بين دمارٍ أحاط بالمكان وألم يلف جسد مها العلوي، لم يكن لديها أي خيار سوى الصبر. فماذا تفعل وهي مسؤولة عن أربعة أطفال وزوج، في ظل مرض وحرب؟ معاناة مها لم تقتصر على كونها مصابة بسرطان الثدي من الدرجة الثالثة أو على كونها من غزة التي يتناوب القصف على كل شبر فيها ليل نهار، وإنما رعاية أسرتها بعناية بين كل هذه التحديات.
“كنت أسافر إلى الضفة لتلقي الجرعات ثم أعود إلى غزة، لكن مع الحرب أغلق الاحتلال معبر إيريز ومنعونا من السفر، وبقيت هنا تحت القصف بلا علاج”.
مها -اسم مستعار- صاحبة الـ 42 عامًا والتي رغم الألم تحتفظ بشيء من ابتسامة تتشبث بالحياة، واحدة من ضحايا حرب ابتلعت فرصها لقتال المرض، وظروف فرضها محتل حتى صحفه لم تعد قادرة على إخفاء خططه لإبادة الفلسطينيين.
“لن أفقد الأمل لأجل أسرتي.. أقول لنفسي في كل مرة يتجدد الألم وهو يضرب صدري: لا تستلمي”.
اكتشفت مها إصابتها بسرطان الثدي من الدرجة الثالثة في أبريل 2022، فتحولت حياتها فجأة إلى “مُزحة ثقيلة الظل”، كما تقول.
“لم أكن مُستعدة لخوض أي حرب إضافية”.
وتكشف بيانات وزارة الصحة الفلسطينية أن سرطان الثدي هو النوع الأكثر شيوعًا في فلسطين، إذ تم تسجيل 546 حالة سرطان ثدي جديدة في الضفة الغربية خلال عام 2023، بمعدل بلغ 18.6 حالة لكل 100.000 من السكان، فيما لا تتوفر معلومات دقيقة عن وضع المرض في قطاع غزة بسبب العدوان الإسرائيلي.
آلهة الجمال تخوض حربين
مع اندلاع الحرب في غزة توقف علاج مها تمامًا وساءت حالتها. وحتى حينما تمكنت أسرتها من نقلها للعلاج في مصر، ازداد الوضع سوءًا بعد إجرائها عملية استئصال لم تكن تجميلية.
“كان الألم سابقًا في أقسى درجاته جسديًا، الآن تساوى ألمي نفسيًا وجسديًا.. كلاهما بالقسوة نفسها”.
لضرورة استمرار العلاج الهرموني عقب جلسات الكيماوي والإشعاعي، اضطرت مها للاستقرار في أحد المستشفيات المصرية، إلا أن الوضع تطور إلى مراحل أكثر صعوبة.
“يُمكنني تحمل ألم جسدي والألم النفسي بعد الجراحة، بس.. ما يزال هناك أربعة أطفال أتحمل مسؤوليتهم، وزوج يسعى لتأمين مصدر رزق وتسديد تكاليف علاجي في ظروف تدفعني للاستسلام”.
استقرت مها في المستشفى لمدة أربعة أشهر متواصلة، حيث بدأت حالتها بالتحسن تدريجيًا، ومن ثم انتقلت إلى مدينة بنها لتستكمل العلاج الهرموني الذي سيستمر لخمس سنوات إضافية، تتخللها زيارات تصفها بـ”المرهقة ماديًا ونفسيًا” لإجراء المسح الذري كل ستة أشهر.
تتذكر مها أصعب اللحظات التي مرت بها خلال وجودها في غزة، حينما بدأ شعرها بالتساقط.
“كانت أقسى لحظات مرضي فعلًا، شعور مخيف وغريب، كأنني أعيش كابوسًا”.
لم يتوقف رغم ذلك الدعم الذي تلقته مها من زوجها وأسرتها، إلا أن المرض تمكن من نزع ثقتها بنفسها كأنثى، تواجه الحرب دفاعًا عن أطفالها وزوجها، دفاعًا عن أسرتها. أما في مصر، فقد واجهت تحديات جديدة تجاوزت الألم الجسدي، نضالًا من أجل لقمة عيش وحياة لائقة لأبنائها، في ظل غياب الرعاية الطبية لهم جميعًا.
“أصعب من المرض توفير إيجار المنزل والنفقات اليومية لأسرة تُعاني التأقلم مع غربة تُرافقها يوميًا”.
أكتوبر الوردي
في أكتوبر من كل عام، تتسابق المؤسسات والهيئات الحكومية والمستشفيات على تنظيم أنشطة توعوية حول سرطان الثدي، مركزةً جهودها على تشجيع الكشف المبكر لتجنب إصابة السيدات بشكل مفاجئ.
وقد أُطلق على شهر أكتوبر اسم “اللون الوردي” منذ عام 1985، حينما أُطلقت حملة توعوية في الولايات المتحدة برعاية بيتي فورد، السيدة الأولى السابقة الناجية من السرطان، زوجة الرئيس الأمريكي الأسبق جيرالد فورد.

وفي مناطق النزاعات والحروب، تواجه النساء المصابات بسرطان الثدي تحديات أكبر؛ ففي فلسطين، على سبيل المثال، تعاني النساء في غزة والضفة الغربية من صعوبة الوصول إلى العلاج ومحدودية الخدمات المتاحة، ويواجهن عوائق عديدة لعبور “معبر إيريز” للحصول على الرعاية الصحية، مما يزيد من معاناتهن مع المرض.
وتُقدم مؤسسة “أكشن إيد” منذ تأسيسها عام 2007 برامج توعوية في قطاع غزة لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني، حيث تركز خلال أكتوبر الوردي على نشر الوعي بأهمية الفحص الذاتي وتعليم النساء كيفية إجرائه في المنزل، إلى جانب توجيههن نحو الفحوصات المتقدمة مثل الماموجرام.
وتبرز مبادرة “Tsawarti” كواحدة من أهم المبادرات الداعمة للنساء في غزة، إذ تشجع على الفحص المبكر رغم تحديات البيئة المحيطة وضعف الخدمات الصحية. أما في الضفة الغربية، فتعمل مؤسسة “DearMamma” بالتعاون مع جمعية “بيتة لتنمية المرأة” على توسيع نطاق التوعية عبر تطبيق إلكتروني على الهواتف المحمولة لتعليم الفحص الذاتي الآمن في المنزل، مما يعزز الكشف المبكر عن الأعراض المشبوهة.
لن انهار كما وطني
عند مدخل مستشفى بهية، تتشابه كل النساء إلا في حركتهن ذهابًا محمّلات بالقلق وإيابًا عائدات بالأمل وبالخوف ربما، والمشهد في مجملة على قطعه الرأسي يحمل لوحة، كل تفصيلة فيها حكاية عن الحياة والحرب.
“جاءت إصابتي بسرطان الثدي في نفس الوقت الذي اشتعلت فيه الحرب الأهلية بالسودان ومعه بدأت رحلة الألم والحرب”.
سهير القوار تلك الجميلة السمراء ذات الـ 38 عامًا يحق لها أن توصف بالمحاربة التي جابت الأرض بين مصر والسودان ذهابًا وإيابًا بحثًا عن آخر أمل في العلاج.
“رغم الحرب تمكنت من الانتقال إلى مصر للبدء في العلاج. كنت عازمة على استكمال العلاج في بلدي بعدها. أجريت العديد من الجراحات وخضعت للكثير من جلسات الكيماوي والإشعاع، ثم عدت مرة أخرى إلى السودان كي أتلقى العلاج الهرموني هناك”.
في السودان، تزداد الصعوبات بسبب النزاع وتوقف الخدمات الصحية في عدة مناطق، الأمر الذي أجبر العديد من المرضى على السفر لمسافات طويلة أو الانتقال لدول صديقة بحثًا عن العلاج، كما هو الحال مع سهير.
في مصر وحين ظنت سهير أنها تغلبت على المرض، قررت العودة، لكن الانتكاسة أتتها في السودان. تدهورت حالتها الصحية نتيجة نقص الأجهزة وضعف الخدمات في المستشفيات. ومع تصاعد خطورة الوضع الصحي والأمني، أثرت العودة مرة أخرى إلى مصر لإجراء الفحوصات اللازمة واستكمال العلاج، إلا أن الأطباء كشفوا لها انتقال الورم إلى الكبد مع احتمال انتشاره في باقي الجسد.
“الأمر بات حاليًا جد خطير.. نصحوني بفحص دوري كل ثلاثة أشهر، لكنني لم أتمكن من الالتزام بذلك بسبب ظروف النزوح المتكررة، ومع تعذر السفر مجددًا إلى مصر، لجأتُ إلى السعودية، حيث أكدت الفحوصات ازدياد انتشار الورم إلى العظام، وارتفاع أنزيمات الكبد، ما استدعى الخضوع لجلسات علاج كيميائي مرة أخرى”.
تشير منظمة الصحة العالمية (IARC) إلى أن نسب الإصابة بسرطان الثدي في السودان مرتفعة، ويُعد هذا المرض شائعًا بين النساء قبل سن الخمسين. بينما تواجه المصابات تحديات متعددة تشمل نقص الوعي وقلة الخدمات الطبية، مما يؤدي إلى تشخيص العديد من الحالات في مراحل متقدمة.
ولتعزيز الوعي والتشجيع على الفحص المبكر، تنظم الجمعية الطبية السودانية لتصوير الثدي حملات توعية وعيادات مجانية للكشف المبكر، خاصةً خلال شهر أكتوبر الوردي.
الدعم ضروري لتجاوز الأزمة
يؤكد الدكتور وليد هندي استشاري الصحة النفسية على قسوة ما تعانيه مريضات السرطان في وقت الحروب، بينما يشدد، في حديثه لـ “فكر تاني”، على ضرورة أن يستكملن علاجهن وجلساتهن، حتى لو اضطررن إلى الخروج وطلب خدمة الجلاء الطبي، وهي خدمة تُقدم للدول الصديقة دعمًا للمرضى الذين يعانون ولا تستطيع دولهم معالجتهم نظرًا لوضعهم الحرج.

ويوضح هندي أن الجميع مطالبون بدعم مريضات سرطان الثدي، فهن يحاولن بكل عزم العثور على بصيص أمل يوميًا في العالم الذي يعشن فيه، ويساعدهن على ذلك الأشخاص من حولهن، مؤكدًا أن الدعم النفسي أحد أهم العوامل الرئيسية في تشبثهن بالأمل ومواصلة رحلة العلاج في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها المناطق ذات النزاعات.
ويضيف أن الصحة النفسية ترتبط بالصحة العامة، ويجب أن تتضمن ساعات نوم منتظمة، والتغذية السليمة، حتى لو كانت التغذية محدودة في الحروب. وبحسب رأيه: “اللجوء إلى الدول المجاورة هو الحل الأسلم لتجاوز هذه الأزمة بسلام”.
