ليست العلاقة بين السلطة المصرية، ومجلة “الإيكونيميست” البريطانية، سمنًا على عسل، ولا حليبًا وقشدةً، بل إن الريبة تسيطر عليها، فالقاهرة تتوجس أو قل لا ترتاح لتقارير المجلة، ذات العلاقة بالشأن الاقتصادي والسياسي، والمجلة من جانبها لا تُغيّر سياساتها التحريرية، إذ لا تتلقى في مكاتبها اللندنية، التعليمات بالأخبار المسموح والممنوع نشرها، عبر تطبيقات الهواتف المحمولة، كما هو حال الإعلام الذي يقف انتباهًا.. تمام يا فندم.
في محطات خلافية تكررت مرارًا، وصفت الأذرع الإعلامية تقارير الدورية البريطانية، بأنها ذات أغراض خبيثة، إلى درجة أن عديدًا من مقدمي برامج “التوك هبل شو” هرعوا إلى اتهامها بأنها تستقي معلوماتها المغلوطة، من أهل الشر وأعضاء “الجماعة الإرهابية”.
وإن كان التشكيك في مادة تنشرها “الإيكونيميست”، ليس كفرًا ولا ارتدادًا أثيمًا، فالخطأ وارد في نطاقات العمل الصحفي، وقد يكون جزءًا أساسيًا وحتميًا منه، ومن ثم فلا بأس في التصحيح والاستدراك، لكن المؤكد يقينًا أن الدورية التي يزيد عمرها عن 180 عامًا، وتفخر بأن نخبة من أبرز الساسة والاقتصاديين من قرائها، تقتفي معايير صارمة لتحري الدقة، حرصًا على مصداقيتها وسمعتها المرموقة أولًا، ما يجعل استقصاء معلوماتها من مصادر أحادية، غير قابل للتصديق بأي حال من الأحوال.
أشد أزمة اندلعت بين “الإيكونيميست” والقاهرة، كانت في يونيو من العام الماضي، على خلفية نشرها تقريرًا يذهب إلى أن المساعدات الخليجية لمصر بعد الثلاثين من يونيو، بلغت 100 مليار دولار، وتحدث التقرير عن تفكير الحكومة في تأجير قناة السويس، وقال إن نسبة الزيادة في أسعار الغذاء، وصلت إلى ما نحوه 60%، فضلًا عن بعض الأنباء ذات العلاقة بالشأن السياسي، ومنها أن عدد “المعتقلين السياسيين”، وفق تعبير المجلة بلغ 60 ألفًا، في حين وصفت الحوار الوطني بأنه “خدعة قديمة”.
وإزاء ذاك التقرير “الانفجاري”، انتفضت الهيئة العامة للاستعلامات، واحتدمت واضطرمت وانفعلت واشتدت وأرغت وأزبدت، فاستدعت مراسل المجلة للاحتجاج على المعلومات المضللة والضالة معًا، ليس هذا فحسب، بل أصدرت بيانًا عنتريًا، كذّب التقرير المغرض، ووصفه بالخلو من المهنية والضمير، وبأنه يتكئ على ترهات، مصدرها الجماعة “الإرهابية”، ومطاريدها الفارين إلى بلاد الله لخلق الله، أولئك الذين تحمل قلوبهم غلًّا أسود، وتنضح ضمائرهم بالخيانة للوطن.
واللافت أن البيان لم يدحض آنذاك المعلومة بالمعلومة، ففيما يتعلق بجزئية المساعدات الخليجية مثلًا، اكتفى بالتكذيب فقط، من دون إيضاح حجم تلك المساعدات، فهذه أسرار لا يحق للمواطن علمها، إذ أن هناك صناديق سيادية، ميزانياتها سرية، على ما في مفردة “سيادية” من نبرة استعلاء على الشعب، الذي يفترض أنه سيد الوطن وتاج رأس السلطات.
وفي حين كان وطيس المعركة محتدمًا، سرعان ما ركب مصطفى بكري الموجة، فإذا به يصف التقرير بأنه مفكك “ولا يكتبه عيل صغير”، ومعروف طبعًا أن الإيكونيميست ليست في المستوى المهني الرهيب لـ”الأسبوع” التي يرأس تحريرها ويملكها بكري، وتوّزع نسخها في جميع الدول الأعضاء بمنظمة الأمم المتحدة.
إلى جوار بكري وقف “وش قفص التوك شو”، رمز المرحلة إعلاميًا أحمد موسى، فإذا به يصرخ بصوته الزاعق الناعق، بأن المجلة تنقل معلوماتها من “اسكريبت” مفروض عليها.
أي نعم.. أحمد موسى يتهم الإيكونيميست بأن أحدًا يُملي عليها.. هذه مفارقة تستلزم للرد، صوتًا حلقيًا وأنفيًا إسكندرانيًا خشنًا، ولا أقل من ذلك.
وهكذا تهيمن نظرية المؤامرة على الخيال الرسمي المصري، فكل تقرير صحفي لم ينتهِ ممهورًا بخاتم النسر، وكل رأي يخالف منهج “ما تسمعوش حد غيري”، هو دسيسة ومكيدة، وتتساوى في ذلك قناة “مكملين” أو مجلة “الإيكونيميست”، أو حتى “بلاي بوي”.
على أن الدفع بأن “الخيبة الثقيلة” التي آل إليها الاقتصاد المصري، هي من أراجيف المغرضين، لم يعد ينطلي على أحد، والصرخات الشوفينية بأن الشرق والغرب يتآمران على “أم الدنيا التي ستصير قد الدنيا”، لا تجدي نفعًا حين يكابد الإنسان شظف العيش، والواقع فضلًا عن ذلك، أن النظام السياسي المصري استنفد رصيده من الثقة، بعد أن “عشّم الناس بالحلق” فخرموا آذانهم مرةً بعد مرة، ولم يحصلوا على الحلق الموعود، حتى لو كان “فالصو”.
كما أن اتهام الدورية البريطانية بعدم المهنية، قد يدفع المرء إلى الضحك حتى يستلقي على قفاه، خاصةً في الوقت الذي نرى فيه -مما نرى من نكد الدنيا- أن المهنية الصحفية تؤدي دور ليلى علوي في فيلم “المغتصبون”، إثر تحوّل إعلامنا المكتوب والمسموع والمقروء إلى ما يشبه “طبلة الزار”، وحتى المواقع الإلكترونية التي تحاول في ظروف بوليسية خانقة، تقديم صحافة أقرب إلى المهنية، قد تتعرّض إلى الحجب والحظر، في الوقت الذي كشفت فيه إحصاءات عن صعود عدد المواقع المحجوبة إلى 424 موقعًا، وذلك وفق بيانات عام 2017، ولا تتوافر بيانات حديثة عن الوضع حاليًا.. وربنا يجعل كلامنا خفيفًا.
ومؤخرًا.. نشرت الدورية تقريرًا مؤلمًا عن واقع الاقتصاد المصري، قالت فيه حرفيًا: “إن مصر تستحق الإنقاذ، في حين لا يستحق النظام السياسي ذلك، نظرًا لسياساته الاقتصادية البائسة التي أسفرت عن تأزيم الواقع الاقتصادي”.
وغني عن البيان أن جملة “مصر تستحق الإنقاذ” لا تعني بأي حال من الأحوال، إلا أنها على شفا خطر داهم، فإن كان الاقتصاد يتحسن، كما يطنطن مؤيدو السلطة، وإذا كانت الدنيا ربيعًا والجو ربيعًا، وكان الخير كالزمالك قادمًا، ففيم الإنقاذ ولماذا؟
في التقرير فضلًا عن ذلك، مجموعة إشارات لا مبالغة في وصفها بالمخزية، والمؤلمة لضمير ووجدان كل مصري يحب هذا الوطن، ويرفض امتهانه في ساحات التسول من هذا وذاك، ومن هنا وهناك، على الرغم من أنه لا يعاني عاهةً تمنعه من أن يزرع طعامه، ويصنع رداءه بل وسلاحه، لكن العاهةَ فيمن لا يعرف قدرات مصر الكامنة، ومن ثم يعجز عن تحريرها واستثمارها.
العاهة تكمن في أن أحدًا من متخذي القرار، لم يعر اهتمامًا لنصائح الناصحين المخلصين، من الخبراء أولي الاختصاص، قبل تبديد مقدرات البلاد في مشروعات مظهرية شكلية، ليست منتجة؛ مشروعات اهتمت بالحجر، ولم تراعِ حياة البشر؛ مشروعات لم تعتمد دراسات الجدوى، باعتبارها ستعطل المسيرة، وتؤخر القافلة، ومن ثم لم تؤدِ إلا إلى ما نحن فيه، ورغم ذلك يقال إنها إنجازات، في مجافاة متنطعة لزجة، لحقيقة أن أي إنجاز لا يؤدي إلى تحسين حياة الإنسان، هو والعدم سواء.
ويحذر التقرير من أن استمرارية الأزمة الاقتصادية في مصر، سيحمل مخاطر على منطقة الشرق الأوسط المضطربة أكثر من أي وقت مضى، وهو الأمر الذي لا يريده أحد لأكبر دولة في المنطقة.
بعبارة أخرى، إن تحذير المجلة من تداعيات الأحوال الاقتصادية في مصر، يرجع إلى مخاوفها من “انفجار” لا يمكن احتواؤه، وعليه فإن السبب وراء التقرير ليس التآمر على المحروسة، كما يردد المتنطعون، وليس تشويه الإنجازات، كما ينهق الناهقون، بل إنها اعتبارات البرجماتية والواقعية، فأي اضطراب يعتري المحروسة، سينعكس بالضرورة على القارة العجوز، ولعل الهجرة غير الشرعية من بلد يزيد تعداده عن 110 ملايين من أبرز تلك الانعكاسات الخطيرة المحتملة.
أيما يكن من أمر التقرير، الذي أغفل أن الأزمة الاقتصادية ذات شق سياسي، يتعلق بغلق مجالات التعبير عن الرأي، وإقفال الأبواب أمام المعارضة، وكذلك غياب الشفافية، وما يبدو من تراجع الإرادة والرغبة في مكافحة الفساد، فإن ما يقال عنه يبقى كثيرًا ومهمًا، غير أن أبرز الملاحظات تتمثل في أن القاهرة لم ترد بعد النشر هذه المرة، ولم تنتفض بجيوشها الإعلامية، بل لاذت بالصمت بشكل مقلق.
هذا الصمت يوحي من دون جدل، بأن التقرير لم يجافِ الحقيقة، أو على الأقل يلمس شيئًا منها، أو بأن متخذي القرار قد “أحسوا حمرة الخجل” أخيرًا، بعد الوضع الكارثي الذي أوصلت سياساتهم مصر إليه، وهذه فرضية مستبعدة إلى حد كبير.
وبعيدًا عن أسباب الصمت إزاء التقرير، فإن المؤكد أن الأوان في مصر لم يفت بعد، بشرط أن يعترف الذين أداروا الدفة إلى هذا الموضع الوعر، بأنهم لم يكونوا على صواب، ويقرروا بناءً على ذلك إعادة توجيه بوصلة الاقتصاد، نحو استغلال موارد البلد، وليس مجرد طرح أصولها للبيع، أو للاستثمار الأجنبي.
الاعتراف بالخطأ هو الخطوة الأولى، وأي تبريرات بأن التردي الاقتصادي يرجع إلى جائحة كورونا أو الحرب الروسية، وما نحو ذلك من أكاذيب ترمي إلى تبرئة المذنبين، هي كادعاءات اللواء مكلف عبد العاطي بأنه اخترع علاجًا يحول الإيدز إلى “صباع كفتة” يتغذى عليه المريض.
ولكن ما يبدو حتى اللحظة الراهنة، أنه ليست هناك نية لانطلاقة لازمة من نقطة الاعتراف بالخطأ، فالحديث عن الإنجازات يعلو صاخبًا، وصرخات الجوع تعلو متألمةً بالتوازي، كأننا إزاء نقيضين؛ مصر الرسمية، وهي قطعة من الفردوس، ومصر أخرى؛ مصر الناس، ملح الأرض، أولئك الذين يُغمِّسون الرغيف بالملح، ويخشون أن تمضي الأمور إلى الأسوأ، فلا يجدون رغيفًا، ولا يجدون ملحًا.
من المؤلم حقًا أن مشهدًا ثقيل الظل، يتكرر برتابة مع كل هزة تستنزف الإنسان اقتصاديًا، بدءًا من التعويم الأول، مرورًا برفع الضرائب وسعر الخدمات الحكومية، من مواصلات فكهرباء وماء، الذي يصب في مصلحة المواطن، وصولًا إلى أزمة نقص السكر الراهنة، والتي تتعامل الحكومة معها تمامًا، مثلما تتعامل مع التقارير الصحفية التي لا تعجبها، إما بالنفي وكيل الاتهامات بالخيانة، وإما بالصمت والتجاهل، وإما بالوعود المعسولة التي لا تتحقق.
هذا السلوك المتواتر، يحدو إلى استبعاد إمكانية الاعتراف بالخطأ، مع الأسف الشديد.
وهذا وضع لا يمكن استمراره، وفي استمراره خطر داهم، مع الأسف الشديد.
مصر إزاء منعطف يستولد من النفس كل نوازع الخوف، وكل مشاعر الإشفاق.. ولأجل مصر لا بد من الإصلاح فورًا، فإما ذلك.. وإما “ربنا يرحمنا”.
