ثلاثية الشعب والحاكم والنكتة

لم ينتصر أيُّ حاكم على الشعب المصري، في أية مواجهة على مستوى الفكرة، وحتى إذا أحس انتصاره فشرع يحتسي نخب الظفر، بوغت من حيث لا يحتسب بهزيمة ساحقة.

العبرة بالخواتيم، وفي البدء كان الشعب، وفي النهاية يكون.

حين تبدأ المعركة، يرفع النظام العصا والكرباج مهددًا، فيرفع الشعب سلاح النكتة، تهوي الكرابيج على الظهور العارية، والعُصي على الجماجم، فيرد الناس بنكتة، تُغلَّق القضبان الحديدية على مطلقي النكات، فيردون من خلف الأسوار بنكتة، ارتفاع أسعار نكتة، وعودٌ بالرخاء نكتة، نقص مواد غذائية نكتة، انقطاع كهرباء نكتة.

هكذا يتألم الشعب فيؤلم جلاديه إيلامًا أشد.

صحيحٌ أن العصا والكرباج قاسيان فوق التصور، وأعمق -حين يتصدى كاتب لشرحهما- من حيل البلاغة، لكنهما سرعان ما يزولان، ينتهي الوجع الجسماني، وتبقى النكتة عارًا يلاحق القامعين بأمرهم، في الدنيا والآخرة، تُصبُّ عليهم كالحميم المصهور، في حين يستلقي المظلومون على أقفائهم “جمع قفا” من شدة الضحك.

في جميع محطات التاريخ المصري السابح في نهر البشرية، كانت الحرب مستعرةً؛ شعب يريد وحاكم لا يريد أو لا يقدر، فإذا بمن هو صاحب البلد الأصلي؛ الشعب، يسلخ الحاكم سلخًا بلسانه السليط، أو عديم التهذيب، سمها ما شئت، ولا يهدأ الأوار، ويُعلن “وقف إطلاق النكات” إلا حين يرضى الناس.

تتبع جذور ثلاثية “المصريين والحاكم والنكتة”، يأخذنا إلى جداريات المعابد الفرعونية، ونقوش اللغة الهيروغليفية، فالمصري القديم لم يسخر من حاكمه فحسب، بل حرص على أن يعطي لسخريته حياة، بعد حياته هو وحياة الحاكم معًا، فحفر بالإزميل على الحجر.

اقرأ أيضاً: حكومة 4-2-4

ولم يغب عن بال الفنان المصري القديم عند نقد ظاهرة ما، أن يتناولها من خلال رسومات هزلية تشبه الكاريكاتير، ترميزًا يُعبِّر عن استقباحه ورفضه الأوضاع.

من ذلك رسمٌ على الفَخَّار، فيه فأر يستلقي على أريكة وثيرة، بينما يلتهم سمكة متلذذًا، وأمامه يقف قط هزيل في استكانة الخانعين، وهو يحمل بيد مروحةً، وفي اليد الأخرى بطة، كما لو كان يقدم فروض الطاعة وقرابين الولاء لعدوه التاريخي، عكس قوانين الطبيعة، بشأن العلاقة بين الهررة والجرذان.

ويشاعُ أن هذه الجدارية هي التي ألهمت وليام هانا وجوزيف باربيرا، مخرجيَّ ومؤلفيَّ سلسلة أفلام الرسوم المتحركة “توم وجيري”، والتي حازت على سبع جوائز أوسكار، منها أربعة متتالية.

رسومات متداولة للنكتب في عهد الفراعنة
رسومات متداولة للنكتب في عهد الفراعنة

الأهم من ذلك أن تفسيرًا يذهب إلى أن الجدارية، ذات رموز سياسية، إذ تعمَّد الفنان المصري القديم من خلالها أن يقول للناس، إن القامع الباطش الذي ترهبون محض فأر، ومصدر قوته أن الشعب؛ أي القط، يدين له بالولاء، ويُطأطئ رأسه أمامه، لكن إذا “بخَّ في وجهه”، سرعان ما سيولي الأدبار.

هي خفة ظل استثنائية وقد بقيت ملازمة للمصريين، إلى حد أن الرومان حين احتلوا البلاد، بعد ذلك بقرون، منعوا المحامين المصريين من الترافع أمام محاكم الإسكندرية، ذلك أنهم كانوا يهدمون الادعاءات القانونية بالسخرية، مستغلين مواهبهم البلاغية وقدرتهم على اقتناص النكتة، لتحويل الجلسات القضائية إلى مهازل فادحة.

وإذا كان المصريون، كما توضح جدارية القط والفأر، قد عرفوا فن الكاريكاتير منذ فجر التاريخ، فقد اخترعوا كذلك النكتة السياسية المنطوقة، وذلك في عهد الملك سنفرو، قبل أكثر من 3 آلاف و600 عام.

والظاهر أن الملك كان “فلاتي”، لا يشبع من النسوان، فإذا بالوجدان الشعبي الساخر، “يُشنِّعُ عليه” إذ ترددت نكتة فحواها أنه إذا أردت أن تُسَّري على الملك، فادفع بمركب إلى النيل، على متنه أجمل الفتيات، على ألَّا يلبسن ملابس النساء التقليدية، وإنما شباك الصيد، ثم اقترح على الملك أن يصطاد السمك.

بالطبع.. لا تستولد تلك النكتة الضحك الآن، لكوننا بمنأى عن سياقها التاريخي، وواقعها الاجتماعي، غير أن المؤكد أن فيها قدرًا لا يُستهان به من الغمز واللمز، في شهوانية الملك، أو قُل “حيوانية جلالته”، التي جعلته محط ازدراء العوام، وهدفًا لنميمتهم.

والمثير للدهشة أن المصريين ما زالوا رغم كل الظروف المأساوية التي مروا ويمرون بها، يطلقون النكات، ويشهرون سلاح الفكاهة، فإذا بماضيهم موصول بحاضرهم.

في كتابه “جمهورية الضحك الأولى: سيرة التنكيت السياسي في مصر”، يرصد الكاتب الصحفي طايع الديب، ملامح العلاقة بين النكتة والرؤساء المصريين؛ عبد الناصر والسادات ومبارك، مستثنيًا محمد مرسي لسبب غير مفهوم، ومتجاوزًا في الوقت ذاته رأس النظام السياسي حاليًا لسبب مفهوم طبعًا.

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

في الكتاب يقرر الكاتب أن الرئيس عبد الناصر كان حسَّاسًا إزاء النكتة، يستهجنها إنْ مسَّت شخصه، ويغضب غضبًا شديدًا، حين تتناهى إلى مسامعه، إلى درجة أنه ذات مرة طلب إلى الشعب في خطبة رسمية عام 1968 التوقف عن إطلاق النكات، لأنها “تطعن الدولة في الظهر”.

قد يكون موقف ناصر من النكتة مفهومًا -وليس مبررًا- في سياق لحظته التاريخية، فالبلاد كانت تعرضت لهزيمة قاسية قبل ذلك بعام، وكانت حرب الاستنزاف على أشدها، لكن بأي منطق ليس مستساغًا أن يرى الرئيس النكتة طعنةً في الظهر.

هذا لا يحدث إلا في نظام سياسي شعاره “ثابت محلك وامنع النَفس”.

غير أن ناصر رغم الكاريزما الطاغية، والشعبية الجارفة، ورغم جهازه الأمني الرهيب، وسجونه الحربية التي كانت تسأل دائمًا: هل من مزيد؟ لم يستطع استئناس النكتة، ولا ترويض جموحها الطاغي.

من النكات اللطيفة أن الزعيم كان في قرية ما، فلم يجد في استقباله شخصًا يعرفه، فلما تلمّسه مستفسرًا، قيل له إنه يختفي من الدائنين منذ يوم عشرة في الشهر، لأنه راتبه ينفد مبكرًا، فسأل: وكيف يقوم بشؤون أسرته لعشرين يومًا؟ فأُجيب إنه “الستر”، فلمَّا عاد إلى قصره أصدر قرارًا بتأميم الستر.

ويروي الكاتب الراحل أنيس منصور أن عبد الناصر، غضب غضبًا شديدًا من نكتة كان إسماعيل ياسين، يرددها على مسامع الرئيس اليمني الراحل عبد الله السلّال، إبَّان خضوعه للعلاج من وعكة صحية بالإسكندرية.

اقرأ أيضاً : إلى الحكومة الجديدة.. كفاية “سداح مداح”

تقول النكتة إن رجلًا كان يذهب كل صباح لبائع الصحف، فينظر الصفحة الأولى ثم يمضي مكفهرًا غاضبًا شاتمًا لاعنًا، فسأله البائع بعد حين تأويل أمره، فقال إنه ينتظر وفاة شخص ما، فنصحه أن يراجع صفحة الوفيات، فبادره: “إن خبر الذي أنتظر موته سيكون على الصفحة الأولى”.

محمد أنور السادات
محمد أنور السادات

أما السادات فالمأثور عنه، بخاصةٍ في سنوات حكمه الأولى، أنه كان “ابن نكتة”، إلى حد كبير، وقد أشيع أن تدخينه القنّب الهندي كان له دور كبير في ذلك، فالحشاشون بطبيعتهم أكثر تفهمًا للدعابة، وأكثر قدرة على “استطعام مذاقها”.

لكن طبيعة السادات المتسامحة نسبيًا، انقلبت قسوة وفظاظة بعد توقيعه اتفاقية كامب ديفيد، إذ اعتقل رموز معارضته من جميع التيارات السياسية، الأمر الذي حدا بالشيخ المحلاوي أن يسخر منه سخرية خشنة: “كنا نتمنى أن يهبنا الله الإمام العادل، فإذا بنا إزاء عادل إمام”.. فاعتقله الرئيس فيمن اعتقل، لأن ديمقراطيته “كانت لها أنياب”، كما كان يقول في عبارة خائبة، أو قل نكتة سخيفة.

ولم يكن المخلوع مبارك أحسن حظًا من سابقيه، إذ جلدته خلال أيام ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة سياط السخرية، ومن ذلك ما تعلّق بسيناريو التوريث، إذ يُروى أن رجلًا قابل الرئيس فشكا إليه “الحال الواقف”: يا ريس أنا بعت قيراط الأرض الذي أملكه لتوظيف ابني ولم أستطع، فأجابه الرئيس: وأنا بعت البلد كلها ولم أوظف ابني.

محمد حسني مبارك
محمد حسني مبارك

كذلك كان المتظاهرون في ميدان التحرير، لا يستنكفون عن مزج رائحة قنابل الغاز بالسخرية، وكانوا يرفعون لافتات عليها عبارات موجزة عبقرية بديعة، منها واحدة تقول: “يا ريس يا ريت كنت ضربت مصر الضربة الجوية، وضربت إسرائيل الضربة الاقتصادية والزراعية والتعليمية”.

كانت تلك اللافتة البديعة، اختزالًا جامعًا مانعًا لثلاثين عامًا من الفساد والإفساد.

إن النكتة التي تتفتق عنها قرائح المصريين، هي الجزاء الذي يعاقبون به، كلَّ من شقَّ عليهم، وصَعَّبَ حياتهم.

هكذا هي طبيعتهم.. يتندرون ويسخرون ويتفاحشون ويسبون ويلعنون، وتبقي النكتة من وسائلهم نحو المقاومة.. وبها ينتصرون في الخاتمة دائمًا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة