ننظر إلى المرآة، فلا نرى أنفسنا، نرى العيوب ولا نُصدق أعيننا. نرى ما نسمعه، ما يقوله الأهل والأصدقاء، وما يُصدّق عليه المجتمع بعاداته وتقاليده.
بين الألم والقوة
"أنظر للمرآة، فلا أرى غير مقدمة الشيب في رأسي. أتمعن فيه قليلًا ثم تذهب عيناي مباشرة إلى بعض ندوب العمليات السابقة في بطني".
تقول "دينا"، لـ "فكّر تاني": "أسمع طوال الوقت تعليقات على وزني. منذ كنت في مرحلة الثانوية العامة، وفي السنوات الأخيرة، والآن، عندما شاب رأسي، وحُفرت على جسدي ندوب العمليات الجراحية التي أجريتها للتخلص من الوزن الزائد".
دينا من مدينة الإسكندرية، سَمعت ألفاظًا جارحة لشكلها وروحها. أنقصت وزنها بالجراحة، حتى نحف جسدها. اعتقدت أنها سلمت من أفواههم. اعتقدت وقد خاب اعتقادها.. طاردتها التعليقات حتى مع تبدل شكلها. توفيت والدتها حين كانت طفلة صغيرة. توفيت تلك المرأة التي كانت بدورها شخصية "ضعيفة"، على حد قولها، لم تحم نفسها ولم تحمها من التنمر.
"اضطررت للارتباط برجال لم أكن سعيدة معهم أو راضية عنهم. لم أكن أفكر سوى في الخروج من بيتي -فعائلتي كما الآخرين، تذكرني بندوبي وشعري الأبيض. كنت أسمع أعذارًا مؤلمة بالقدر نفسه. نحيفة.. سمينة. لن أنجو من نظراتهم. لن أنجو من كلمات تقتلني"؛ قالت دينا.
اقرأ أيضًا: “ما إنتي زي كل الستات”.. الأنوثة بقت موضة قديمة!
عاشت دينا بعد وفاة والدتها في بيت جدها، مع زوجة جد قاسية، اعتادت الاعتداء عليها جسديًا، حتى تحول إحساسها بجسدها إلى مصدر قلق.. بدأ هذا في الصغر. "أصبحت أخجل من جسدي وأداريه. كانت زوجة جدي بين هؤلاء الذين أذوني.. كانت المحمية وكنت أنا الضحية السهلة".
"هناك شخص ما في بيئتك، سيقول لكِ أنكِ بشعة، لا تصدقيه إنه يكذب، مرآتنا هي أعيننا وأعين من يقول إننا جميلات -لو أردنا- أن نُصدق"؛ هكذا أرادت دينا أن تنقذ نساء غيرها من مصيرها.
اقرأ أيضًا: شخلعة.. “لأن كل الأجساد تستحق الاحتفاء بها”
رحلة تقبل الذات في عالم المسرح
وصلت "ماريا" الآن إلى تسعة وعشرين عامًا، تعيش خارج مصر، تعمل ممثلة مسرح. "كنتُ اسمع تعليقات سخيفة على لون بشرتي حين كنت صغيرة جدًا، لكن بعد بلوغي سن المراهقة، وحين زاد وزني، تركزت الكلمات الجارحة على شكل جسمي عمومًا، وقتها، بدأت أول نظام غذائي -بغرض التنحيف- حين كنت 16 سنة بس".
تقول ماريا لـ"فكر تاني": "حين اشتغلت في المسرح، كانوا يتجنبون إعطائي أدوار البطولة، لم أكن بالقدر الكافي من الجمال المطلوب".
انحصرت الأدوار التي أدتها ماريا على خشبة المسرح بين "الأم أو المرأة كبيرة السن" بسبب الوزن الزائد ولون بشرتها. انطبع في عقلها أن الأمور كانت ستصبح أسهل "إذا كنت سمراء ورفيعة، أو سمينة وبيضاء، أو لم تكن بهذا الشعر المجُعد. جميع من حولي أخبروني بضرورة فرد شعري".
كان لهذه التجارب أثر كبير على تقبل ماريا لذاتها. تقول: "حين أنظر في المرآة، أركز على لون بشرتي -التي أصبحت أتقبلها إلى حد كبير- لكن أحيانًا، لا أرى إلا البقع الداكنة بفعل الشمس، أو الشعر في وجهي.. أنظر أحيانًا إلى علامات التمدد على جسدي، حجم بطني و-جنابي-، الندوب في ظهري إثر العمليات الجراحية، وتجمعات الدهون، أنظر في وجهي على حبوب الشباب، واللغد الزائد".
اقرأ أيضًا:تكريم يأتي من خارج مصر.. نوال السعداوي في مناهج تونس التعليمية
تحاول ماريا طوال الوقت أن تتقبل شكلها، وأن ترى نفسها جميلة، خاصة وأن الكثيرين حولها يقولون ذلك.
رحلة تقبل الذات ليست سهلة. تقول ماريا: "هي خطوات نأخذها وتكبر معنا، ليست خطوات سهلة ولكنها مهمة. بدأت هذه الرحلة وأنا في سن 12 عامًا أو أقل. رحلة تقبل ذاتي ليست سهلة ولا أزال أحاول وأتعثر".
بين القبول والرفض
تقول "نهال" من محافظة بني سويف، إن نظرتها لنفسها في المرآة لم تعد بنفس التأثير السابق عليها، وأنها كانت ترى أولًا أنفها الكبير فقط. "الآن أبلغ من العمر 32 عامًا، حين كنت في سن المراهقة، سمعت كثيرًا عن أنفي الكبير ومسام بشرتي الواسعة وكثرة الرؤوس السوداء، ظلت تلك الكلمات تهاجمني كلما نظرت في المرآة، لكني الآن تعافيت قليلًا من أثر تلك التعليقات".
اقرأ أيضًا:متى تتوقف السوشيال ميديا عن وضع “الفنانات” تحت عين المراقبة؟
"عادةً لا أستطيع الالتزام بروتين يتطلب الانضباط لفترات طويلة، غير أني لا يمكنني تحمل الألم وأغلب الطرق العلاجية مؤلمة للغاية"؛ تقول "نهال". لذا، فإنها حين تفاضل بين الألم الناتج عن العلاج وتحسين شكلها، تختار ألا تفعل.
"عندما أنظر إلى نفسي في المرآة، أشعر بالضياع، أرى وجهًا لا أعرفه، وجسدًا لا أشعر بأنه لي"، هكذا بدأ" "علي" حديثه لـ "فكّر تاني".
يعاني "علي" من اضطراب الهوية الجندرية. يقول: "أشعر بأنني شخص غريب حتى عن نفسي، وأنني لا أنتمي لهذا الجسد، وكأنني أعيش في جسد شخص آخر، والمرآة تذكرني كل يوم بهذا الصراع الداخلي الذي أعيشه".
هاجس "علي" الأكبر هو أنه لن يستطيع أن يكون كما يشعر داخله حقًا، وأنه مُقيد بتوقعات المجتمع والبيئة المحيطة به، وأن بداخله شخص مختلف تمامًا عن هذه التوقعات. يضيف: "كل هذا يجعلني أفكر يوميًا إذا كنت أستطيع أن أكمل حياتي، أم أنني سأظل عالق في جسد لا يعرفني ولا أريده".
تحكي "أحلام" وهي تعمل في التثقيف الصحي وتبلغ من العمر 24، عن علاقتها بالمرآة التي كانت تقتصر على النظر إلى وجهها فقط. "كنت -أعد النمش- حيث -بسبب تعليقات الآخرين- كنت أعتقد أنه يزيد عددهم كل صباح".
تعاني أحلام من مشكلات أخرى تتعلق ببلوغ سن المراهقة، وتشير إلى أنها كانت "أطول واحدة في الفصل" وأنها اضطرت لارتداء ملابس أمها بعد أن كبر جسدها مرة واحدة.
تضيف: "كنت أرتدي ملابس غير مناسبة لي، واسعة ومهلهلة، وهذا انعكس أيضًا على شرائي للملابس الداخلية، كنت أشتري حمالة صدر تجعل صدري مسطحًا وغير ظاهرًا، وكنت أراقب نفسي في المرآة حتى أتأكد من أنني لست ملفتة".
تشير أحلام إلى تأثير البيئة الصعيدية على نظرتها إلى جسدها: "كرهت رؤية نفسي في المرآة، وتخبطت علاقتي بجسدي بين الكراهية ومحاولة التقبل".
تسلط أحلام الضوء على التحديات التي تواجهها النساء في صعيد مصر، ومعايير الجمال المجتمعية وكيفية التغلب على تلك التحديات للوصول إلى تقبل الذات والتصالح مع الجسد.
تقول: "تربيت على أن إزالة شعر الجسد حرام -إلا للمتزوجات- فكسرت هذا الحاجز مؤخرًا، فقط لاكتشاف جسدي وإعادة تفكيكه، خصوصًا في المناطق الحساسة".
رحلة الشفاء
تحكي"سارة" تجربتها مع تقبل جسدها، وتغيير نظرتها لنفسها، وتقول: "كان وزني زائدًا، ولم أكن أحب مناطق الأنوثة في جسدي، حتى إذا تلقيت مديحًا لم أكن أقبل، ربما كانت تراكمات نفسية، خاصة في ظل مجتمع لا يمكنني أن أستمتع فيه بحرية بجسمي".
وتتابع سارة: "بعد التعافي، أصبحت أرى جسمي من منظور آخر، رجلي التي لم تعجبني لأنها ملفتة، هي نفسها التي حملتني في العديد من المشاوير، جسمي بأكمله كان وسيلة روحي لأن تختبر التجارب بحلوها ومرها، وصدري الذي لم أحب، كان مكانًا ينام عليه ابن أخي نومًا عميقًا. أصبحت أرى النواقص في جسمي كأمر طبيعي وتقبلتها بشكل كبير".
أما أسامة، ذا الخمسة وعشرين عامًا، فيقول: "أنظر في المرآة ولا أرى غير العيوب والنواقص التي أحاول إخفاءها، أرى الفشل والإحباط، في المرآة أواجه نفسي بكل ما فيها من ضعف أو قوة".
ويشير إلى أنه بالنظر في المرآة، يرى صورة لا تتطابق مع شعوره الداخلي، فهو يبدو شابَا اجتماعيا وسعيد، لكن صراعًا دائمًا يقف حائلًا بينه وبين الشخص الذي يراه في المرآة.
ترى الدكتورة ألفت علام، استشاري العلاج النفسي والإدمان، أن صورة الإنسان عن نفسه وجسده في المرآة، تحكمها معايير المجتمع المفروضة عليه من تنميط وقولبة، والتي يُعززها رأي الأهل والأصدقاء.
وتشير علام، في حديثها لـ فكّر تاني، إلى أن وسائل الإعلام أيضًا، تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل هذه الصورة، حيث الترويج لمعايير غير واقعية عن الجمال، ما يخلق ضغطًا نفسيًا هائلًا خاصة على النساء لتحقيق الكمال.
وتؤكد علام، أن هذا الضغط يمكن أن يؤدي إلى مشكلات في الثقة بالنفس وتقدير الذات، فعندما تنظر المرأة إلى المرآة ولا ترى نفسها متوافقة مع هذه المعايير، تبدأ برؤية عيوبها أولًا، ما يعزز شعورها بعدم الرضا ويؤثر سلبًا على حالتها النفسية.
وتوضح علام، إلى أن هذه الأفكار تبدأ في الظهور بشكل أوضح خلال فترة المراهقة، وهي الفترة التي يبدأ فيها الأفراد بإدراك ذاتهم بشكل أعمق وتظهر نتائج التربية والتأثيرات المجتمعية عليهم.
وتلفت علام الانتباه إلى أن هذه الضغوط قد تؤدي إلى اضطرابات الأكل، التي تنتشر أكثر بين الفتيات، مثل التقيؤ بعد الأكل، أو الإفراط في الأكل، أو تقييد السعرات الحرارية.
ويقول الدكتور جمال فرويز، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، إن رؤية الانسان لنفسه تعتمد على حالته المزاجية، وأننا نرى أنفسنا حسب ما نشعر به في هذه اللحظة، كما تختلف نظرة كل إنسان لنفسه حسب التنشئة، وأيضًا حسب النوع الاجتماعي، بل وتختلف من وقت لآخر ومن مزاج إلى آخر.
ويضيف فرويز لـ فكّر تاني: "إن المجتمع يرانا من الخارج فقط، وتصبح نظرته مؤثرة في سن المراهقة، ويختلف هذا التأثر في الأعمار الأكبر قليلًا، وبالنسبة للرجال، يؤكد فرويز، أنه على عكس المتعارف عليه، فإن المجتمع يضع أعباءً مرهقة على الرجال بمعايير معينة مثل النساء، وإن اختلفت في حدتها ونسبيتها.
ويوضح فرويز، أن هناك حالات لا يكون لديهم مشكلة في النظر إلى المرآة، لأن مشكلاتهم تتمحور حول الثقة بالنفس أو بسبب نظرة المجتمع، بل وأحيانًا تكمن المشكلة في رؤية الشخص لذاته وعدم رضاه عن نوعه البيولوجي.
ويؤكد فرويز أن هناك كثيرون لا يحبون النظر في المرآة لأنها تُذكرهم بعكس طبيعتهم التي يشعرون بها، وهؤلاء الأشخاص يكون لديهم اضطراب في هويتهم وليس في نظرتهم لأنفسهم في العموم.
اقرأ أيضًا: وإذا شكت عُنِفت.. “تمارا” ورحلتها اليومية في المواصلات العامة