في هذه الأيام السود الثقيلة التي يعيشها العالم بسبب الحرب اللا إنسانية والعدوان الغاشم على قطاع غزة، والفظائع المرتكبة بحق المدنيين الفلسطينيين كبارًا وصغارًا، ووسط انقسام العالم بين مؤيد ومعارض، ولا مبال، وسياسات الحجب والحظر للمنشورات، ومنع استخدام الكثير من الألفاظ والوسوم في محاولة للحد من تداول المعلومات والأخبار عما يحدث من جرائم حرب، هبَّ جيل كثر استخفافنا به وتأففنا منه ومن انغماسه في عالم التكنولوجيا، مدفوعًا بمزيج من الغضب والمسؤولية، شاعرًا بمدى الظلم والقهر الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني ورافضا إبادته.. إنه الجيل زد.
عدد كبير من الشباب العشريني، صانعو المحتوى والمؤثرون ومشاهير السوشيال ميديا على المنصات المختلفة، الذين يتابعهم الملايين من مختلف أنحاء العالم على صفحاتهم الشخصية، قرروا التوقف تمامًا عن الطريق الذي يتبعه محتواهم، وتبديله بمحاولة إيصال صوت الشعب الفلسطيني الذي حُرم من الكلام بسبب قطع الكهرباء والإنترنت والاتصالات عنه.
شباب متسلحون بخبرتهم الواسعة في ثغرات ميتا، وبمعرفتهم بالطرق المختلفة والذكية لملاعبة هذا النظام الملتوي، وبحماسهم تجاه منافسته والانتصار عليه، رأى شباب الجيل زد أن واجبهم كمشاهير ومؤثرين أن يكون لهم دور في القضية الأبرز على مائدة القضايا الدولية، وارتأوا أن دورهم وإنسانيتهم تحتم عليهم -وهم في موقع قوة- أن ينصروا إخوتهم المظلومين، وأن يقفوا مع الحق بطريقتهم.
اقرأ أيضًا:كيف فصلت إسرائيل "سكينة الكهرباء" عن المصريين؟
توجيه الدفة لغزة
"فرح الكردي" التي يتابعها أكثر من مليونيّ شخص على تطبيق تيك توك، كان محتواها عبارة عن فيديوهات قصيرة عن الأحداث المميزة التي تحدث عالميا في مجالات عدة، كالصناعة والتكنولوجيا والفن وغيرها، والمميز دائمًا في محتواها هو طريقة عرضها المبتكرة البسيطة وأداؤها الذكي، حولت محتواها بالكامل لدعم القضية الفلسطينية، مستخدمة الذكاء نفسه في معرفتها بما يمكن حجبه من كلماتها، ومستغلة معلوماتها الواسعة في أدوات التطبيقات المختلفة، ليمكنها ذلك من عمل فيديوهات بنصوص وتعليقات صوتية ومواد شارحة، لتوصل رسائل إلى العالم باللغتين العربية والإنجليزية عن حقيقة الوضع الراهن في حرب فلسطين وإسرائيل.
"سارة مجدي" أو كما سمت نفسها "صحفية التيك توك"، لها آلاف من المتابعين وملايين الإعجابات كذلك، كان لفيديوهاتها عنوان ثابت هو (ايه اللي بيحصل الأسبوع ده في مصر؟)، تخبر فيها بطريقة ساخرة لطيفة ومميزة عن أبرز الأحداث التي حدثت في مصر خلال أسبوع وشغلت الناس والرأي العام، غيرت محتواها بالكامل لتتحدث بنفس الطريقة الساخرة عما يستجد في القضية الفلسطينية، وأيضا بلغتين مختلفتين.
المدوّن "ياسر أحمد" أيضًا بلوجر معروف بحبه للسفر وكثرة ترحاله، كان يصور محتواه الأماكن السياحية والمعالم الشهيرة في دول مختلفة، وينقل تجربته فيها بين فنادق ومناطق ومطاعم ومزارات، تغير كل ذلك مع بداية الأحداث الفلسطينية، فلم ينشر غير الوقائع والفظائع التي تحدث في فلسطين مبديا ألمه الشديد بسبب الأحداث، والمميز أيضا أنه قام بعمل مقاطعه بنصوص وتعليقات صوتية بالعربية والإنجليزية نطقا وكتابة، في محاولة منه لتجنب توقف محتواه عند العرب فقط.
كذلك "كريم قبّاني" أحد الشباب المؤثرين وصانع محتوى كوميدي على تيك توك وانستاجرام لديه ملايين الإعجابات، فقد وظيفته في فرنسا بسبب مناصرته للقضية الفلسطينية وتعبيره عن ذلك في محتواه، ورغم توسلات أمه له بعدم النزول في تظاهرات فرنسا المؤيدة لفلسطين، ورغم تهديده من قبل إدارة عمله بأنه لا يجب أن يعبر عن آرائه المثيرة للجدل على موقعه الخاص، تم الاستغناء عنه بعد رفضه السكوت عن الظلم الواقع على الفلسطينيين.
قرر كريم أن يساهم في القضية بطريقته الخاصة حتى وإن خسر كل شيء، فاستغل معرفته الجيدة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وقام بعمل عدد من الفيديوهات التي يخبر بها العالم عن رأيه في المستجدات الحاصلة، والفظائع اليومية التي يرتكبها الاحتلال بحق أصحاب الأرض، وأن يعبر عن رأي وموقف الشعب المصري من الأحداث، كما أنه تعلم جُملا باللغة العبرية في أيام قليلة، ليوجه بها رسائل قوية للإسرائيليين.
عن الدور الذي لم نتوقعه
هؤلاء الشباب الصغار -على سبيل المثال لا الحصر- هم جزء صغير من مئات الشباب العشريني المصريين والعرب وحتى الأجانب، الذين فاجأونا بتخليهم عن هوسهم بعالمهم الرقمي وتسجيل يومياتهم وتسليط الضوء على أنفسهم، فسخروا صفحاتهم للنشر والتدوين ونقل صور حية للأحداث بعدة لغات، منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والعبرية، عبر منصات انستاجرام وتيك توك وإكس وفيسبوك وغيرها.
جيل وُلد أكبره في أواخر الألفية الثانية، بعد نحو نصف قرن على النكبة، وتربى على الانخراط في العالم الافتراضي أكثر من الواقع منذ نعومة أظافره، لم نكن لنظن أبدا أن قضية كالقضية الفلسطينية قد تصبح يوما جزءا من اهتماماته، أو بتعبير أدق لم نكن نتوقع أن يكون لديه الوعي الكافي بها وبتفاصيلها، بل والأهم أن مناصرتهم للقضية نابع معظمها من نصرة للإنسانية والحق المجرد بعيدا عن الشعارات والأناشيد التي تربت عليها أجيالنا، ما يعطينا –نحن الأجيال الأكبر- درسًا في عدم الاستهانة أو الاستخفاف أبدا بعقول شباب هذا الجيل الفذ، الذين وإن بدت معظم اهتماماتهم سطحية، إلا أن انغماسهم في هذا الفضاء المفتوح وسباحتهم فيه باحترافية، زودهم بأطنان من المعرفة، في وقت أقصر بكثير مما استغرقنا نحن لتحصيلها.