تمثل المعارضة السياسية بصورها متنوعة الأشكال والمصادر، أحد أهم الضمانات المؤسسية التي تستهدفها النفعية الديمقراطية، لضمان قدرة النظم السياسية على التعافي من أمراض التكلس النخبوي، وهيمنة جماعات المصالح الطفيلية وجمود الرؤى والبدائل السياساتية، فيما يتعلق بالكفاءة والقدرة الفاعلة والفعالة على التعامل مع القضايا والتحديات الهيكلية، التي قد تعاني منها النظم الحاكمة في لحظات مفصلية من تاريخها الذي قد يمتد ويستطيل بما يسمح لبعض التكوينات، ذات الطابع العشائري أو النفعي، بالسيطرة والتأثير على قراراته وتوجهاته العامة.
طبيعة النظام السياسي
وبالنظر للدستور المصري 2014، نجد أن المشرع كان حريصًا عند صياغته للمادة الخامسة، على التأطير الواعي لطبيعة النظام السياسي، وتحديد مرجعيته السياسية، بالنص على أن التعددية السياسية والحزبية هي أساس هذا النظام ومصدر قوته وكفاءة تنظيمه، بل وألزم الدولة ضمن واجباتها الأساسية، بتعزيز وضمان كفاءة حالة التداول السلمي للسلطة، وإتاحة مناخ آمن لدعم وتيسير عمل الأحزاب، وقدرتها على التواصل مع الجماهير، وتنفيذ حملات الحشد أو الضغط الراغبة، في التأثير على السياسات العامة، وعمليات صنع القرار دون تمييز أو تقييد لا يتسق والقواعد الدستورية العامة، أو بما يخالف المعايير والاشتراطات الأممية المنظمة لفضاءات العمل العام.

غير أن الذهاب للواقع المعاش وتقييم تجربة التعددية السياسية، على المستوى الواقعي في جانبها المعارض والمعترض عبر الأحزاب أو النشطاء والفاعلين، على طريقة إدارة وانحيازات السلطة تجاه ملف السياسات العامة، يكشف عن عمق الهوة وارتباك البوصلة، التي تحدد توجهات تلك القوى السياسية، ومدى استجابتها لهذا الواقع والتي يفترض كونها تأتي تطبيقا لعملية رقابية ترتبط بقدرة تلك الأحزاب، على التفاعل الضاغط والمؤثر نحو تحسين الممارسة أو تقديم بدائل محتملة، أكثر كفاءة ومرونة في معالجة التداعيات السلبية المرتبطة بتلك السياسات والاقتراب بالخطاب والمواقف من طموحات وأحلام المواطنين.
المعارضة الحزبية والسياسية
فالمعارضة الحزبية والسياسية، متعددة الأشكال والأطر المؤسسية، التي ظلت لسنوات طويلة تقدم تنويعات متباينة من الأداءات السياسية التي كانت سمتها الرئيسية، في توافقها مع التعريفات النظرية والأكاديمية للمصطلح الذي يوصفها كقوي معارضة، تغيرت سماتها وخصائصها الفنية والأدائية بشدة خلال العقد الأخير، من العمل في إطار المؤسسات البرلمانية والشعبية، للدرجة التي قد تستوجب العودة لمراجعة وتقييم تلك المعارضة بما يتوافق حول مدلولات اللفظ وغايات الحركة.

حيث شهدت المعارضة الكلاسيكية ـ المتمثلة في الأوعية الحزبية، التي نشأت وعاشت خلال تجربة التعددية الثالثة منذ سبعينات القرن الماضي ـ انتكاسة حقيقية في مستويات الممارسة، تباعدت بها وبشدة عن تراثها وماضيها الفكري علي خلفية عمليات تصعيد، لكوادر تفتقد لشفرات التواصل الجماهيري أو لكفاءة العمل النيابي بقدر ما تمتلك من ولاء وتبعية لقادة الأحزاب والتنظيمات أو تواصل غير مرئي، مع دوائر السلطة انعكست على ممارستها التي افتقدت للحد الأدنى من القدرة علي التعبير عن ماضي تلك الأحزاب، أو تمثيل قواعد الناخبين والحديث باسمهم وأولوياتهم على المستوى النيابي.
فوجدنا نواب لا ينطقون تحت قبة المجلس بقدر ما وجدنا نواب أحزاب لا يعرفون زملائهم في الهيئة البرلمانية للحزب ذاته بل ويجلسون وسط هيئات برلمانية لأحزاب أخرى حتى وصل الأمر للتندر بواقعة مثيرة للدهشة عندما قام أحد رؤساء أحزاب المعارضة بزيارة لمجلس النواب خلال اجتماع لإحدى اللجان البرلمانية فتقدم أحد النواب للترحيب به وعندما استشعر عدم معرفة رئيس الحزب بشخصه أعاد تقديم نفسه مؤكدًا علي أنه عضو بهيئة الحزب البرلمانية وهي واقعة ليست متفردة بل تكررت في تصويتات وممارسات العديد من النواب الذين ساهمت ممارساتهم في تصدير صورة غير ايجابية عن المجلس وعن القوى والتنظيمات الحزبية التي تنتمي له .
في المقابل عجزت أحزاب وتنظيمات المعارضة غير البرلمانية، في أن تقدم أداء سياسي ونوعي، يعزز من صورتها لدى المواطن باعتبارها تصلح كبديل مناسب ومقبول، لتلك الأحزاب البرلمانية، بالنظر لحالة المكايدة والطفولية السياسية، التي هيمنت على خطابها ومواقفها التي أصبحت رهنًا بالوقوف على الضفة المغايرة للسلطة والهجوم عليها بشكل مرضي حمل في العديد من جوانبه انصياعا لأجندات ومواقف لا تتسق مع المصلحة الوطنية أو تخدم بها على مواقف وانحيازات لجماعات وتكوينات ثار عليها الشعب المصري و تلوثت أيديها بدماء المصريين .
الأدهى من ذلك أن قوى المعارضة غير البرلمانية في نقدها وهجومها على السلطة، عجزت عن طرح البديل السياسي أو السياساتي الذي يمكن الأخذ به وتطبيقه لإصلاح أخطاء أو خطايا الممارسة التنفيذية، رغم تكرار المواقف والملفات التي كان الجدل والغضب واضحًا، ضد ما تقدمه أو تمارسه الحكومة القائمة سواء علي مستوي تشريعات مثل قانون الإدارة المحلية، أو قانون الإجراءات الجنائية، أو قوانين تنظيم المشاركة السياسية، أو على مستوى أسلوب إدارة الملف الاقتصادي، وتحديد سبل الخروج من الأزمة الحالية، بأقل قدر من المعاناة التي يتحملها الفقراء ومحدودي الدخل، حيث أثبتت المواقف والممارسات أن هؤلاء الذين يوصفون أنفسهم باعتبارهم معارضة جذرية لا يفعلون ما هو أكثر من الخطاب الصارخ و المتشنج الذي لا ينضوي على رؤية قابلة للتنفيذ أو الحوار بشأنها .
السؤال والتحدي الحقيقي
ليصبح السؤال والتحدي الحقيقي الذي تولده تلك الممارسة مرتبطًا بالأساس بمدى القدرة على احتمال استمرار تلك الآلية في صياغة وبناء النخبة التفاعلية للمشهد العام في الانتخابات النيابية القادمة، وهل يمكن الرهان على كفاءة عمليات التقييم والمراجعة بصورة تجعل المجالس القادمة أكثر فعالية، وتعبير عن المواطنين ولديها مهارات وقدرة على تطوير السياسات المقترحة أو طرح بدائل أكثر كفاءة واستجابة لطموحات المواطنين، أم أن معايير الاختيار والترشح ستظل تميل بصورة أكثر للعناصر الهامشية التي تلتصق بالمقاعد الخلفية للسلطة ولا يشغلها سوى مصالحها الضيقة والمحدودة على حساب الوطن والمواطنين.

الواقع العام يقول بأن معالجة تلك المثالب والثغرات لم يعد ترفًا، بقدر ما أصبح ضرورة تفرضها الظروف العامة وتحديات الوضع الاقتصادي، التي تركت قطاعات واسعة من المواطنين أسري لمعاناة غير محتملة للوفاء بمتطلبات المعيشة وتفرضها أيضًا طبيعة نظام الحكم ورؤيته لإدارة ملفات الدولة التي تتحرك عبر العديد من المشروعات الوطنية وخطط التنمية التي ترسخ لمفهوم جديد للجمهورية، يتطلب الدفاع عنه ومساندته وتحقيق غاياته لنواب يمتلكون رؤى وقناعات وخطاب مختلف في دعمه وتأييده حتى ولو كان ذلك بالكشف عن المثالب والتنبيه للفجوات وطرح ما يمكن له معالجتها وتعظيم الفائدة من ورائها.
فالتجارب كانت وما زالت تثبت أن الأوطان لا تبنى (وفقط) على أكتاف الداعمين و المهللين وإنما تحتاج دومًا لمن يدق ناقوس الخطر وينبه للمخاطر المحتملة قبل أن تضيع الفرصة أو يضل الطريق.
*الكاتب: مدير المجموعة المصرية للدراسات البرلمانية