“أنا ست قوية”.. قناع يخفي القهر أحيانًا

“أنا ست قوية، مابتنازلش عن حقي أبدًا”.. بهذه الكلمات، قطعت بائعة الخضار مشاجرتها مع أحد الزبائن حول بضعة جنيهات. ثم التفتت إلينا، أنا وأمي، وعيناها تلمعان بتحدٍ مصطنع، لتشرح بحماس كيف أنها امرأة لا تتنازل أبدًا عن حقوقها.

كان ذلك في قلب أحد أسواق الجيزة الشعبية؛ متاهة من عربات الخضار، وأصوات الباعة التي تخترق الهواء، ورائحة الأسماك والدواجن التي لم تعد تزعج أحدًا. وسط هذا الضجيج، كانت تجلس رحاب -اسم مستعار- على عربتها من الصباح حتى المساء، وبجانبها طفلان، أحدهما رضيع والآخر بالكاد يحبو.

اعتدت المرور بهذا السوق يوميًا في طريقي إلى بيت جدتي، الذي عشنا فيه قرابة عشرين عامًا. كان المشهد مألوفًا، يحمل دفء الانتماء. لكن في ذلك اليوم، تحولت الألفة إلى حزن ثقيل في قلبي، تحديدًا بعد أن شهدت انتصارها الصغير، وسمعت عبارتها التي ظلت ترددها كأنها تعويذة.

لا ملاذ آمن 

بدأت رحاب تحكي لنا، ليس عن المشاجرة، بل عن معركة أخرى أكبر، وكيف استعادت “حقها” من أقرب الناس إليها. حكت كيف كانت وهي حامل بابنها الأكبر تقضي يومها كله، الذي يمتد ثماني عشرة ساعة، واقفة تبيع الخضار، ثم تعود في آخر الليل لتسلم كل ما كسبته لزوجها.

وفي أحد تلك الأيام، عادت إلى المنزل خاوية البطن، ينهشها الجوع وألم الحمل. لم تجد سوى قطعة حلوى ألقاها لها زوجها ببرود قبل أن يغادر. وحين تجرأت، تحت ضغط الجوع والألم، على مطالبته بالطعام لتستطيع الوقوف على قدميها في صباح اليوم التالي، كان الرد سيلًا من الشتائم والضربات!.

لم تستطع رحاب أن تتحمل الإهانة كما تحملت الجوع والتعب. وفي ظلمة الفجر، خرجت إلى الشارع، الذي بدا في تلك اللحظة أرحم من بيتٍ يُفترض أن يكون “المأوى” و”الأمان”. راحت تتسول المارة، لا لشيء إلا لتجمع ما يكفيها من مال لتركب مواصلة تقودها إلى بيت أخيها، ملاذها الوحيد من “الضرب” و”الجوع”. كانت نظرات الناس تتأرجح بين الشك في أنها محتالة، والخوف من امرأة وحيدة في هذا الوقت المتأخر.

بعد أيام، تبعها زوجها إلى بيت أخيها، وبروايته الخاصة: “هي بدأت تشتمني أنا وأمي”، وما فعله كان مجرد دفاع عن كرامته كرجل. هنا، انهار آخر حصن كانت تتكئ عليه؛ فأخوها لم يرَ وجعها، بل رأى “حق” الزوج، وأجبرها على العودة معه. لم يكن أمامها خيار آخر، فلا مال لديها يمكنها من اتخاذ قرار مستقل، فاضطرت مجبرة للعودة إلى نفس الجحيم.

الهدف: خصم أضعف

في ذهولٍ، وقفنا أنا وأمي ونحن نستمع. كيف يمكن أن يكون خلف هذا القناع القوي كل هذا القهر؟! قطعت رحاب صمتنا وهي تكمل قصتها ببريق غريب في عينيها: “بعدما رجعت البيت، مسكت التليفون وبدأت أسبّ في مرات أخويا وشتمتها. أنا مبعرفش أتنازل عن حقي أبدًا!”.

كان هذا هو انتصارها. انتصار وهمي صاغته لنفسها، أرادت أن تظهره أمامنا كأنه استعادة لحقها من أخيها الذي خذلها. لكنه في الحقيقة، مجرد صدى لمعركة كانت فيها هي الحلقة الأضعف. واليوم فقط، يمكن أن تروي قصتها للغرباء، برؤيتها هي، باحثةً في عيوننا عن تصديق يمحو من داخلها شعورها بالعجز، تستبدله بانتصارٍ صنعته بنفسها.

منذ ذلك اليوم، ظللتُ أمر يوميًا بنفس الطريق. أراها جالسة وسط بضاعتها، أبناؤها بجانبها وزوجها قريب، تبيع بهمة لا تنقطع. ومع كل مرة، لم أعد أرى بائعة خضار قوية، بل رأيت صورة حية لقهر النساء اللاتي لم يجدن سلاحًا سوى إعادة سرد قصصهن بعيونٍ تتصنع القوة، وترفض الاعتراف بالهزيمة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة