"الخواجاية".. سيرة مصرية أوروبية

بقدر شغفي بالسير الذاتية؛ بقدر حيرتي في الكتابة عنها، أفكر في محدودية كلمات المقال، مقابل سعة السيرة بكل ما فيها من مشاعر وتجارب وخبرات وأفكار وأحلام وهواجس، تبدو السيرة مثل متاهة من مسارات وخيوط متعددة الألوان تحتاج أن تعيش وتذوب في النص حتى تعرف طريق الخروج، تكتب أكثر من مسودة حتى تصل للنسخة النهائية من المقال، أظن مثل هذه الحيرة يعيشها أصحاب السيرة ذاتهم خلال رحلة الكتابة.

في كتاب "الخواجاية" الصادر حديثًا عن دار الشروق بالقاهرة، نعيش مع سيرة مختلفة، سيرة روائية كما نقرأ على غلاف الكتاب، كتبتها "فيموني عكاشة" عن أمها "جيردا" المرأة الهولندية التي عاشت معظم حياتها في مصر منذ قدومها في بدايات خمسينيات القرن الماضي، ورغم صفحات الكتاب الثلاثمائة من القطع الكبير، وملحق الصور التي تضيء الكتاب وتمنحه حيوية ودفء عائلي، مازال في رحلة حياة "جيردا" الكثير ليروى..

 

غلاف كتاب الخواجاية
غلاف كتاب الخواجاية

 

للسيرة في كتاب "الخواجاية" ثلاثة مسارات، الأول هو الدفاع عن الذاكرة والهوية الشخصية؛ فالكاتبة تروي سيرة لأم ذاكرتها هددت في سنواتها الأخيرة بعد أن أصيبت بجلطة في المخ قبل أن يعاجلها الموت، أما المسار الثاني الأكثر عمومية يتعلق بالتوثيق والتاريخ والذاكرة المجتمعية لمصر في النصف الثاني من القرن العشرين، والمسار الثالث هو سيرة الكاتبة ذاتها التي تحكي الحكاية.

"ظللت طوال عمري أعتقد أن أبي هو من أثر في تكويني، هو من غرس في حب هذا البلد، قد يكون هذا صحيحًا إلى حد ما، لكن ما فاجأني عندما عاشت أمي معي السنوات الخمس الماضية، أنها هي من كان لها أكبر الأثر في حياتي، ليس فقط لأنها عاشت أطول منه كثيرًا، ولكن لأنها هي من ربطتني بمصر وجعلتني أهوى تراثها وأعشق تفاصيلها الصغيرة".

تفتتح فيموني كتابها بإهداء "إلى أنور وجيردا .. والحب الكبير الذي جمع بينكما"، وشكر خاص لمجموعة من الأصدقاء والكتاب/ الذين دعموها حتى خرج الكتاب للنور، ومنهم الكاتب الدكتور محمد المخزنجي الذي كتب تقديم وافي للعمل، ويشير فيه إلى صدفة ومفارقة لفتت انتباهه في بداية رحلته مع الكتاب حيث يجمع اسم الكاتبة "فيموني عكاشة" مزيج من روح أجنبية تتعلق بإسمها الأول "فيموني"، وروح مصرية خالصة تظهر في اسم "عكاشة".

"عندما وصلتني نسخة رقمية من هذا العمل، لفتتني مفارقة اسم الكاتبة "فيموني عكاشة" الذي لم أسمع به من قبل، وما إن بدأت أقرأ أولى صفحاته حتى لم أستطع التوقف فأنهيته في يوم وليلة، وللمصادفة كنت قد قرأت قبله عملًا يتناول الموضوع نفسه للكاتبة الفرنسية "آني إرنو" التي كانت قد حصلت على جائزة نوبل في الأدب لعام 2022، وبرغم فارق خبرة الكتابة لدى الفرنسية، وكاتبتنا التي وضح أن هذا عملها الأول، فإنني أقرر بكل اطمئنان، أن عمل فيموني عكاشة أرحب وأجمل وأغنى من عمل آني إرنو، برغم أن التيمة واحدة، عن ابنة ترصد مآل أمها التي يبتلعها ما يسمونه الخرف في أعقاب جلطة بالمخ".

ذاكرة مهددة

مع أولى صفحات الكتاب تبدو مشاعر الفقد حاضرة بقوة، الفقد بصور متعددة شخصية وجماعية، وفي مقابل هذه المشاعر تبدو الكتابة كمساحة للتعافي عبر بناء ذاكرة حية والتعبير عن المشاعر ومشاركتها مع الآخرين، تبدأ فيموني كتابها بحوار غاية في الرقة والعذوبة والجمال والألم مع الأم "جيردا"، حوار عن الزمن والذاكرة والجمال والنسيان وحب الحياة:

أتعلمين أن اليوم هو عيد ميلادك؟
فعلا؟
أتعلمين ما عمرك؟
أظنه الرابع والستين
أنت في الثامنة والثمانين
لا يمكن! كلا لا يمكن أن أكون بهذا العمر أبدا!
مستحيل! لا أشعر أني بهذه السن!
أنا في الرابعة والخمسين يا أمي؟
أنت؟! لا يمكن! أنت كاذبة ولابد أنك تمزحين!

جيردا وفيموني
جيردا وفيموني

توضح الكاتبة أن هذا الحوار تكرر في أعياد ميلاد الأم منذ أصيبت بمرض خرف الشيخوخة أو "التيه" كما تفضل أن تسميه، "لم تصدق قط عمرها، كانت تنظر إليّ باستغراب شديد، ثم تنظر ليديها متعجبة من هزال بشرتها والتجاعيد التي أصابتها كأنها يد أحد آخر، تضحك بصوت عال، وتستلقي على الأريكة مستسلمة لذكرياتها البعيدة التي كانت تبدو لها وكأنها حدثت البارحة".

اقرأ أيضًا:مع طه حسين والحزن الضرير

تكتب فيموني عن أمها، كأنها تكتب نفسها، حيث تتقاطع سيرتهما، وما عاشوه رغم اختلاف النشأة، والزمن، والجغرافيا بين مصر وهولندا، فضلًا عن اختلاف الطبائع الشخصية "اكتشفت أمي في عدة مراحل على مدار حياتى، عندما عشت وحدى، وعندما تزوجت، وعندما أنجبت، عرفت حينها قوتها الكامنة في وداعتها الظاهرية، ولكنى عرفتها عن قرب، وعرفت حقيقتها فقط عندما كانت تنتابها حالات التيه؛ حيث كانت النسخة الأكثر وضوحًا من نفسها، بكل ما تحمله من شغف وفرح وألم".

نعيش على مدار فصول الكتاب مشاعر وتجارب وخبرات متنوعة، نكتشف كيف يمككنا أن نعرف أنفسنا من خلال معرفة حقيقة وجوهر الآخر، هذه العلاقة الشائكة والملهمة في ما تفتحه من مسارات ورؤى ومشاعر وأفكار وتصورات مختلفة، تتجسد في مسيرة حياة الأم والابنة كأنهما وجهان لعملة واحدة، صورتان لكل منهما بصمة وملامح خاصة لكن يجمعهما أصل واحد.

"عرفت نفسى أيضًا، تعلمت منها خلال تلك السنوات الأخيرة أكثر مما علمته لى عمرها كله، علمتنى ألا يطول حزنى على شيء، وأن الحياة جديرة بالبهجة، وأن هناك دائمًا شيئًا بسيطًا جميلًا يستحق أن نفرح لوجوده. عرفت ماذا تعنى الشيخوخة، والأهم عرفت كيف أحب الحياة".

رحلة العمر

جيردا في حديقة منزل المستعمرة أوائل السبعينيات
جيردا في حديقة منزل المستعمرة أوائل السبعينيات

تبدو حياة "جيردا" كقصة روائية متخيلة؛ فالفتاة المولودة في بلدة "زوولة" الهولندية عام 1931، في بيت مسيحي بروتستانتي محب للموسيقى، وكل فرد بالأسرة يعزف على آلة مختلفة، عاصرت اندلاع الحرب العالمية الثانية، والأوضاع القاسية في ظل الاحتلال الألماني، لم يكن أحد يتخيل أن تسافر في سنوات شبابها وتعيش معظم حياتها في مصر وتتزوج من "أنور" مهندس النسيج المصري، وتتقن اللغة العربية وتعلن إسلامها وتنجب ثلاثة أبناء "عبد الله"، و"كمال"، و"فيموني".

 

يستعرض الكتاب على مدار أربعة عشر فصلًا سيرة "جيردا" عبر رحلة امتدت من هولندا إلى إنجلترا ثم مصر حيث التقت فيها بحب حياتها، تختار فيموني عناوين فصول الكتاب بدقة وعناية لتعبر عن رحلة حياة الأم بكل ما فيها من مسارات وتجارب وخبرات وتغيرات على المستوى الفردي والمجتمعي العام؛ فنقرأ فيها:"بداية الحكاية، سنوات المغامرة، الحب، مركز بدر، مدينة العمال، محلة محلتي، عن الخوف وأمي، رحلة العائلة الأولى، أبي، مجتمع يتغير، عائلة مرة أخرى، العودة إلى هولندا، عيد الميلاد الأخير، أطياف الحزن والجمال".

بقدر ما تحمل ذاكرة جيردا ذكريات جميلة في سنوات طفولتها في هولندا، وهو نفس الأمر الذي تكرر مع ابنتها فيموني التي تتذكر طفولتها السعيدة خلال فترة إقامتهم بمدينة المحلة، إلا أن ذاكرتهم تحمل أوجاع وآلام مشتركة أيضا تتعلق بالحرب وقسوتها وتبعاتها على أسرتها والمجتمع الهولندي في فترة الحرب العالمية الثانية، وفي حياتها الشخصية فيما بعد عندما عاصرت سنوات الحرب في مصر خلال الفترة الممتدة من نكسة 1967 إلى حرب أكتوبر 1973.

"عندما قامت حرب أكتوبر، كنت في الثامنة من عمري أي تقريبًا في نفس السن التي كانت بها أمي عندما قامت الحرب العالمية الثانية، ولكن شتان بين تجربة كل منا. حدثتنا أمي كثيرًا عن الحرب التي عاشتها وعما عانوه، خاصة في العاصمة أمستردام التي كانت تعاني من نقص شديد في الطعام، وكيف اضطُر الآلاف من الهولنديين للسير على أقدامهم على الثلوج لمسافات طويلة بحثًا عن أي طعام".

بعد الحرب العالمية الثانية، سافرت جيردا إلى لندن في رحلة لم يكن مخطط لها أن تطول، وخلال هذه الرحلة وجدت فرصة للعمل لبضع ساعات مع أسرة مصرية، لرعاية طفلهم الصغير، ونتيجة للعلاقة الطيبة التي نشأت وشعرت معهم بأنهم أسرتها، تشجعت لزيارة مصر بلد الحضارة التي طالما كانت تسمع وتقرأ عنها في كتب التاريخ، ولم تتخيل يومًا أن تزورها، كانت جيردا على موعد مع حب حياتها، فقد أحبت "أنور" وتزوجت من مهندس النسيج المصري خلال هذه الزيارة.

الفصل الثالث: الحب -جيردا وأنور
الفصل الثالث: الحب -جيردا وأنور

"كان (لأنور) بلا شك نصيب من اسمه؛ فهو يضيء المكان الذي يوجد به بحكاياته وضحكاته وشخصيته الجذابة، كما أنه وسيم ورياضي يمارس السباحة، يستطيع التحدث ببساطة مع الجميع، أنيق في ملابسه، وله ضحكة خلابة. برع في الرقص خاصة التانجو الذي قلما رأيت رجلا يرقصه ببراعة مثله، كان الفتى المحبوب في عائلته، وكانت أخواته "بهية" و"جميلة" و"كوثر" أو "كوكا"كما يسمونها، يفضلن أن يلجأن إليه في مشاكلهن. لم يكن غريبًا أن أقع في حبه من أول نظرة".

اقرأ أيضًا:مقدمة عن توتر القرآن.. الشرع واللاهوت السياسي في الإسلام

مدينة العمال

بدأت جيردا حياتها مع أنور بالسكن في منطقة الزيتون بالقاهرة، ثم انتقلوا بعدها إلى مركز بدر بمحافظة الغربية ومنه إلى مدينة المحلة العمالية المشهورة بمصانع الغزل والنسيج، ورغم الحب الكبير بينهما إلا أن السنوات الأولى من الزواج شهدت العديد من الخلافات والتحديات المتعلقة باختلاف الثقافات والطبائع والعادات الشخصية، تضحك "جيردا" وهى تروي أولى خلافاتها مع أنور، حين نزلت من البيت إلى وسط القاهرة دون أن تستأذنه، وعندما عاد من العمل وعرف ما حدث غضب للغاية، وهو أمر لم تفهمه "جيردا" ففي ثقافتها لم تكن تحتاج أن تستأذن للخروج من بيتها.

تعلمت جيردا مع مرور الأيام أن تدير خلافاتها مع أنور بعد ذلك باللين والرقة والتفهم المتبادل، وتفهمت خصوصية المجتمع المصري، وأبرز الاختلافات الثقافية، لكن واجهها تحدي آخر أكثر صعوبة فيما يتعلق بالعلاقة والاندماج داخل المجتمع فرغم تعلمها اللغة العربية وإجادتها للعامية المصرية، وإصرارها على تغيير ديانتها إلى الإسلام حرصًا على أبنائها وخوفا عليهم من التشتت بين معتقدات مختلفة، إلا أنها ظلت في عيون الكثير من المصريين "خواجاية"، ربما لملامحها الأوروبية وكذلك لطبيعتها وسلوكياتها وهويتها وتفردها وحريتها واستقلالها التي حافظت عليه طوال سنوات إقامتها الطويلة في مصر، فضلًا عن طريقة تربيتها وتعاملها المختلفة مع أبناءها.

تكتب جيردا في مذكراتها عن هذه الأيام ومشاعرها وأفكارها والتحديات التي واجهتها في مجتمع وواقع جديد وكيف تعاملت معه، مشيرةً إلى أن "ما كان أكثر صعوبة بالنسبة إلي هو الحياة وسط مجتمع العاملين في المصنع؛ حيث الجميع يتحدث العربية فقط على خلاف مجتمع القاهرة المتنوع في جنسياته وثقافاته، وجدت نفسي في مواجهة مع ثقافة أخرى وعادات مختلفة خاصة أن عاملات المصنع كن ينظرن إلي كأجنبية خطفت منهن رجلًا مصريًا، يرين أنهن أحق به منها. لم يكن هناك مفر من تعلم اللغة العربية؛ فأنا أسمع همساتهن وضحكاتهن دون أن أفهم إن كن يسخرن مني أم لا".

جيردا وأنور وفيموني في ميامي -الإسكندرية بالستينات
جيردا وأنور وفيموني في ميامي -الإسكندرية بالستينات

لم يمض وقت طويل حتى انتقل أنور ليتولى مسؤولية الإشراف على أحد المصانع في مدينة المحلة "كانت الحياة في المحلة أفضل حالًا من مركز بدر فهي مدينة متكاملة، بها خدمات ووسائل ترفيه من سينمات ومسرح ومحال ووسائل مواصلات عامة مما لم يتوفر في مركز بدر، لكن أنور لم يكن ليستريح فيما يخص العمل، كان المصنع بمثابة طفله الذي يحبو ويريد أن يرعاه على أكمل وجه، إلا أنه حاول دائمًا أن يعوضني عن شعوري بالوحدة بأن يصحبني إلى القاهرة قدر استطاعته لحضور حفلات موسيقية أو باليه في الأوبرا أو قداس عيد الميلاد".

مضت الحياة بالأسرة وألتحق الأولاد بالمدرسة وكانت الحياة مستقرة وسعيدة، لكن في فترة السبعينيات عاشت "جيردا" أوقات وتحديات كثيرة قاسية سواء على المستوى الشخصي بوفاة "أنور" زوجها، وكذلك على المستوى العام في ظل صعود التيارات الدينية الإسلامية وانتشار التشدد الديني وتغير نمط الحياة بصورة كبيرة عن العقود السابقة التي عاشتها في مصر، بعد رحيل "أنور" بدأت "جيردا" رحلة حياة جديدة تتحمل فيها مسؤولية مضاعفة في رعاية أبناءها.


اقرأ أيضًا:"الشوك والقرنفل" قراءة في سيرة السنوار يحيا

عالقة بين ثقافتين

"بالتأكيد كان أمرًا مختلفًا أن تكون لنا أم أجنبية، لاحظت اختلافات كثيرة بينها وبين الأمهات المصريات؛ لم تكن الأمثلة المصرية جزءًا من أحاديثنا في المنزل، وكذلك مشاعرها وتعبيرها عن الخوف أو القلق أو الحب لم يكن بطريقة فياضة ومعبرة مثلهن أيضًا، فهي دائمًا عملية في تعاملها مع الحزن والغضب والمشاكل، تسخر من المبالغة والمغالاة فيها. وفي المقابل تعبر عن حبها بالمشاركة، تحدثنا عن كل شيء، تشاركنا اللعب حتى مع أصدقائنا".

تتأمل فيموني حياة أمها بين ثقافتين ومجتمعين مختلفين شرقًا وغربًا، وحياتها كذلك كأبنة لأم هولندية "خواجاية" وأب مصري، مشيرة إلى أن الأمر لم يكن بالصورة الحالمة المتخيلة التي تبدو من الخارج فقد واجهتها الكثير من الأسئلة والأفكار والتحيزات والأحكام المسبقة، ففي مصر تُعامل على أنها أجنبية، وفي هولندا كانت تشعر بغربة حقيقية خاصةً أن أمها لم تعلمها لغتها من صغرها "عرفت منذ صغري أنني بين عالمين مختلفين تمامًا، وثقافتين تتنازعان ليس فقط بين عائلتينا هنا وهناك، ولكن داخلي أيضًا، هذا الصراع الذي كان كبيرًا في صغري وحسمته فيما بعد، تعايشت معه واستغللته لصالحي كثيرًا خاصةً في مصر".

بقدر حب "جيردا" لزوجها وتأثيرها بالثقافة المصرية وحياتها الممتدة لعقود في مصر، لكنها اختارت أن تربي فيموني بقدر كبير من الاستقلالية والحرية والصداقة، تتذكر الابنة مرحلة طفولتها وشبابها بقدر كبير من الإمتنان لأمها، وما حظيت به من تجارب وخبرات ودعم كبير منها "أعطتني أمي حرية لم أرها لدى أي من صديقاتي حتى اللاتي كانت أمهاتهن أجنبيات، صادقتني وحكت لي كل شيء عن حياتها، حدثتني عن الجنس والزواج وعلاقتها بأبي وبحبهما ومشاكلهما. كان هذا شيئًا غريبًا آنذاك؛ فهي لم تمنعني عن شيء، وإن فعلت شرحت لي الأسباب وأقنعتني، أرادت أمي أن تعطيني الفرصة لأتعلم من قراراتي وأن تساوي بيني وبين أخويّ الذكرين داخل مجتمع لا يعترف بذلك".

وتضيف:"تركتني أمي أسافر وحدي بالطائرة إلى هولندا وأنا في الثانية عشرة، مكثت هناك مع جدتي وخالتي "خوني"، وشجعتني خالتي أيضًا أن أذهب في رحلات بالأتوبيس وحدي إلى أماكن بها أنشطة خاصة بمن هم في سني. لم تعنفني قط إن تأخرت في المساء طالما كانت تعرف أين أذهب، ولم تعارض إن أردت المبيت لدى إحدى صديقاتي. كنت أتعجب كثيرا من اضطرار صديقاتي للكذب أو اختلاق الأسباب للتأخير أو للخروج من المنزل، لم أضطر قط للكذب على أمي؟ فلم يكن هناك ما أخفيه عليها".

جيردا وعمر وفيموني 2018
جيردا وعمر وفيموني 2018

تتذكر فيموني مقولة أمها المتكررة والدائمة لها:"لا أملك شيئًا سوى أن أساندك إن فعلت شيئا خطأ، وحدك ستتحملين عواقب ما تفعلينه، سأكون بجانبك دائمًا، وسأشعر بالأسف إن أخطأت، لكن أنت من ستعيشين الألم"، مشيرة إلى أن هذه الجملة كان لها أكبر الأثر على طريقة تعاملها مع الحرية حصلت عليها "كانت طريقة تربيتها لي شجاعة في مجتمع ينظر إليها دوما كـ "خواجاية"، ويصفني أيضًا بـ "ابنتها"، ولكنه كان أيضًا زمنًا مختلفًا، زمنًا مستقرًا أتاح الأمان لتلك الحرية التي حصلت عليها".

اقرأ أيضًا:كرنفال القاهرة

حياة ممتدة

يعكس الكتاب جهد توثيقي كبير لحياة الأم وعائلتها، يتضح في خطابات ويوميات "جيردا" وألبومات الفوتوغرافيا الحاضرة في نهاية كل فصل بكل ما فيه من تفاصيل وحيوية وحياة، ندرك كذلك من خلال تدفق وترابط الأحداث وتتابع الفصول قدر المجهود المبذول في كتابة وتحرير العمل؛ ليخرج بهذه الصورة الممتعة والروح الروائية المشحونة بكثير من الأفكار والمشاعر والخبرات والتجارب.

"في زيارتي إلى هولندا، أعطتني خالتي "هيلدا" كل خطابات أمي إليها من عام 1961 حتى عام 1979، لم أصدق أنها احتفظت بها طوال تلك السنوات! كانت أمي ترسل إليها وإلى أختها الكبرى (خوني) ووالديها خطابات من عدة صفحات تسطر بها كل ما يجري حولها من أحداث، احتفظت أمي أيضًا بكل خطابات عائلتها إليها، حاولت أن أقرأها ربما ستحوي تفاصيل كثيرة قد نسيتها أو أحداثًا لا أعرفها".

تختتم فيموني كتابها بدعوة لحياة ممتدة، رغم ما فيها من الآم الفقد، إلا أن مشاعر الحب والوفاء للذكريات الجميلة التي جمعتها بأمها تمنحها الحيوية والرغبة في الحب: "في عيد ميلادها الأول بعد رحيلها، قررت الاحتفال بما يليق بحياتها وبما تعشقه، حضرت حفلًا موسيقيًا في قلعة صلاح الدين، كان حفلًا رائعًا يجمع بين الموسيقى الكلاسيكية والحديثة. صرت أفعل هذا كل عام في عيد ميلادها، أحضر حفلًا موسيقيًا".

حيردا -المهندسين 2 فبراير 2018
حيردا -المهندسين 2 فبراير 2018

وتضيف: "في عام آخر سافرت إلى هولندا لأحضر حفل "أندريه ريو" الذي عشقت حفلاته والبهجة التي يثيرها في الحضور، شعرت بطيفها معي طوال الوقت، وقام الحاضرون معي بغناء أغنية عيد الميلاد لها. في أثناء فترة الكوفيد، أعدت ترتيب حجرتها لأول مرة، احتفظت ببعض ملابسها وصرت أرتدي منها ما أحبه في المناسبات الخاصة لتذكرني بوجودها معي".

اقرأ أيضًا:في ذكرى حليم.. "يا قلبي دايمًا خبي"

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة