العامة، ومسألة ارتباطهما أو انفصالهما، من صميم حريتهما الشخصية.

ثمة تفاصيل كثيرة غير معلومة، وهناك كومة متراكمة من الأسئلة، التي لا يجيب عنها إلا حليم والسندريلا.

هل تزوجا؟ ربما.. وهل انفصلا بعدئذٍ؟ وارد، أما السؤال الأكثر استغلاقًا فهو لماذا أخفيا أمرهما؟ ولماذا -في حال كان الخطاب صحيحًا- قرر حليم الابتعاد؟

الحب أعقد المشاعر الإنسانية، ولكل طرف أسبابه التي يحتفظ بها لتبرير قراراته، ومثلما كان النبش في تاريخ علاقة النجمين الراحلين، فعلًا دنيئًا منحطًا، فإن تأثيم أي منهما، أو الانحياز لطرف دون آخر، والخوض في سيرتهما بناءً على أحكامنا، من قبيل الدناءة كذلك.

لكل إنسان الحق المطلق في الاقتران أو الانفصال، دون أدنى مسؤولية عن نشر تفاصيل ذلك على قارعة الطريق.

قد يقول متفذلك: إن حليم وسعاد شخصيتان عامتان، ومكانتهما لا تخول وضع الأسوار حول حياتهما الخاصة، لكن هذه كلمة باطل يراد بها باطل، فمسألة التطرق إلى خصوصيات الشخصيات العامة، يجب أن تتوخى الحذر، بحيث لا تُترك الأمور على عواهنها، فتغدو أسرار "غرف النوم" على كل لسان.

حياة الشخصيات العامة بمنأى عن "وظيفتها المجتمعية"، شأن ذاتي خاص، وهذا حق لا تفاوض عليه، إلا حين تمس تلك الحياة الشأن العام.

استثناءات تؤكد القاعدة

بما أن الشيء بالشيء يُذكر، فمثال ذلك أن رواية عمرو موسى بشأن الطعام الذي كان الزعيم الراحل عبدالناصر يستورده من سويسرا، شأنًا "خاصًا عامًا"، يجوز بل يجب تمحيصه بحثه، ذلك أن الرواية تتنافى مع المقولات بشأن تقشف وزهد ناصر، الذي طالما كان يقدم نفسه إلى الشعب باعتباره "زعيم الاشتراكية" الذي يلزم نفسه بها قبل غيره.

الاستثناء إزاء مثل هذه الحالة يثبت القاعدة لا ينفيها.

هذه رواية يطغى العام منها على الخاص، وبعيدًا عن الاجتزاء الذي اعتراها لإخفاء أن ناصر كان يستورد أطعمة لمرضى السكري، ولم تكن متوفرة في مصر، وليس على سبيل البذخ و"الفخفخة"، فإنها تعد طعنة غائرة في قلب شرعية ناصر السياسية.

لكن على الطرف الآخر، ما تأثير زواج أو طلاق حليم وسعاد؟ ما أثر ذلك على مسيرتهما الفنية؟ وما تداعيات الاحتمالين على حقيقة أنهما من أبرز فناني مصر في القرن الماضي؟ وما جدوى صب اللعنات على حليم الذي سارع متعاطفون "غالبًا نسويات" مع السندريلا "الجريحة" إلى شيطنته؟ هل كان أنانيًا؟ وليكن ما أهمية ذلك؟ هل كانت له أسباب حسمت قرار الانفصال؟ هل جرحت السندريلا كبرياءه مثلًا؟ وما شأن الناس بذلك؟

ذهبا إلى بارئهما، وما تبقى من إرثهما، يتمثل تلك البهجة المثمرة التي أشاعاها في حياتنا، فحليم الذي كان "عاشق ليالي الصبر مداح القمر"، وسعاد التي كانت "الحلوة برموشها السودا الحلوة"، سيخلدان أيقونتي فن على الدوام، وسيبقى حبهما أبدًا الزمان، حبًا ملحميًا يكمن سر أسراره في أنه لم يكتمل، ويكتنفه حتى الآن ضباب الأساطير.

"عاشق ليالي الصبر مدَّاح القمر، عشق العيون السُمر غواني السهر".

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة