دعنا نتذكر حكاية قديمة لكن بتتبع دقيق لنرى كيف تطورت شخصية ذلك التاجر الحالم ابن بائع الدخان والذي تجبره حرفته (التجارة) أن يكون صديقاً للجميع، ولأن هذا الحالم أصبح حاكماً لأهم مركز تجاري في العالم القديم وأكثر بقاع الأرض خيراً وأكثرها مشاكل أيضاً.
تبدأ قصة صاحبنا في شباب، حيث انضم لجيش السلطان العثماني وأتى على رأس فرقة عسكرية ليخرج الفرنسيين من مصر لكنه بمهارة عالية وبصبر ليس بالقليل استطاع بعد سنوات أن يجعل شعب تلك البلاد المختلف معها في العرق واللغة أن يختاره حاكما لأول مرة في تاريخه وليس هذا فقط وأن يدافع عن حكمه أيضا ويحمي سلطته.
استعان صاحبنا بكل من حوله ليصل لهدفه وعندما اصطدم بهم كان النفي والطرد بل والقتل الفردي والمذابح جماعية، كانت هذه هي وسائله الوحيدة وذلك على غير المتوقع.. كيف لشخصية تجارية ترى العلاقات الجيدة أفضل من رأس المال أن يكون خيارها النهائي هو الصدام المسلح والمذابح! لمعرفة هذا علينا أن نتتبع القصة منذ بدايتها وكيف كانت السلطة وكيف كانت نهاية من سبقوه في حكم تلك البقعة كثيرة الخيرات والمشاكل.
بداية القصة
بدأت القصة عام ١٨٠١م بخروج آخر جندي فرنسي محتل، فعادت البلاد إلى قبضة السلطان العثماني وعين عليها خمسة ولاة متعاقبين:
الأول:خسرو باشا
أول والي بعد جلاء المحتل والذي يثور عليه الجنود بسبب عدم دفع رواتبهم وينتهي التمرد بهروبه ثم القبض عليه وحبسه.
الثاني: طاهر باشا
جاء على رأس فرقة الأرناؤود مع محمد علي في نفس التوقيت، ومات مقتولاً بسبب عجزه أيضا عن دفع رواتب الجند.
الثالث: أحمد باشا
تحالف محمد علي مع المماليك بقيادة عثمان بك البرديسي ضده وتم قتله، فلم يحكم إلا يوماً واحدا.
الرابع: علي باشا الجزايرلي
والذي قُتل قبل أن يتسلم أمور الحكم فعليا، وهذا أقلهم في وقت الحكم بضع ساعات قضاها سعيداً بتوليه الحكم وقُتل قبل أن يستلم مقره في القلعة. من هنا لم يتبقى إلا محمد علي قائد فرقتي الألبان والأرناؤوط، وحليفه “البرديسي”، اللذان تحالفا معا، قبل ذلك للقضاء على “أحمد باشا”، وهنا حدث فراغ السلطة.
تسلم “البرديسي” الحكم بسيفه وبدأ في التحرك للقضاء على منافسيه من المماليك أولا وعلى رأسهم محمد بك الألفي والذي فر إلى الصعيد فانفرد البرديسي بالحكم. هل يهدأ مع محمد علي وينتصر لحليفه السابق! بالطبع لا، بدأ ينتظر اللحظة المناسبة لإقصائه والقضاء عليه، وفعلاً تحدث أزمة في مياه النيل وتقل المحاصيل ويرفع البرديسي الضرائب، وهنا يلجأ محمد علي لحيلة جديدة “موالاة الزعامة الشعبية” ضد البرديسي، فيبدأ بالتقرب منهم ويعدهم بتقليل الضرائب ويأمر جنوده ألا يؤذوا أحدا، من هنا يبدأ العامة بالنظر إلى محمد علي بأنه عادل يكره الظلم، ويثور الشعب علي البرديسي فيستغل صاحبنا الثورة ويهاجم مقرات وتجمعات المماليك ليطردهم خارج القاهرة.
الخامس: خورشيد باشا
لم يتبق قوة غير محمد علي لكنه لن يأخذ الحكم (الصبر الغريب العجيب) فيقترح محمد علي “خورشيد باشا” حاكم الإسكندرية العثماني لتولي الحكم، وهنا ينظر له الناس على أنه غير طامع في الحكم ويبدأ تحدي (صدام العباقرة).
خورشيد باشا كان متابعاً جيدا للأحداث وعلى علم بتحركات محمد علي فحاول إبعاده عن البلاد، طلب منه أن يحارب بقايا المماليك في الصعيد فرفض، طلب من السلطان استدعاء محمد علي وفرقتيه (الألبان و الأرناؤوط) إلى إسطنبول العاصمة العثمانية فرفض، فاستصدر فرمانا من السلطان بتعيين محمد علي والياً علي “جدة” فرفض أيضا، ولعلك تعجب! كيف يرفض قائد فرقة أن يصير واليا؟!
نعود لخورشيد باشا الذي أرسل له السلطان فرقة عسكرية تسمى “الدلاة” أي المتهورين المجانين لتدعيم سلطته والقضاء على تمرد الشعب عليه، وبسبب أفعال تلك الفرقة من جلد وقتل وتعذيب للناس ثار الأهالي مرة أخرى وقامت الزعامة الشعبية بالإجتماع في دار المحكمة وقرروا عزل خورشيد باشا وتولية ذلك الطيب العادل غير الطامع في الحكم “محمد علي” وأخذوا عليه عهدين:
– أن يحكم بالعدل.
– ألا يتخذ قراراً دون مشورتهم.
الرحلة
وتبدأ عام ١٨٠٥ م رحلة محمد علي الذي سيستمر حكمه إلى ١٨٤٨م كأطول حاكم لمصر في العصر الحديث. تطلب انجلترا من السلطان عزله فينظم الشعب بقيادة الشيخ عمر مكرم نقيب الأشراف مظاهرة لرفض هذا القرار مما دعى انجلترا إلى إرسال حملة عسكرية لاحتلال مصر وعزل محمد علي وتولية أحد أتباعها من المماليك، مستغلة وجود محمد علي في الصعيد لقتال المماليك فتتصدى الزعامة الشعبية لتلك الحملة بقيادة عمر مكرم أيضا وتجلو الحملة مقابل أن يفرج محمد علي عن الأسرى.
يأتي عام ١٨٠٨م وتحدث أزمة في فيضان النيل كما حدث سابقاً في زمن حكم البرديسي وهنا يستأسد محمد علي ويرفع الضرائب على عكس المتوقع منه ويصادر الأراضي ولكن لتمرير هذا القرار لابد أن توافق الزعامة الشعبية، وعلى رأسهم الشيخ عمر مكرم فكان الصدام بينهم والذي تعامل فيه محمد علي مع الشيخ على أنه منافس قد يقصيه عن الحكم فبادر في طرده من القاهرة ونفيه إلى دمياط ونسى له كل حسناته، ثم يتوجه للقضاء على آخر منافسيه المماليك فيجمعهم على وليمة في القلعة ويقتلهم بعدها فيما يسمى بـ”مذبحة القلعة” ١٨١١ م.
في النهاية .. محمد علي
– أكبر انتهازي متسلط في العصر الحديث.
– صاحب طموح عالي.
– يعرف هدفه جيدا ويبذل كل جهده للوصول إليه.
– غايته تبرر له كل الوسائل.
– تعلم الدرس جيداً ورأى ما حدث لمن سبقوه في الحكم.
– لم يستأمن أحد حتى من جاءوا به للحكم.
– داهية عصره.
للمزيد من المصدر التالي:
(محمد علي – سيرته وأعماله وآثاره) لـ إلياس أيوب، الناشر إدارة الهلال بمصر 1923 مhttps://ia802705.us.archive.org/21/items/taha_7/18.pdf
ما شاء الله