نساء السودان.. مستباحات الجسد والنفس بالحرب والعنف الأسري

“يومًا ما سوف تستيقظون لتجدوني قد ذبحتكم جميعًا”.. بهذه الكلمات التي اخترقت وجدانها وما زالت ترنّ في أذنها حتى اليوم، تتذكر سامية اللحظة التي انهار فيها عالمها وصارت أسيرة خوف لا يهدأ. لم تكن العبارة مشهدًا من فيلم رعب، بل تهديدًا مباشرًا امتدادًا لسلسلة طويلة من الاعتداءات اللفظية والجسدية التي دأب شقيقها على ممارستها ضدها وضد أفراد أسرتها داخل بيتهم الضيق بولاية كسلا في السودان. حيث وجدت سامية نفسها وسط حربين متزامنتين: حرب تشتعل خارج الجدران وتمزق السودان، وأخرى داخلية تفتك ببيتها الصغير وتسلبها الإحساس بالأمان”.

والمُحزن.. أن قصة سامية ليست فردية، بل هي مرآة تعكس واقع آلاف النساء والفتيات السودانيات اللاتي يتقاسمن الألم ذاته؛ ألم العنف الأسري المتداخل مع وحشية الحرب. حربٌ أنهكت الدولة وأفرزت هشاشة مدمّرة تسللت داخل البيوت، تلك التي كان يُفترض أن تكون الملاذ الأخير، تحوّلت إلى جبهات صراع جديدة تُضاعف المأساة وتترك النساء بلا خيارات. يضطررن للعيش داخل جدران بيت واحد مع معنفينهن، فهن لا يملكن دعمًا ولا مأوى ويخفن مواجهة المجهول في شوارع النزوح، وسط صمت اجتماعي وتجاهل إعلامي.

هذا التقرير عن الجبهة المنسية من الحرب. كيف تُجبَر النساء على تحمّل العنف الأسري في صمت، وكيف تتضاعف معاناتهن مع كل يوم تطول فيه مدة الصراع.

اقرأ أيضًا: الفاشر تسقط.. وخريطة السودان تتمزق

البقاء في جحيم المنزل أم الفرار إلى المجهول!

تروي سامية لـ فكّر تاني، كيف حوّل العنف الأسري منزلها إلى جحيم خانق: “بعد اندلاع الحرب، بدأ أخي يتعاطى مخدر الآيس، ويجعله مستيقظًا لأيام، وبسببه ينهال علينا بالشتائم والألفاظ النابية. حتى والدتي لم تسلم منه. وسرعان ما تحوّل العنف اللفظي إلى اعتداءات جسدية وتهديدات صريحة بالقتل، ما قضى تمامًا على أي شعور بالأمان”.

تعيش اليوم وحيدة، بلا مال، ومحاصرة بذاكرة الخوف وصدماتها..الصورة مولّدة بالذكاء الاصطناعي
تعيش اليوم وحيدة، بلا مال، ومحاصرة بذاكرة الخوف وصدماتها (الصورة مولّدة بالذكاء الاصطناعي)

حاولت العائلة إنقاذ ما تبقى من سلامها الداخلي، لكن جميع المحاولات تنتهي بالفشل. وفي ظل الحرب والانهيار الاقتصادي، لم يعد أمام سامية سوى التعايش مع تهديد دائم، وهي تدرك أن حياتها وحياة أسرتها معلّقة بخيط رفيع قد ينقطع في لحظة غضب.

وفي قصة أخرى لا تقل قسوة، تحكي إسراء محمد، منسقة الحالات في مبادرة صوت نساء دارفور: “خلال الحرب نزحت  “ف.م” البالغة من العمر 17 عامًا، من الفاشر إلى مليط. هناك فقدت جدتها التي كانت ترعاها، فاضطرت للإقامة مع خالتها، لكنها سرعان ما تعرّضت للضرب والإهانة على يد خالتها نفسها”.

حينها بحثت الفتاة عن مخرج، لكنها اصطدمت بواقع الحرب التي منعتها من الوصول إلى والدتها. لم تجد بابًا يفتح أمامها سوى مركز إيواء للنازحين، حيث تعيش اليوم وحيدة، بلا مال، ومحاصرة بذاكرة الخوف وصدماتها.

تطرح قصتا سامية و”ف.م” سؤالًا محوريًا: هل العنف الأسري في السودان مجرّد انعكاس للحرب وانهيار مؤسسات الدولة؟ نعتقد أن هذا العنف لم يولد من رحم الحرب، بل هو واقع ممتدّ سابق لها، غير أن ظروف الصراع والانهيار الاقتصادي والاجتماعي عمّقت آثاره ورفعت حدّته. فالمعركة التي تخوضها النساء اليوم ليست جديدة، بل امتداد لمعركة قديمة طالما دارت في الظل، بعيدًا عن الأضواء والاهتمام العام.

العنف متجذر

رغم تفشي ظاهرة العنف القائم على النوع الاجتماعي في السودان حتى قبل اندلاع الصراع المستمر منذ أبريل 2023، لم تتوافر إحصاءات دقيقة أو بيانات موثوقة، سواء رسمية أو غير رسمية، عن حجم هذه الظاهرة. في المقابل، كشف مسح صحة الأسرة السوداني لعام 2010، أن 47% من النساء يعتبرن أن ضرب الزوجة “حق للرجل” في مواقف متعددة، ورغم تراجع هذه النسبة إلى 30% عام 2014، إلا أنها كشفت عن تجذر ثقافة التطبيع مع العنف داخل المجتمع.

وفي عام 2020، أصدر صندوق الأمم المتحدة للسكان دراسة بعنوان “أصوات من السودان”، أكدت غياب بيانات انتشار دقيقة، لكنها أوضحت من خلال آراء المشاركين أن العنف الأسري هو أكثر أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي شيوعًا. حيث ذكر 19% من المشاركين أن هذا العنف هو الأكثر انتشارًا، ويتجلى في صور متعددة: من التوبيخ والإهانة وتقييد حرية الحركة، إلى الاغتصاب، والعنف الاقتصادي، والضرب، والزواج القسري.

ذلك بالإضافة إلى زواج القاصرات، حيث أشارت تقارير اليونيسف إلى أنه ما زال منتشرًا في السودان، حيث تتزوج 34% من الفتيات قبل بلوغهن 18 عامًا، وهو واقع يضع ملايين الفتيات في علاقات غير متكافئة تزيد من احتمالية تعرضهن للعنف المنزلي.

أما تقرير شبكة البحوث أفروباروميتر، فيشير إلى أن أغلب السودانيين يرفضون تبرير عنف الرجل ضد زوجته، لكنهم يعتبرونه شأنًا أسريًا خاصًا. ويعتقد الكثيرين بأن الشرطة تتعامل بجدية مع هذه القضايا، إلا أن النساء المُبلغات غالبًا ما يواجهن انتقادات أو مضايقات ووصمًا اجتماعيًا.

وحتى حين تقرر المرأة كسر حاجز الصمت واللجوء إلى القضاء، تصطدم بجدار من التعقيدات القانونية. إحدى الضحايا روت في حديث صحفي سابق تجربتها قائلة: “عندما لجأت إلى المحكمة بعد أن ضربني زوجي، طلب مني القاضي أن أُحضر شاهدًا”. ثم أضافت بدهشة ومرارة: “ومن أين لي بشاهد؟ لو لم أكن قد تعرّضت للعنف فعلًا، لما قصدت المحاكم أصلاً!”.

جدير بالذكر أن السودان لا يمتلك قانونًا خاصًا بالعنف الأسري؛ إذ تخضع مثل هذه القضايا للقانون الجنائي وقانون الطفل، حيث توجد نصوص عامة تُجرم العنف ضد الإنسان، وفق ما أوضحه المحامي والخبير القانوني محمد التجاني. هذه الثغرات القانونية دفعت منظمات حقوقية وجهات عدة إلى السعي لإعداد مشروع قانون لمكافحة العنف ضد المرأة، غير أن هذا المشروع لم يتم إجازته حتى الآن.

اقرأ أيضًا: قوانين بلا روح.. نساء مصر بين التمييز والتجاهل

الحرب تغذي العنف وتزيد هشاشة النساء

في ظل واقع مأساوي يسبق اندلاع الحرب، جاء النزاع المسلح ليزيد الأزمة تعقيدًا، إذ انهارت مؤسسات الدولة الأمنية والصحية والتعليمية، فيما فتح النزوح الجماعي، وانعدام الخدمات، وتآكل شبكات الحماية الاجتماعية الباب على مصراعيه أمام تفجر العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما فيه العنف الأسري.

وفي هذا السياق، تشير لجنة الإنقاذ الدولية -IRC، إلى أن العنف المنزلي وعنف الشريك الحميم يرتفعان بشكل حاد عندما تعجز الأسر عن تأمين احتياجاتها الأساسية، ويغرق أفرادها في إدمان المخدرات أو الكحول، ويعيشون بلا دخل ثابت.

وهذا بالضبط ما فعلته الحرب في السودان. إذ فاقمت الفقر والضغوط النفسية، وسمحت بانتشار واسع لتهريب وتجارة المخدرات، ما أدى إلى انفجار العنف داخل البيوت، وتحويل أقرب الناس إلى مصدر تهديد، كما حدث في حالة سامية.

وتوضح بيانات هيئة الأمم المتحدة للمرأة UN Women، حجم المأساة، إذ ارتفع الطلب على خدمات الدعم للناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي —بما يشمل العنف الأسري وعنف الشريك— بنسبة تجاوزت 288% منذ ديسمبر 2023، في مؤشر صارخ على أزمة خرجت عن السيطرة.

لكن في الوقت نفسه، عرقلت الحرب بشكل كبير قدرة المواطنين، خاصةً النساء، على الوصول إلى الخدمات القضائية الرسمية. يقول الخبير القانوني محمد التجاني لـ فكّر تاني: “لقد توقفت الشرطة والمحاكم عن العمل في العديد من مناطق النزاع، كما أن تكلفة الوصول إلى مناطق تتوفر فيها هذه الخدمات، في حال وُجدت، أصبحت باهظة ومعقدة، ما زاد من صعوبة التقاضي”.

“هذا الواقع دفع السودانيين إلى اللجوء لآليات بديلة مثل التحكيم عبر الحكماء. ورغم أن هذه الآليات قد توفر تسوية مؤقتة، إلا أنها لا تضمن حماية الحقوق، خاصة حقوق النساء”.

في ظل هذه الهشاشة وغياب العدالة، يتضاعف الأثر النفسي للعنف. تقول الأخصائية النفسية أماني حامد، في حديثها مع فكّر تاني: “إن النساء اليوم يواجهن ظروفًا قاسية سواء في المنازل أو المعسكرات أو مراكز الإيواء؛ من انعدام الأمن والغذاء والماء والأدوية، وصعوبة الحركة والتنقل، إلى القيود الأسرية وضعف الإمكانيات المادية والخوف المستمر على الأبناء من المسلحين. أمام هذا الواقع، تختار كثير من النساء الصبر، فيما تُضطر أخريات إلى الفرار مع أطفالهن هربًا من العنف الأسري والمجتمعي. ومع ذلك، يبقى الضرر النفسي حاضرًا يلاحق الجميع”.

اقرأ أيضًا: إيمان يوسف: صورة المرأة السودانية في الإعلام لا تعبر عن واقعها

ندوب نفسية تتجاوز الحرب

تشير أماني حامد، إلى عمق الأثر الذي يخلفه العنف الأسري على النساء في ظل الحرب، موضحةً: “لا شك أن انعكاساته على الصحة النفسية شديد، خاصة في مناطق النزاع. فالحرب حرمت كثيرات من مصادر الدخل والمعيل، ودفعت الضائقة الاقتصادية بعض الأسر إلى تزويج بنات قاصرات خوفًا من الاعتداء أو بسبب الحاجة، وهو ما يضاعف التوتر والاضطراب داخل الأسر”.

“النساء في مراكز النزوح أو البيوت المهددة يعانين من قلق دائم واضطرابات نوم ونوبات بكاء هستيرية وأعراض تشبه الصدمة، وكثير من الحالات التي أتابعها تحولت إلى اضطرابات مزمنة تظهر في صورة قلق أو سلوك عدواني”.

ولا يقتصر هذا الأثر على الأمهات فحسب، بل يمتد إلى أطفالهن. تقول الأخصائية النفسية: “العنف الذي تتعرض له النساء ينعكس مباشرةً على الأبناء، إذ قد تفرغ الأمهات انفعالاتهن المكبوتة فيهم من خلال الضرب، أو العقاب القاسي، أو حتى وصمهم بالنحس والشؤم. مثل هذه التداعيات النفسية لا تقف عند جيل واحد، بل قد تنتقل عبر الأجيال إذا لم تتوقف الحرب، ولم يتم توفير رعاية نفسية متخصصة للضحايا، وإذا لم تحظ النساء باهتمام ورعاية خاصة في هذه الظروف القاسية”.

الدور المتآكل لمنظمات الدعم

ورغم فداحة الأعباء النفسية والاقتصادية التي خلفتها الحرب، لم تجد النساء من يخفف عنهن أو يساندهن بشكل كاف، إذ تآكل دور شبكات الدعم المحلي والمنظمات التي كان يفترض أن تقدم المساندة النفسية والقانونية والخدمات الحامية. وتوضح ذلك أماني حامد بقولها: “رغم تعرض الكثير من النساء للاستغلال والعنف الأسري خلال الحرب، إلا أننا نجد أن خدمات الحماية وأمن وسلامة النساء ضعيفة جدًا، بعدما خرجت معظم المؤسسات من الخدمة، ولم يبقَ سوى عدد قليل من المنظمات”.

الصورة مولدة بالذكاء الاصطناعي

وتؤكد هذا الواقع أيضًا إسراء محمد منسقة حالات مبادرة نساء دارفور، في إشارة منها إلى الوضع النفسي والمادي الصعب للفتاة ذات الـ17 عامًا “ف.م”، قائلة: “لقد وفرت المبادرة الدعم النفسي للفتاة، لكن وضعها الاقتصادي صعب، ولم تستطع الانتقال إلى أي مكان آخر أو حتى اللحاق ببقية أسرتها وإخوتها في أم درمان. أما نحن، فلم نتمكن من مساعدتها في ذلك بسبب ضعف التمويل”.

أما على مستوى أوسع، فقد رصدت خطة الاستجابة الإنسانية في السودان لعام 2024، الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية -OCHA، جملة التحديات التي تواجه المنظمات العاملة في مجال مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي. أبرز هذه التحديات تشمل: محدودية الوصول الإنساني إلى المناطق المتضررة من النزاع، والنقص الحاد في الإمدادات، وضعف توفر الخدمات المتخصصة.

كما أن انعدام الأمن وتدمير الممتلكات ونهب المرافق الطبية —بما في ذلك المستشفيات والمراكز الصحية— يعرقل بشكل مباشر وصول الناجيات إلى الخدمات الأساسية، ويجعل من الصعب على مقدمي الخدمات الإنسانية الاستجابة الفعالة لحجم الأزمة المتفاقمة.

اليوم، في السودان، لم يعد العنف الأسري مجرد شأن خاص يُدار خلف الأبواب المغلقة؛ بل تحوّل إلى جبهة موازية للحرب، تغذيها الفوضى الأمنية والانهيار الاقتصادي وثقافة الصمت والتطبيع مع الألم.

سامية و”ف.م” وغيرهن…، يواجهن خيارات شديدة الصعوبة: إما البقاء في منازل تحولت إلى ساحات تهديد دائم، أو الهروب إلى المجهول دون سند أو حماية. وبينما تواصل مؤسسات الدولة غيابها، وتتعثر المنظمات الإنسانية في الاستجابة، يبقى صوت الضحايا ضعيفًا يتردد في الفراغ بلا صدى، فيما تتسع دائرة الخطر لتلتهم حاضر النساء ومستقبل أجيال كاملة.

  • يأتي هذا التقرير ضمن إنتاجات مساق الكتابة الصحفية للنوع الاجتماعي الذي نظمه برنامج “صحافة للإنسان”، أحد برامج مبادرة “نكتب لننجو”، بالتعاون مع فكّر تاني.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة