أعلنت صحيفة "نيويورك تايمز" بعد فوز دونالد ترامب الكبير على كامالا هاريس، عبر عنوان بارز "أمريكا تستعين برجل قوي"، أن البلاد "تقف على حافة" مستوى غير مسبوق من الحكم الاستبدادي في تاريخها الممتد لـ248 عامًا. وأشارت "بوليتيكو" في تقريرها بعنوان "ترامب وعد بالانتقام، إليكم أهدافه" إلى قائمة بالأعداء الذين قد يستهدفهم ترامب وحلفاؤه واحدًا تلو الآخر.
وتصدرت الصفحة الأولى لـ"ذا نيويوركر" صورة ظلية لترامب بلون أحمر دموي على خلفية سوداء مع عنوان "انتقام دونالد ترامب: الرئيس السابق يعود إلى البيت الأبيض أكثر تقدمًا في العمر، وأقل تقييدًا، وأكثر خطورة من أي وقت مضى". وهكذا مهّد ستيفن فيلدستين الأستاذ في جامعة بويز ستيت والذي تولى منصب نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية، للحديث عن توعدات ترامب ومدى تحققها في المستقبل القريب.
ستيفن فيلدستين
ستيفن فيلدستين، باحث في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، يركز على تكنولوجيا السياسة والديمقراطية العالمية. ألّف "صعود القمع الرقمي" وحاز على جائزة عام 2023. عمل أستاذًا في جامعة بويز ستيت وتولى مناصب حكومية بارزة، منها نائب مساعد وزير الخارجية. خريج جامعتي برينستون وبركلي للقانون.
وفق تحليل "فيلدستين" في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، فإن فترة ترامب الثانية قد تكون انزلاقًا نحو الحكم الاستبدادي فعلًا؛ فالرجل لم يبذل جهدًا يُذكر لدحض الادعاءات حول انتقامه الذي يعده، وهو يعبر علنًا عن إعجابه بقادة مستبدين ويطمح للحكم بأسلوب مشابه. وفي لحظات مظلمة، تخيل إطلاق النار على خصومه السياسيين، وتولي الحكم كديكتاتور منذ اليوم الأول.
لكن "فيلدستين" يشير أيضًا إلى تساؤل مهم: هل يجب أن نصدق ترامب في تصريحاته؟ وهل سيقود أمريكا بالفعل نحو مسار استبدادي؟ أم أن خطابه مجرد حيلة محسوبة لاستفزاز خصومه وإمتاع مؤيديه؟
يأتي القادة الأقوياء بأشكال مختلفة؛ فبعضهم يتصرف كزعماء قويين يلتزمون بقيود الديمقراطية، بينما يتبنى آخرون أساليب قمعية تهدف إلى تدمير الضوابط والتوازنات المؤسسية.
يقول عالم السياسة الأمريكي الشهير لاري دايموند إن الخطر الأكبر على الديمقراطية يأتي من تمكين "القادة الأقوياء" الذين "يتجاوزون المؤسسات القائمة ويقوضونها مثل الكونجرس، والمحاكم، ووسائل الإعلام، والمعارضة السياسية" بدعوى الإنجاز. وهم مثل رجب طيب أردوغان في تركيا، وفيكتور أوربان في المجر، اللذان وضعا نماذج لكيفية خنق التعددية الديمقراطية وترسيخ الاستبداد.
اليوم، ومع عودة ترامب إلى الرئاسة، يتساءل المحللون إلى أي مدى سيذهب ترامب في تطبيق أساليب الحكم الاستبدادي؟ ويجيب : قد يستغرق الأمر وقتًا لمعرفة إلى أين ستقود ولاية ترامب الجديدة، لكن هناك مؤشرات محددة يمكن أن تكشف إذا ما كان انحدار أمريكا نحو السلطوية حقيقيًا.
أولًا، هل سيستخدم ترامب السلطة لملاحقة خصومه السياسيين؟
تزدهر الديمقراطيات عندما يؤمن الفاعلون السياسيون بأن الالتزام بقواعد اللعبة يصب في مصلحتهم حتى في حالة الهزيمة.
الباحث السياسي آدم برزيفوريسكي يوضح أن مستويات التنافس على السلطة يجب أن تبقى منخفضة "بحيث لا يخشى الناس من الهزيمة الانتخابية لدرجة أنهم يلجؤون لوسائل أخرى، مثل الانقلابات، لتغيير النتائج".
وهذا يعني أن الفائزين بالانتخابات ملزمون بالتحلي بضبط النفس تجاه الخاسرين، وإبقاء الباب مفتوحًا أمام إمكانية فوزهم في المستقبل. إذا تحققت هذه الشروط، تعمل الديمقراطيات بكفاءة. لكن ملاحقة الخصوم السياسيين تقوض هذا الفهم وتنقل رسالة خطيرة: الخاسرون في الانتخابات لا يكتفون بخسارة السلطة، بل يواجهون خطر التعرض للأذى الشخصي.
وفقًا لإحصاءات NPR، أطلق ترامب أكثر من 100 تهديد بـ"مقاضاة أو معاقبة خصومه المفترضين" خلال حملته الانتخابية لعام 2024. في تجمع انتخابي في سبتمبر، اقترح أن يتم عزل ومحاكمة نائبة الرئيس كامالا هاريس. والعام الماضي، وعد بتعيين مدعٍ خاص "لملاحقة الرئيس الأكثر فسادًا في تاريخ الولايات المتحدة، جو بايدن، وعائلة بايدن الإجرامية بأكملها". وفي الأيام الأخيرة من السباق الانتخابي، هدد بشكل غير مباشر بإطلاق النار على ليز تشيني، التي كانت من أبرز المعارضين له بعد أحداث الشغب في يناير 2021.
إذا نفذ ترامب هذه التهديدات، فستكون تلك لحظة فاصلة وصادمة في تاريخ الديمقراطية الأمريكية.
ثانيًا، هل سيقوض ترامب مبدأ حيادية الجيش ويستخدمها في مهام الشرطة الداخلية؟
تُعتبر فكرة أن الجيش الأمريكي غير حزبي ويخدم جميع المواطنين بغض النظر عن الانتماءات السياسية مبدأ راسخًا يحمي الديمقراطية الأمريكية، إذ يضمن أن الجيش لن يتدخل لتحقيق نتائج سياسية معينة.
قانون "بوسي كوميتاتوس"، الذي وُضع بعد الحرب الأهلية، يؤكد هذا المبدأ ويمنع الرؤساء من استخدام الجيش لفرض السيطرة الداخلية إلا في حالات الطوارئ القصوى.
ومع ذلك، خلال فترة رئاسته الأولى، ناقشت إدارة ترامب إمكانية استخدام "القوات النظامية" لقمع احتجاجات "حياة السود مهمة" في عام 2020، لكن معارضة مستشاريه الكبار دفعته للتراجع.
وفي حملته الانتخابية، واصل ترامب التلميح لاستخدام القوات ضد المواطنين الأمريكيين. ففي عام 2022، هدد بإرسال الجيش لضبط الأمن في المدن الكبرى، قائلًا: "في الأماكن التي يحدث فيها انهيار حقيقي في سيادة القانون، مثل أخطر الأحياء في شيكاغو، يجب على الرئيس القادم استخدام كل السلطات المتاحة لاستعادة النظام، وإذا لزم الأمر، بما في ذلك إرسال الحرس الوطني أو الجيش".
وعندما سُئل في مقابلة مع مجلة "تايم" في أبريل عن احتمال تجاوزه لقانون بوسي كوميتاتوس لاستخدام الجيش في خطته للترحيل الجماعي، أجاب: "حسنًا، هؤلاء ليسوا مدنيين... أرى أنه من الممكن استخدام الحرس الوطني، وإذا لزم الأمر، سأخطو خطوة أبعد".
ومن اللافت، وفق ما يقوله "فيلدستين"، أنه تحدث عن استخدام القوات لإسكات المعارضين والنقاد، قائلًا: "لدينا بعض الأشخاص المرضى، المتطرفون اليساريون... يجب التعامل معهم بسهولة باستخدام الحرس الوطني أو الجيش إذا لزم الأمر".
تجاوز هذا الحاجز سيشكل تحذيرًا واضحًا بشأن تحول محتمل نحو الاستبداد في البلاد، يقول "فيلدستين".
ثالثا، هل سيستخدم ترامب السلطات القسرية للدولة لتقييد المجتمع المدني؟
في الديمقراطيات السليمة، تعمل المجموعات المستقلة كجهة رقابية حيوية على سلطة الدولة، حيث تراقب الانتهاكات الحكومية، وتكشف عن الفساد بين المسؤولين، وتعزز المشاركة السياسية والوعي بين المواطنين.
مع ذلك، قبل أن يتولى ترامب منصبه حتى، يواجه المجتمع المدني الأمريكي هجمات متزايدة على مستوى الولايات.
الباحثة في مؤسسة كارنيجي ساسكيا بريشنماخر، توضح ذلك، فتشير إلى وسائل الإعلام والمجموعات الرقابية ومنظمات المناصرة التي تتعرض لتكتيكات ترهيب قانونية وسياسية تشبه تلك التي تُستخدم لمضايقة وإسكات النشطاء في المجر والهند وتركيا وغيرها من الديمقراطيات المتراجعة.
ولا توجد مؤشرات على تراجع هذه الهجمات تحت إدارة ترامب. فقد دعا إلى سحب تراخيص البث من شبكات تلفزيونية مثل CBS وABC وNBC بعد أن بثت تقارير غير ملائمة له. كما وعد بإعادة لجنة الاتصالات الفيدرالية، المسؤولة عن تنظيم تلك التراخيص، "تحت السلطة الرئاسية كما يقتضي الدستور".
وخلال حملته الانتخابية، ناقش ترامب على الأقل مرتين "سيناريوهات لسجن الصحفيين في سياق تحقيقات التسريب، وألمح إلى أن التهديد بالاغتصاب في السجن قد يدفعهم للكشف عن مصادرهم"، وفقًا لتقرير من فانيتي فير.
أما فيما يتعلق بالاحتجاجات المدنية، فقد تعهد ترامب باستخدام يد صارمة.
وبشأن مظاهرات الحرب في غزة، قال في لقاء مع المتبرعين: "أول شيء أفعله هو طرد أي طالب يحتج. تعلمون أن هناك العديد من الطلاب الأجانب، وبمجرد أن يسمعوا بذلك، سيتصرفون بحذر". وفي اللقاء نفسه، تعهد فقال: "إذا أعدتم انتخابي، سنعيد هذا الحراك إلى الوراء خمسة وعشرين أو ثلاثين عامًا".
ويقول "فيلدستين" إن السؤال المطروح هو إلى أي مدى سيتصاعد الضغط على المجتمع المدني خلال فترة ترامب المقبلة؟ وهل سيتجاوز هذا الضغط الخط الأحمر ليصبح قمعًا علنيًا، مشابهًا للضغوط التي تواجهها المنظمات والنشطاء في الدول غير الديمقراطية؟ ويجيب بأنه إذا حدث ذلك، فإنه سيشكل تآكلًا آخر في أحد المعايير الأساسية التي تحمي الديمقراطية الأمريكية.
رابعًا، هل سيتجاهل ترامب المؤسسات التي تهدف إلى ضبط سلطته؟
صمم الآباء المؤسسون للولايات المتحدة دستورًا يمنع تركيز السلطة في يد فرد أو مؤسسة واحدة. ورغم تزايد سلطات الرئاسة على حساب الكونجرس والمحاكم، فإن المساءلة الأفقية بين الفروع تظل ركيزة أساسية للنظام الأمريكي.
من المعروف أن ترامب كان في صراع مستمر مع المحاكم: خلال السنوات الأربع الماضية، واجه خطرًا قانونيًا كبيرًا بسبب عدد من القضايا والتحقيقات. ومع فوزه في الانتخابات، سيتوقف خطر الملاحقات القانونية الفيدرالية (على الأقل على المستوى الفيدرالي، فيما سيبقى مصير القضايا على مستوى الولايات في جورجيا ونيويورك غير واضح).
المسؤولون في وزارة العدل بصدد إنهاء القضايا الجنائية الفيدرالية ضد ترامب "امتثالًا لسياسة الوزارة المستمرة التي تمنع ملاحقة الرئيس أثناء فترة ولايته". لكن هذا لا يعني أن ترامب سيتوقف عن معاداة السلطة القضائية أو محاولة تقويض المحاكم. خلال ولايته الأولى، كان ترامب يهاجم بانتظام القضاة والمحاكم.
هاجم ترامب علنًا قضاة المحكمة العليا جون روبرتس وسونيا سوتومايور، وحتى الراحلة روث بادر جينسبيرغ، مدعيًا أنها "أصبحت غير عقلانية" خلال حملته الرئاسية الأولى.
كما اقترح من حين لآخر تغيير هيكل النظام القضائي. ففي عام 2018، أصدر القاضي الفيدرالي جون تيجار حكمًا يقضي بضرورة قبول طلبات اللجوء بغض النظر عن مكان دخول المهاجرين إلى الولايات المتحدة. وعلق ترامب قائلًا إن تيجار "قاضٍ أوبامي"، مشيرًا إلى محكمة الاستئناف التاسعة بأنها "شيء يجب النظر فيه لأن الأمر ليس عادلًا"، وأضاف: "هذا ليس قانونًا. كل قضية تُرفع في محكمة الاستئناف التاسعة نخسر فيها".
كما هاجم ترامب الهيكل الفيدرالي لأمريكا، وسيس تعاملاته مع الولايات "الزرقاء" الديمقراطية.
وفي ولايته الأولى، اقترح تشريعات وطبّق سياسات، من الرعاية الصحية إلى الضرائب، التي كانت تفضل المواطنين في الولايات "الحمراء" وتستهدف الأفراد في الولايات "الزرقاء". وفي عامه الأخير في منصبه، أرسل مرارًا عملاء اتحاديين إلى مدن ديمقراطية، حتى عندما عارضت القيادات المحلية والحكومات الديمقراطية هذه التحركات.
وفي إحدى الحوادث الشهيرة، أرسل ترامب موظفين اتحاديين إلى بورتلاند، أوريجون، بحجة حماية محكمة اتحادية أمريكية، لكن التقارير أظهرت أن عملاء اتحاديين يرتدون ملابس مموهة من دون هويات، كانوا يلقون المواطنين في سيارات غير مُعلمة ويقتادونهم إلى السجون.
وقد واصل ترامب هجومه على أمريكا الزرقاء في حملته الانتخابية لعام 2024. وتعهد بحجب التمويل الفيدرالي عن المدارس في الولايات الزرقاء التي تدرس مواضيع معينة مثل نظرية العرق النقدية أو "أيديولوجيا الجندر"، وتحدث عن التحقيق مع "المدعين العامين المحليين الماركسيين".
ومعبرًا عن هذا كخطر كبير، قال حاكم ولاية كونيتيكت الديمقراطي دان مالوي: "أن تكون حاكمًا ديمقراطيًا أو في ولاية ميّالة للديمقراطية في عهد ترامب يعني أن تكون معاقبًا".
لكن الاختبار الأهم لولاء ترامب للدستور وللضوابط المؤسسية سيكون ما إذا كان سيحاول الترشح لفترة رئاسية ثالثة، على حد قول "فيلدستين". وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال محظور بموجب التعديل الثاني والعشرين، فقد طرحه ترامب بالفعل.
في تجمع انتخابي في مايو في دالاس، قال ترامب: "روزفلت كان في منصبه لمدة 16 عامًا - أربع فترات. لا أعرف، هل سنعتبر ثلاثة فترات؟ أم فترتين؟"، فصاح بعض الحضور ردًا عليه: "ثلاثة".
يقول "فيلدستين" إن تجاهل حدود الفترات الانتخابية هو تقليد استبدادي طويل الأمد، تبناه زعماء مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جينبينج. وإن محاولة ترامب للانضمام إلى صفوف هؤلاء القادة ستكون لحظة حاسمة في الديمقراطية الأمريكية.
لا تزال مجرد تصريحات.. ولكن
يرى "فيلدستين" أن هذه القضايا الأربعة التي طرحها ليست الإشارات الوحيدة التي قد تشير إلى تحول كبير نحو الاستبداد في حال فاز ترامب بولاية ثانية. فقد طرح ترامب أفكارًا غير ديمقراطية وغير ليبرالية أخرى، من أبرزها الترحيل الجماعي للملايين من المهاجرين.
ويقول "فيلدستين" إنه إذا تآكلت أي من هذه القضايا الأربعة بشكل كبير، فسيشكل ذلك تحولًا حقيقيًا بعيدًا عن نحو 250 عامًا من الحكم الديمقراطي في الولايات المتحدة. لكنه، يحذر أيضًا من أنه مع ترامب دائمًا يظل هناك خطر المبالغة في تفسير كلماته، حيث يمكن أن يتم إعطاء نوايا تتجاوز ما يقصده فعلًا.
ومع ذلك، لا يجب التقليل من تأثير خطابه التحريفي، خاصة في ظل نظام حكومي يمكن أن يُستغل بسهولة.
ويشير إلى رأي الروائي ألين دروري، حين قال: "الديمقراطية هي أكثر الأشياء هشاشة على وجه الأرض، لأنها لا تعتمد على شيء سوى توافقنا في الحفاظ عليها. في اللحظة التي نقرر فيها أننا لن نفعل ذلك، تنتهي الديمقراطية. لا تعتمد على شيء سوى نحن؛ لا تعتمد على القوة المسلحة، وفي اللحظة التي تعتمد فيها على ذلك، لن تعود ديمقراطية".