شهدت السياسة العالمية الكثير من التساؤلات حول ما إذا كان من الممكن أن يعيد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب صياغة النظام العالمي بشكل صادم، أو أن يكون أداؤه أقل من المتوقع في ظل خطابات طغت عليها المبالغة على حساب الفعل.
لكن المؤكد أن فترة ترامب الثانية ستكون مضطربة، حتى وإن اتجه إلى أقصى درجات العزلة الأمريكية التي تعني القيام بالقليل، والتي قد تؤدي إلى تغييرات كبيرة، وفق تقرير حديث لشبكة "سي إن إن" الإخبارية التي تطرقت إلى ملامح الفوضى المتوقعة عالميًا مع وصول ترامب مجددًا إلى البيت الأبيض.
كانت تفاصيل السياسة الخارجية لترامب تفتقر إلى الوضوح؛ وهو ما يعتبره ميزة.
وقد أبدى -خلال فترة رئاسته الأولى- رفضًا للحروب التي تُجر الولايات المتحدة إليها. كما أظهر انحيازًا نحو الديكتاتوريين أو على الأقل القادة الأقوياء. وكذلك، أبدى حرصًا على الصفقات التي يراها جيدة، ودمر تلك التي يعتبرها سيئة. ولم يُخفِ استياءه من الحلفاء الأمريكيين الذين يعتقد أنهم يستغلون بلاده. ورفض الاعتراف بتغير المناخ بشكل واضح.
الأكيد أيضًا في مسيرة ترامب التي ستبدأ في يناير المقبل أنه ورث عالمًا غير مستقر، وأن الولايات المتحدة نفسها لم تعد تُعتبر منارة لا جدال فيها للحرية والتفوق الأخلاقي الذي يجلب السلام الدائم. وقد تركت إدارة الرئيس جو بايدن الحالية سلسلة من الأزمات العالمية التي لم تُحل بشكل كامل، وبعضها قد يكون لا يزال مشتعلًا.
ما بين ترامب وبايدن.. أزمات الإدارة الأمريكية
ومع ما هو متوقع من احتمالية أن يشعل ترامب الفوضى بسياسته وأدائه كرئيس غير متوقع، يبقى السؤال -وفق "سي إن إن": هل يمكن أن يكون الاضطراب الذي ورثه عن إدارة بايدن مثمرًا؟ وهل يمكن أن تؤدي إعادة التفكير الفوضوية التي من المقرر أن يتبعها إلى نتائج إيجابية؟

شهدت فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الأولى أحداثًا أقل أهمية مقارنةً بالأربع سنوات التي تلتها. تضمنت ولايته إنهاء وجود تنظيم داعش، وإجراءات مثل حظر السفر، والتوترات مع إيران بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إبرام صفقة مع طالبان، إلى جانب السماح لتركيا بالتوغل في شمال سوريا، وتقارب غريب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
في المقابل، جاءت فترة الرئيس جو بايدن بفيض من الأزمات: الانهيار المفاجئ للحرب الأطول لأمريكا في أفغانستان، وغزو روسيا لأوكرانيا، ثم هجمات 7 أكتوبر في إسرائيل، والتوترات مع غزة وإيران ولبنان.
قد يكون ترامب ساهم في تمهيد بعض هذه الأحداث، لكن من الواضح أن فترة بايدن كانت أكثر ازدحامًا بالأزمات. والسؤال المطروح الآن: هل ساهم ترامب في الهدوء النسبي خلال ولايته الأولى؟
أحد الأمثلة البارزة على اتخاذه خطوات مفاجئة كانت اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني في 2020. تلك العملية أظهرت جرأة ترامب وعدم تردده في اتخاذ خطوات غير تقليدية، إذ أدت إلى اختبار مدى قوة إيران التي أظهرت محدوديتها بعد سنوات من القتال ضد الثوار السوريين وداعش.
ترامب وبايدن أكثر من حليفين.. ولكن
فيما يتعلق بالسياسة الإسرائيلية، تتوقع "سي إن إن"، أن تعود علاقة ترامب الواضحة مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالفائدة على الأخير. لكن، مع توجه ترامب لتقليل التدخلات الأمريكية، قد يجد نتنياهو أن الدعم المطلق من واشنطن يتراجع في نزاعاته المستقبلية، خاصة بعد ما جلبته الحرب في غزة من نتائج مؤلمة للديمقراطيين في الانتخابات التي فاز بها ترامب.

إيران.. نقطة ترامب الساخنة
الملف الإيراني سيظل نقطة ساخنة في إدارة ترامب للأزمات، كما تقول "سي إن إن"؛ فإيران، التي عرفت عن ترامب ميله للتصرفات غير التقليدية وعدم احترام الأعراف الدولية، قد تجد نفسها أمام رئيس لا يتردد في شن ضربات استباقية بدعم إسرائيلي.
ومع رحيل بايدن الذي تجنب الحرب مع إيران، تبدو طهران في موقف ضعيف، وتواجه الآن رئيسًا يذكرها بمحاولة اغتياله في الماضي، مما يعزز التوتر.
الصين.. مواجهة جديدة مع ترامب
وفق "سي إن إن"، قد تكون الصين الأكثر تأثرًا بسياسات ترامب التي تتسم بعدم الاستقرار. فرغم تهنئة الرئيس شي جين بينغ لترامب، قد يواجه كلا البلدين صراعًا تجاريًا قد يُحل بالصفقات، وستتظل قضية تايوان تهديدًا مستمرًا، حيث قد يجد ترامب نفسه في صراع بين الدفاع عن تايوان أو تجنب الظهور بمظهر الضعيف.
أوكرانيا.. مستقبل مجهول من الدعم
أما فيما يخص أوكرانيا، فسيكون أول قرار محفوف بالمخاطر لترامب هو موقفه من الدعم الأمريكي المستمر. أي صفقة قد تفرض على كييف تقديم تنازلات إقليمية وتمنح موسكو فرصة لإعادة ترتيب صفوفها، ما يمثل خطرًا على الأمن الأوروبي.

وتقول "سي إن إن" إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أدرك أن هذا اليوم سيأتي عندما يصبح استمرار الحرب إلى ما لا نهاية أمرًا غير مقبول لحلف الناتو، أكبر تحالف عسكري في العالم، والذي قد يسعى في النهاية إلى تقليل مشاركته في النزاع.
كل ما قاله ترامب حتى الآن يشير إلى رغبته في إنهاء هذا الصراع قريبًا. ولكن، تثير مشاعر ترامب الغريبة وغير المفهومة تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مخاوف حول تفاصيل أي اتفاق محتمل، ما قد يجعله خطيرًا على أوروبا وحلف الناتو، الذي تأسس لمواجهة روسيا.
ومع ذلك، كانت أوكرانيا ستصل في نهاية المطاف إلى لحظة يتعين فيها التعامل مع تسوية، ما لم تشهد روسيا ثورة أو انهيارًا داخليًا.
على حلفاء أمريكا الاستعداد للتخلي
والسؤال المطروح حاليًا وفق "سي إن إن": هل ستقبل موسكو باتفاق أفضل مع رئيس أمريكي كان أقل تصادمًا وأقل عدائية تجاه بوتين؟ وهل يخاطر بوتين بإغضاب ترامب إذا ما تمت خيانة هذا الاتفاق وكشف التفاهم بينهما باعتباره وهمًا؟
الإجابات على هذه الأسئلة غير معروفة حتى الآن. لكن من السذاجة افتراض أن النتائج ستكون بالضرورة في مصلحة كييف.
وترى "سي إن إن"، أن صعود ترامب لن يجلب معه أزمات ومشاكل جديدة على الساحة العالمية، بل سيعني أن الولايات المتحدة وحلفاءها يجب أن يستعدوا للتعامل مع القضايا نفسها، ولكن بتركيز وأدوات وأولويات مختلفة، سيحددها صاحب استراتيجية "أمريكا أولًا".
وقد يكون لذلك تأثير كارثي على النظام العالمي الحالي والديمقراطيات الغربية بشكل عام. أو قد يُجبر المجتمعات والتحالفات المرهقة على تبني روح جديدة من التوافق المستنير والدفاع الحماسي عن مصالحها.