في الخامس عشر من نوفمبر، مرَّت الذكرى المائة وخمسٌ وثلاثون على ميلاد عميد الأدب العربي؛ طه حسين.
وقبل ذلك.. وتحديدًا، في الثامن والعشرين من أكتوبر، مرَّت الذكرى الواحدة والخمسون على رحيله.
في المناسبتين لم نر من مظاهر الاحتفاء الرسمي، ما يناسب مكانة الراحل الكبير، ولا ما يعبِّر عن الحد الأدنى من تقدير أثره المعرفي أو قُل "الثوري"، في مجالات الآداب العربية، على اختلاف فروعها.
ضاع الحدثان الكبيران في اختناقات المرور، ونعيق حمو بيكا والذين معه، إذ ينطلق من "التكاتك"، ومتابعة "سعودية نانا"، ومشاحنات شيرين وحسام حبيب، وتفاهات إمام عاشور، ومُحَارشات شوبير والغندور، وما إلى ذلك من سفاسف الأمور.
لا نسأل الدولة بالطبع، سبب عدم الاحتفاء بالرجل الذي اصطدم "لودر" تطوير الجبَّانات بمقبرته، قبل نحو أسبوعين، ما أسفر في مشهد بائس عن تصدعها، بطريقة بدت في الظاهر قضاءً وقدرًا.. وضع تحت العبارة الأخيرة ألف خط.
أيما يكن.. صعبٌ أن تبدي "الجمهورية الجديدة" اهتمامًا برجل قال إن التعليم كالماء والهواء، في حين هي تقول: "يعمل ايه التعليم في وطن ضائع".
هناك ما هو أهم من الاحتفاء بالراحلين، وإن كانوا أعلامًا بازغين، ولدينا مشروعات نهضوية كبرى، ومنها تبليط الأهرامات، و"ورنيش" تماثيل أسود قصر النيل، وبيع كل ما يمكن بيعه من شواهد التاريخ.
المعنوي ليس في الحسابات، والروحاني ما لم يُصرف بأوراق البنكنوت يغدو صفريًّا جدواه وقيمته.
وبعيدًا عن اجترار الأحاديث حول "تصنيع الجهل"، واستراتيجيات الإلهاء كما ترد في نظرية نعوم تشاومسكي الشهيرة، وبمنأى عن "النكد العام" الذي لا طاقة لي بأثقاله في الوقت الراهن، فإن الحديث عن طه حسين، لهو من الأحاديث المحببة إلى قلبي، الأثيرة لنفسي.
ما إن غادرت في رحلة القراءة الطفولية، عتبة "ميكي جيب" و"المغامرون الخمسة"، حتى كنت قرأت في بواكير مراهقتي "الأيام"، وعلى مدار السنين أعدت قراءتها مرات على سبيل التسرية، راغبًا في "مزمزة مذاق" أسلوب الحكي عند طه حسين، ذاك الأسلوب الذي يعتمد على تكرار الفكرة ذاتها بعبارات وتركيبات لغوية وجُمل مختلفة، فلا ينتابك ضجر ولا يساورك ملل، إذ يغدو النص سلسًا منسابًا كصوت "الست" متى "تتسلطَّن" فتعيد وتزيد، والسميعة يسألونها المزيد.
لحظة فقدان النور
قلتُ لصاحبي وهو يحاورني: "أقف مبهورًا أمام عبقرية السرد في مستهل الجزء الأول لـ"الأيام"، يُجنُّني تصوير تلك اللحظة المؤلمة؛ لحظة فقدان الطفل نعمة البصر، أستعظم قدرة العميد المبدعة على تضفير تفاصيل آخر ما رآه، بهذه الدقة المتناهية، حتى لتشعر أنك ترى المشهد برمته نابضًا؛ الأرانب المكتنزة تقفز حول الهيش، ومياه الترعة الوادعة، والشمس التي تسحب ذيولها الذهبية عن الأرض بأناةٍ، وصولًا إلى اللون الأسود السرمدي النهائي".
وقلتُ: "أفكر أحيانًا أمام تلك الحروف المنثورة، وهذا الفسيفساء اللغوي المنمَّق، في ما إذا كان سيرضيني أن أقايض نعمة البصر مقابل أن أكتب مثيلًا في الجمال والروعة".. أجابني: مجنون.
في المناسبتين لم نر من مظاهر الاحتفاء الرسمي، ما يناسب مكانة الراحل الكبير، ولا ما يعبِّر عن الحد الأدنى من تقدير أثره المعرفي أو قُل "الثوري"، في مجالات الآداب العربية، على اختلاف فروعها
أعرف أني مفتون بالكلمات، أو كما يقول الماغوط: أعطيك عمري مقابل جملة حلوة، لكني مفتون أكثر بالإنسان، من حيث هو كيان يختزن في أعماقه خبرات تتأرجح بين السقوط والنهوض، لذلك فإن للسير الذاتية مساحة معتبرة في قراءاتي.
ذات مرة كنت جالسًا إلى الراحل عبد الوهاب المسيري، فقال بصوته الأخنف ونبرته الوئيدة: "أعظم ما يكتبه شخصٌ أدركته حرفة الكتابة، هو سيرته الذاتية".
سألته مُتسرعًا ومَدفوعًا بحماس صحفي شاب: "ومتى تكتب سيرتك الذاتية"؟
أجابني بابتسامة أبوية: "لقد فعلتُ منذ عام"، لم أكن أعرف، تلعثمت في خجلي و"أصبح عرقي مرقي"، ليس لائقًا ألا يذاكر الصحافي شخصًا سيلتقي به، على الأقل لكي يُحسِن طرح الأسئلة.
بقدر ما قرأت للمسيري، أؤجل قراءة سيرته الذاتية المعنوّنة؛ "رحلتي الفكرية من الجذور إلى الأعماق"، كأني أعاني عقدة إزاءها.. أقول لنفسي: سأقرؤها غدًا.. لا بعد غد، فلأفرغ من هذا الكتاب أولًا، ويحملني التسويف إلى تسويف جديد.
عودًا إلى السيرة الذاتية لعميد الأدب، فإن جمالياتها ليست في الأسلوب المميز للكاتب، ولا في سرد تحولاته الفكرية، ولا تقف عند رصد انطباعات الجنوبي الأزهري المعمّم عن باريس؛ مدينة الجن والملائكة، كما يصفها في روايته "أديب".
جماليات "الأيام" تكمن في ما سبق كله، وكذلك في أن صاحبها لم يتجمّل إذ تعرَّى على الورق، كاشفًا عن الشروخ العميقة في قلبه.
لا أعرف ما سر حالة الانتشاء المعجونة شجنًا التي تعترينا حين نقرأ مأساة إنسان؟ لماذا نقبل على البؤساء لفيكتور هوجو؟ ولماذا نحب الحرام ليوسف إدريس؟ ولماذا نستعذب آلام قيس الذي أفضى به حب ليلى إلى الجنون؟
ربما يرجع ذلك إلى أن استشراف آلام الآخر يطهر قلوبنا، عبر صهرها في نيران الأحزان.. ربما.
الدراما وفق تعريف أرسطو، منتجٌ فني يستهدف التطهير.
في "الأيام" أنفعل وجدانيًا بمشاهد حياة الطفل طه، المفعمة حزنًا، وانكسارًا وهزيمة ويأسًا وألمًا.
من بين مشاهد الرواية، ثمة مشهد لا يبرح وجداني، يدمي مشاعري بعمق كمن يعتريه نزيف داخلي، يمزق قلبي كأن ذبحةً تعتصره في ليلة عاصفة، يستعمر صمتها عويل الريح، وضجر الغربة القدرية.
الطفل يواجه حقيقته
يحكي الأديب عن الفتى طه، كأنه آخر منفصل عنه، وهذا الأسلوب من مواطن جمال "الأيام"، فيروي أنه بُعيّد انطفاء عينيه،كان يجلس إلى خوان طعام؛ طبلية على الأرض، يأكل مرقًا أو ما نحو ذلك من الطعام السائل، فإذا بخياله الضرير، يفكر في تجربة ما، والأطفال مولعون بالتجارب، شغوفون باختبار الحياة بالممارسة، ومن الخطأ والصواب يتعلمون.
مسيرة البشرية بأسرها تُختزل في مرحلة تعلم مهارات المشي.
تنمو عضلات الوليد يومًا بعد يوم، فيحاول الوقوف بمساعدة والديه، أو يتكئ على أريكة أو جدار، ورويدًا رويدًا تشيع الثقة في نفسه، فيخطو إلى الأمام بدون دعم، فيسقط مرة تلو مرة، فيتألم وقد تُشج جبهته، غير أنه لا يكف عن المحاولة، حتى تتسع الخطوة وبعدئذٍ "تدب الرِجْل مطرح ما تحب".
إزاء الطبلية فكَّر الفتى أن يغمس لقمتين في المرق، ثم يضعهما معًا في فمه بكلتا يديه، فلما فعل كاد يختنق، وسقط الحساء ساخنًا على جلبابه، فإذا بأشقائه يقهقهون، وإذا بصوت الشيخ أبيه ينضح بالأسى على فلذة كبده: "كُلْ بشكل صحيح يا طه".
مضى الجمع يقصفون ويأكلون، والطفل غارق في صمته الأسيف.
لقد استشعر خجلًا يتغلغل في خلايا وجدانه، وفي نسيج روحه كسكين مشرشر، وقد كتمه فلم يذرف حتى دمعةً، إلا حين آوى إلى فراشه بمنأى عن العيون.
رأى ببصيرته وجه محنته الشريرة، فأدرك أن عينيه المحبوستين في ظلامهما، ستحرمانه حتى من أن يمارس التجارب الطفولية.
ينقسم الإنسان إزاء وجوده الذاتي إلى ناظر ومنظور، وأكثر المشاعر إيلامًا أن يأسى الناظر على ما آل إليه حال المنظور، كذلك نقول باللهجة المحكية: "صعبت عليَّ نفسي".
كذلك أحس الطفل؛ "صعبت عليه نفسه"، ومن ذاك الشعور نشأت بينه وبين الطعام اللين قطيعةٌ لم تنته، إلى درجة أنه عكف على تناول الأطعمة الصلبة دون غيرها، الأمر الذي أسفر عن ملازمة أدواء عسر الهضم له طيلة حياته.
ثم يُقرن العميد في إطار تأصيل علته النفسية، تصرفه ذاك بما كان من مثيله في العمى؛ "المعري" في موقف مشابه.
كان أبو العلاء يخجل من تناول الطعام أمام الناس.
وكان يخصص سردابًا تحت داره فيأمر خادمه أن يترك فيه طعامه، بزاوية متفق عليها، ليعود إليه حين يجوع، فيأكل بمنأى عن العيون التي قد تسخر منه أو تأسف عليه.
وذات مرة اشتهى الشاعر العباسي البطيخ، فأمر خادمه أن يبتاع واحدة، فيأخذ حصته ثم يضع ما تبقى في السرداب.
ولسبب غير مفهوم، لم يضع الخادم البطيخ في موضع مغاير، فلما تلمَّسه الشاعر فلم يجده استحى أن يستفسر.
خجل ذاك الخجل الكبير الذي يخترق قلب ذي الإباء، وذي الألم، من أن يكاشف الناس بعلته.
في حادثتي الفتى طه الذي تساقط الطعام فلوث ملابسه، والشيخ المعري الذي أبى أن يستفسر عن مكان الفاكهة حين اشتهاها، تتشكل ثنائية "الحزن والكتمان"
بعض الناس يؤثرون الصمت منطويين على أوجاعهم، منكفئين على أحزان تفتت أكبادهم، دون أن يبوحوا بها.
كذلك فعل المعري، حتى فسد البطيخ ففاحت رائحته النتنة، فاستخرجه من السرداب فرمى به، ثم كتب ما حدث فيما بعد.
لكن لماذا كتب ما لم يستطع البوح به شفاهيةً؟
وكذلك لماذا يسرد طه حسين واقعة الطعام اللين؟
كلاهما كتوم خجول، يأبى إظهار الجانب الضعيف من ذاته، لكنهما أفصحا على الورق.
تلك خاصية راسخة في نفوس الأدباء، فالأديب متى أحس خاطرة، أو استشعر أمرًا، أو راودته فكرة، هرع إلى بثها إلى القرّاء.
كذلك يقرر طه حسين في تقديم كتاب ما، من كتبه التي قرؤتها مبكرًا.
لا أتذكر عنوان الكتاب على وجه التحقيق، ربما هو "مع المتنبي"، لكني لم أنس العبارة، لكونها تمسني مسًا عميقًا.
ثنائية الحزن والكتمان
في حادثتي الفتى طه الذي تساقط الطعام فلوث ملابسه، والشيخ المعري الذي أبى أن يستفسر عن مكان الفاكهة حين اشتهاها، تتشكل ثنائية "الحزن والكتمان".
هناك أحزان فوق البوح، وأعمق من الرموز اللغوية.
أرأيتَ كيف يستقبل الصدر خنجرًا؟
يلتوي المطعون متداخلًا بعضه على بعضه، ومع الألم الفائق يضم ذراعيه حول النزيف المتدفق، كأنه يحضن نفسه بيديه، في لحظة الاحتضار.
بعض الحزن احتضار بالتقسيط، لا يقال، ولا يجدر بالمرؤ أن يقوله، إن كان حرًا أبيَّ القلب والروح.
إنه حزن ضرير، كما يقول شاعرنا صلاح عبد الصبور؛ حُزن لا يَرى، ولا يُرى، تمامًا مثل أحلام المعتقلين بباب مفتوح.