“سرنا الخاص”.. شهادات من جحيم “دائرة الثقة”

“كان عندي 7 سنين، ولابسة بيجامة عليها صورة ‘سبونج بوب’، بابا قالي تعالي عايز أقولك سر محدش يعرفه غيرنا”، بهذه الكمات بدأت سارة ياسر، التي تعيش في قرية بشبين الكوم -محافظة المنوفية، حديثها عن والدها، الرجل الذي كان من المفترض أن يكون مصدر أمانها الأول.

وسارة ليست حالة فردية أو معزولة، بل شرارة تكشف عن ظاهرة أوسع ظهرت مؤخرًا على “تيك توك”، بهاشتاج “#كنتي_لابسة_ايه“، حيث فتحت هذه المنصة لآلاف الناجيات دفاتر طفولتهن المنسية، وحوّلنه إلى عنوان لشهاداتهن التي كشفت حقيقة مفزعة وهي أن معظم الجناة لم يكونوا غرباء، بل أشخاصًا من المفترض أنهم “أهل” و”سند”، يعيشون داخل جدران الثقة ذاتها، وكشفت أن ملابس الضحايا تراوحت بين زي المدرسة وبيجامات الأطفال وفساتين الأعياد.

تشير الاحصاءات الصادرة عن المجلس القومي للطفولة والأمومة، أن خط نجدة الطفل استقبل خلال النصف الأول من عام 2025 ما يزيد على 11 ألف و 644 شكوى وبلاغًا وطلب مساعدة، بمتوسط يومي يصل إلى 65 بلاغًا، لتوضح البيانات أن 87% من هذه الشكاوي ارتبطت بحماية الأطفال في وضعيات الخطر، بينما جاءت 13% من الشكاوي في صورة طلبات للاستشارات النفسية والقانونية.

منصة افتراضية لجروح حقيقية

تقول نهى عيسى لـ فكّر تاني، وهي تحاول استرجاع ملامح طفولتها: “كان عندي 8 سنين، ولسه بلبس توك شعر عليها فراشات وبلعب بالعرايس، بابا كان بالنسبة لي حاجة كبيرة أوي، لكن في يوم قال لي: ‘تعالي أوعي تقولي لحد، ده سرنا لو خرج هزعل منك ومش هيصدقوكي‘، كنت مش فاهمة. حسيت إني مخنوقة بس مش قادرة أتكلم، كل اللي كنت حاسة بيه إني عملت حاجة غلط، وإن العيب فيا مش فيه”. موضحةً أن المرحلة الأصعب لم تكن في فيما حدث بالفعل -رغم قسوته- إنما كان “السر” الذي حملته بداخلها طوال السنوات وحدها.

“كنت بشوفه بيضحك ويهزر مع الناس كأب عادي، وأنا جوايا بركان ساكت، كل مرة حاولت أفتح الموضوع مع أمي كانت بتسكتني وتقولي: ‘إوعي تظلمي أبوكي، يمكن فاهمة غلط، كنت عايشة بين صورتين: صورة الأب اللي المجتمع شايفه، وصورة الجاني اللي أنا عارفاه”.

فيما تحكي مي حسن 22 عامًا، تجربتها حين كانت في الرابعة من عمرها لـ فكّر تاني: “أمي كانت فاكرة إنه بيهزر مع طفلة صغيرة.. لكن الحقيقة إنه كان بيتحرش بيا”، مشيرةً أنها لم تفهم وقتذاك ما يحدث في حقيقة الأمر، لكن، بحسب تعبيرها، “استقر في ذاكرتي الشعور بالخوف والإرتباك، أمام أفعال كانت تصورها أمي بأنها ‘مداعبات بريئة‘، بينما هي في حقيقتها اعتداء صارخ على طفولتي!”.

أما فاطمة عاطف فكانت صدمتها مزدوجة، فلم تكن تتوقع أن يتحول بيتها الذي تستقبل فيه الأسرة أقرب الأصدقاء إلى مسرح لانتهاك براءتها. تقول لـ فكّر تاني: “كان صديق بابا بيزورنا كتير، وكنت صغيرة مش فاهمه حاجه وفجأة لقيت نفسي في موقف مخيف مش عارفة أتكلم فيه مع شخص المفروض ان العائلة بتثق فيه ولكن لما قولت لأمي وقتها كان ردها الصادم: ‘عيب ده زي أبوكي أكيد فهمتي غلط”.

تجسد هذه الشهادات معضلة “دائرة الثقة” التي تتحول إلى فخ، حين يصبح التشكيك في القريب “عيبًا” اجتماعيًا أكبر من التحقيق في الجريمة.

وهو ما علّقت عليه آية صاحبة الـ27 عامًا لـ فكّر تاني، والتي أشارت أن المشكلة في أول رد فعل من الناس المحيطين، فنحن في مجتمع قادل على تحميل الطفلة ذنب تعرضها للتحرش.

توعية بلا تخويف

أمام هذه الشهادات الصادمة، يبرز سؤال ملحّ في كل بيت: كيف نحمي أطفالنا؟ فيعلق الدكتور حسن عبد الرحمن، الخبير التربوي والاستشاري الأسري لـ فكّر تاني، قائلًا: “الكارثة الحقيقية هي أننا نعلّم أطفالنا قواعد السلامة من الغرباء، ونتجاهل أن إحصائيات مراكز السيطرة على الأمراض تؤكد أن الغالبية العظمى من المعتدين هم من محيط الطفل الموثوق به”.

ويضيف، أن الخطأ الذي يقع فيه كثير من الأهالي، هو تأجيل هذا الحديث الحساس. الهدف ليس تخويف أطفالنا، بل تمكينهم، ومنحهم لغة بسيطة يتعرفوا بها على أجسادهم، وثقة ليقولوا بها “لا”، وجرأة ليخبرونا فورًا. يجب على الأهل أن يعلموا أطفالهم منذ عمر 3 سنوات أن جسدهم ملكهم، لنزرع داخلهم مفهوم الحدود الشخصية، ولنجعلهم يعرفون أن لا حاجة لأن يكون بينهم وبين غيرهم “سر خاص”.

دوافع لا تُبرر الجريمة

ولمعرفة لماذا يأتي الخطر غالبًا من داخل هذه الدائرة الآمنة، يقول الطبيب النفسي سامح رزق، في حديثه مع فكّر تاني، إنه من الضروري التمييز بين البيدوفيليا كاضطراب نفسي، وبين الاعتداء الجنسي على الأطفال كجريمة واضحة، ليس كل من يعاني هذا الاضطراب يتحول إلى معتدٍ، وليس كل معتدٍ مصابًا بالبيدوفيليا، الاعتداء هو قرار وسلوك إجرامي لا مبرر له.

البيدوفيليا، وفق التصنيف الطبي، هي ميول جنسية تجاه الأطفال الذين لم يصلوا سن البلوغ بعد، وتُدرج ضمن الاضطرابات النفسية في الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية.

وهذا الاضطراب لا يُبرر بأي حال ارتكاب الجريمة، لكنه يفسر وجود انحراف في التوجهات الجنسية لدى بعض الأفراد، وهو ما قد يستدعي تدخلًا علاجيًا ونفسيًا. وفي المقابل، يظل الاعتداء الجنسي نفسه جريمة قانونية وأخلاقية تستوجب العقاب، بصرف النظر عن الدوافع أو الاضطرابات الكامنة خلفها.

ويشير الطبيب النفسي إلى أن المعتدي من “دائرة الثقة” يستغل سلطته وبراءة الطفل، ويستخدم أساليب تلاعب نفسي، مثل تحويل الاعتداء إلى “لعبة” أو “سر خاص”، بل وتهديد الطفل نفسه أو إشعاره بالذنب إذا أفصح، ما يضمن صمته لسنوات، هذه الديناميكية النفسية تجعل الجريمة مضاعفة الأثر، إذ لا يقتصر الانتهاك على الجسد فحسب، بل يمتد إلى هدم ثقة الطفل بنفسه وبأقرب الناس إليه.

من الاعتراف الدولي إلى المواجهة المحلية

أكدت اليونسكو عبر موقعها الرسمي، أن الاعتداء أو الاستغلال الجنسي للأطفال يُعد انتهاكًا صارخًا، مشيرةً إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت في نوفمبر 2022 القرار رقم (77/8)، الذي أقر يوم 18 نوفمبر من كل عام يومًا عالميًا لمنع الاستغلال الجنسي والإيذاء والعنف ضد الأطفال والتعافي منه، ويهدف القرار إلى القضاء على مختلف أشكال الانتهاكات، وحماية كرامة وحقوق الضحايا، مع ضمان حصولهم على الدعم النفسي والطبي اللازم لتجاوز آثار التجربة.

وفي محاولات مصر لمواجهة هذه الجرائم، اتخذت بعض الإجراءات، عبر توفير آليات للإبلاغ عن الانتهاكات ضد الأطفال: مثل خط نجدة الطفل 16000، هذا إلى جانب تشديد العقوبات في القانون.

اتهمت ابني بالكدب

تحكي سمر السيد 45 عامًا، لـ فكّر تاني، أنها “أنكرت” كأول رد فعل، وتقول: “ابني كان عنده 7 سنين لما جه وقالي إن عمه بيعمل معاه حاجات غريبة، وقتها، عقلي رفض يصدق، قلت له عيب تكذب، ده عمك اللي بيحبك”.

وتوضح أنها ظلت لشهور تدافع عن العم، بل وكانت أيضًا تصرخ في وجه ابنها كلما فتح هذا الكلام: “كنت بقول لنفسي ده طفل وبيتهيأله، أو يمكن حد علمه الكلام ده عشان يوقع بيني وبين أهل جوزي، كنت خايفة من الفضيحة ومن خراب البيت، فقررت أدفن راسي في الرمل”.
وتشير إلى التغيرات التي لاحظتها على سلوكيات ابنها، فقد أصبح “عدواني ومنعزل” هذا غير إصابته بـ “التبول الليلي”، مؤكدة: “ساعتها بس
لجأت لطبيب نفسي واكتشفت وقتها حجم الكارثة”.

على الطرف الآخر، كانت هدى خليل 35 عامًا، حاسمة وصاخبة في رد فعلها، وتقول لـ فكّر تاني: “بنتي كان عمرها 9 سنين، واللي تحرش بيها كان جدها، أبويا أنا، لما حكتلي، حسيت كأن حد ضربني بسكين في قلبي، مكنش عندي وقت للتفكير ولا وقت للشك، واجهته وأنكر وأمي قاطعتني وقالت إني بتبلى على أبويا”.


أما نادية عطية فتقول لـ فكّر تاني: “المتحرش كان ابن عم جوزي، كان عايش معانا في نفس البيت بحكم ظروفه، لما بنتي حكتلي قولت لجوزي لكن مصدقنيش في البداية، لكني واجهت المتحرش نفسه وأنكر وهددني، البيت اتحول لساحة حرب بينا، جوزي بين أهله وبيني، وأنا بين ضهري المكسور وبنتي اللي لازم أحميها”.

في النهاية، ما بدأ كوسم افتراضي تحت اسم كنتي_لابسة_ايه لم يكن مجرد صرخة عابرة في الفضاء الرقمي، بل كان مرآة عكست جحيمًا حقيقيًا يعيشه أطفال داخل أكثر الأماكن التي يُفترض أنها آمنة: بيوتهم وعائلاتهم، من بيجامة “سبونج بوب” التي ارتدتها سارة، إلى توك الفراشات في شعر نهى، مرورًا بصدمات لا حصر لها لم تجد طريقها بعد إلى النور، تتضح حقيقة واحدة وهي أن الجريمة ليست أبدًا في ملابس الطفلة، بل في خيانة الثقة التي يرتكبها الجاني وفي جدار الصمت الذي يبنيه المجتمع حول الضحية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة