من يحرس الأثاث ومن يحرقه.. غزة بين خيارين أحلاهما رماد

بينما كان يحيي اليعقوبي، الصحفي الفلسطيني، يستعد للعودة إلى غزة بعد إعلان وقف إطلاق النار، لينتقل بأثاث بيته الذي ظل يحرسه لهذا اليوم، تلقى مقطع مصوَّر ليرى بأم عينيه كيف دمرت الحرب بيته في شمال القطاع.

“هي عمارتك يا يحيى، هي العمارة، أظن انت بالطابق الثالث، فش غير غرفة النوم بس مفرغة، تجدرش تطلع على العمارة، بالمرة، العمارة وضعها صعب، ونازلة، هي العمارة تاعتكو كلها مفرغة”.. يقول له مُرسل الفيديو

بقلب مفطور يشارك يحيى الفيديو على صفحته “فيسبوك” مُعزيًا نفسه وسنوات عمره: “رغم قسوة الابتلاء في هذه الظروف العصيبة، إلا أننا نطلب العوض من الله في الدنيا والآخرة”، عازمًا العودة إلى غزة “رغم الدمار أعود لغزة من النزوح، لأن ارتباطي بها ارتباط روحٍ بأرض، وليس حجارة يمكن إعادة بنائها”.

جاء ذلك في أعقاب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، صباح الخميس الماضي، موافقة كل من حماس وإسرائيل على المرحلة الأولى من اتفاق اقترحته الولايات المتحدة، وكان من أبرز شروطه: وقف الحرب والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، ما فتح الباب أمام آلاف النازحين للبدء في رحلة العودة إلى منازلهم المدمّرة.

وبحسب تقديرات وكالة الأمم المتحدة، نزح نحو مليوني فلسطيني، غالبيتهم قُصفت منازلهم، فوفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغت الوحدات السكنية المتضررة في قطاع غزة حتى الآن نحو 330,500 وحدة، بينها أكثر من 102,067 مبنى دُمّر كليًا، فيما يُقدَّر حجم الركام المتراكم بحوالي 50 مليون طن، ما يعكس حجم الكارثة العمرانية والإنسانية التي خلّفها العدوان الإسرائيلي المستمر.

حلم لم يكتمل

مع تحوّل منزل يحيى إلى أنقاض، لم يكتمل حلم العودة، بأن يضم أثاثه إلى بيته من جديد -ذلك البيت الذي اشتراه قبل عامين بعد سنوات طويلة من النزوح والإيجار، ولم يُكمل أقساطه بعد.

يقول: “ولدت بلا مأوى كوننا لاجئون، كبرت على واقع مرتفع في أسعار الشقق، عشت تسع سنوات في الإيجار، واشتريت الشقة بعمارة جميلة قبل عامين من الحرب بعد كد وتعب ولم نتمم بعد سداد جميع أقساطها وكانت شقة العمر، راح ما هو أغلى من الحجارة”.

ظلّ يحيى طوال النزوح يحرس أثاثه كمن يحرس جزءًا من حياته، يقيه من البيع تارة ومن الحرق تارة أخرى، على أمل أن يعيده يومًا إلى مكانه الأول، لكن الاحتلال بدّد الحلم، وتركه معلقًا بين ما بقي من الأثاث، وبيت لم يبقَ منه سوى الركام.

منذ أن نزح يحيى من شمال غزة إلى جنوبها في مواصي خان يونس، وكان أول ما فعله أن استأجر خيمة ليحفظ فيها أثاث بيته، رغم كلفة النقل الباهظة، ليحميه من أعين التجّار الذين حاولوا شراءه لتقطيعه وبيعه حطبًا للعائلات التي تستخدمه وقودًا للطهي. في كل مرة كان يرفض بإصرار، مردّدًا “لا أملك قلبًا يبيع الذكريات تحت ضغط الحاجة”.

ورغم قسوة الحاجة، كان يفضّل شراء الحطب من السوق: “كحال بقية الأهالي، أشتري كيلو الخشب بـ 8 شواكل”، يقول يحيي اليعقوبي لـ فكّر تاني. أصرّ على أن يُبقي أثاث بيته بعيدًا عن النار. لم يكن الأمر مجرّد خشب بالنسبة له، بل ذكريات عمرٍ كامل خبّأها في كل قطعةٍ منه.

وكلما سأله طفله “لماذا نشتري حطبًا ولدينا خشب”، يجيبه يحيى “أن نقص أي قطعة سيؤدي لاحقًا لصعوبة إعادة تركيب الأثاث مرة أخرى في حال العودة للبيت، أو عندما نستأجر شقة”، ظلّ ممسكًا بأثاثه آملًا في العودة من جديد، الحُلم الذي لم يكتمل بعد.

هناك، في ساحة ترابية خالية داخل أحد مخيّمات خان يونس، حيث يقيم يحيى مؤقتًا بانتظار أن يجد شقّةً يستأجرها في شمال غزة، صفّ أثاثه بعناية: صالون استقبال الضيوف، غرفة نوم أطفاله، والفراش الأرضي الذي كان يجمع أسرته كل مساء. بحنين ينظر إلى غرفة النوم التي فكّها بيديه، يقول: “هذه الغرفة عمرها 14 سنة، ولا يمكنني حرقها من أجل الطهي، فذلك سيكون كأنني أحرق ذكرياتي”.

لطالما شعر يحيي بالحزن الشديد كلما لجأت زوجته إلى الاستعانة بأحد كتبه لإشعال النار، وقت المجاعة، كان يُسارع إلى إخراج الورق من اللهب، ويخفي الكتب عنها، خشية أن تتحول إلى رماد، بالنسبة له: “كل كتاب له ذكرى في اقتنائه”، فكان لديه مكتبتة الخاصة، التي جمع فيها كتبه بعناية على مدار سنوات.

يعرف يحيى جيدًا قيمة ما يملك. كل قطعة أثاث بالنسبة له ليست مجرد خشب، بل ذاكرة. ورغم أن نقلها كل مرة أرهقه ماليًا وجسديًا، فإنه لا يتردد في حملها معه أينما نزح “الأثاث لا يُقدَّر بثمن، دائمًا على استعداد لنقله مرات ومرات”.

 بعد انهيار منزله وجد يحيى في اصطحاب أثاثه نوعًا من التخفيف عن آلامه “بقاؤه بقربي يمنحني نوعًا من الراحة، كأني ما زلت في شقتي وليس في خيمة، هذا جزء من التعافي النفسي من وجع النزوح”.

منذ انقطاع الغاز مع بداية الحرب، وجدت آلاف العائلات نفسها أمام خيار قاس: إما الجوع، أو حرق ما تبقّى من البيوت. لجأ كثيرون إلى تكسير أثاثهم واستخدامه حطبًا للطهي، بينما توقّف إمداد الغاز تمامًا منذ مارس الماضي، لتتفاقم الأزمة أكثر. ومع ارتفاع أسعار الحطب وجشع بعض التجّار، راحت عائلات تبحث بين الركام عن قطع خشب صالحة للاشتعال، تجمعها من بين أنقاض البيوت المدمّرة لتشعل بها نارًا تُبقيهم أحياء.

وكان إياد الشوربجي مدير الهيئة العامة للبترول في غزة، قد حذر من انقطاع الغاز المتواصل: “تهديد مباشر للحياة اليومية”، مؤكدًا أن الحصار وإغلاق المعابر من قبل العدوان الإسرائيلي لا يحرم الأسر من وسيلة الطهي فقط، بل يترك المستشفيات بلا وقود، ويعطل المواصلات، ما يضاعف معاناة أكثر من مليوني إنسان محاصرين داخل القطاع، وفقًا للمركز الفلسطيني للإعلام.

وأوضح مدير الهيئة العامة للبترول، أن ما كان يصل غزة قبل توقف الإمداد لا يتعدى 2000 طن من الغاز شهريًا، في وقت يحتاج فيه القطاع إلى أكثر من ثلاثة أضعاف هذه الكمية –7000 طن– لتأمين الحد الأدنى من الخدمات الصحية والمرافق العامة. لكن، ومنذ مارس، أُغلقت المعابر بالكامل بقرار من العدوان الإسرائيلي، فتوقف الغاز تمامًا، لتجد المستشفيات نفسها مهددة، والأسر بلا طهو، والمواصلات مشلولة، وحياة مليوني إنسان محاصرة على المحك.

الحارس الأخير المحترق

على عكس يحيى، فقدت عائلة “أم حمادة” كل ما تملك من أثاث وذكريات. تسترجع السيدة الأربعينية كل ما حدث لهم بصوتٍ يختلط فيه التعب بالخذلان “الحرب خلصت وخلصت علينا”. تؤلمها فكرة أنها ستعود إلى لا شيء، فكان آخر ما تبقّى من بيتها في قيزان النجار بابًا خشبيًا، عثر عليه زوجها وأبناؤها متناثرًا بين الركام بعد القصف “جابوه متقطّع من القصف، ولعناه”، تحكي لـ فكّر تاني، وهي تستعيد المشهد. فلم تتخيّل يومًا أن تُجبَر على حرقه بيديها لتطهو به طعامًا لأطفالها؛ الباب الذي كان يحرس دفء البيت وخصوصيته، صار رمادًا.

منذ نزحت عائلة أم حمادة من قرية قيزان النجار، مرورًا بمنزل جدّها القديم، وصولًا إلى المواصي بخان يونس المكتظة بعشرات الآلاف من العائلات النازحة، لم تجد الأسرة بديلًا سوى شراء الحطب من التجار لاستخدامه وقودًا للطهي “أثاث البيوت اللي هدمه الاحتلال بيروحوا التجار يجيبوه ويبيعوه”، مستغلين انقطاع الغاز وشدة حاجة الاُسر.

تستعيد قسوة المشهد، حين وقفت لتشعل آخر ما تبقى من بيتها تحت قدر الطعام، تقول بحرقة “حسيت قلبي متولع معاه”، لكنها فعلت ذلك لتخفف عبء شراء الحطب الذي تجاوز سعر الكيلو 8 شواكل.

كان الباب يمثّل يومًا حارسًا على بيتها، حافظًا لخصوصية عائلتها “كنّا نسكّر الباب علينا، محدش يعرف عنا حاجة”، لكن في المخيم لا يفصلهم عن العائلات الملاصقة سوى خيامِِ من “ورق شادر ونايلون”، لا تمنح سترًا ولا أمانًا، تقول لـ فكّر تاني: “كل الشارع كان بيسمعني وأنا بحكي مع ولادي”.

تفتقد مطبخها كقطعة عزيزة من أثاث بيتها، فكانت تحفظ داخله أدوات الطهي، وتخزّن فيه الدقيق والسمن والسكر، المواد التي اعتمدت عليها في إعداد أصناف مشروع الحلوى الذي بدأته قبل الحرب.

كانت أم حمادة موهوبة في صنع الحلوى، تُبدع في تحضير الكعك والمعمول والبسكويت، حتى ذاع صيتها في القرية، وصارت النساء من جيرانها يطلبن منها في المناسبات. ومع ازدياد الإقبال، كانت تحرص على ملء مطبخها بالمزيد من المواد.

أما باب شُرفتها المطلة على الشارع، كان نافذتها الصغيرة على الحياة، كلما فتحته، تسلل إليها هواء نقي ينعش صدرها، وترى من هناك الحياة في مشهد أوسع، المارة يعبرون أسفل البيت، وأولادها يركضون خلف بعضهم في باحة الشارع، تقف لتلتقط الصور لهم للذكرى، كان بالنسبة لها “المنفس الوحيد لبيتها”.

وقت النزوح، لم تتمكّن العائلة من نقل قطع الأثاث “قالولنا قدامنا 3 أيام نخلي البيت”، تروي أم حمادة، فكانت تكلفة استئجار سيارة تفوق قدرتهم. بالكاد جمعوا ثيابهم وبعض الأغطية، ومعها أدوات المطبخ التي تناثرت داخل خيمة النزوح، بلا رفوف أو خزائن تحفظها كما في السابق.

قبل النزوح، تتذكر أم حمادة كيف كان السرير ملاذها الوحيد بعد يومٍ طويل من المشقة، وأكثر قطعةٍ تمنّت لو تأخذها معها. تقول “السرير كان هو الراحة تبعي”، تلك الراحة التي سُلبت منها بعدما أرهقها النزوح وأجبرها على عملٍ لا ينتهي “القعدة قدام النار بتهد الجسم”.

تتذكّر أم حمادة صباحاتها القديمة، حين كانت تستيقظ باكرًا لتنظّف منزلها، وتعيد ترتيب الغرف، وتُعدّ الفطور لأبنائها. كانت الغسالة تتولّى عنها عناء غسل الثياب، والمنظّفات متوفّرة في المحال، تخرج لشراء حاجات البيت من السوق، ثم تعود لتعدّ الغداء وتستريح قليلًا فوق سريرها. لكن اليوم فقدت منزلها كاملًا تعود إلى حيث لا أثاث ولا بيت.

وفي العودة، تستعيد بنات أم حمادة وبنات أعمامهن، تفاصيل بيوتهن القديمة. يتحدثن عن طاولة المذاكرة التي كانت تجمعهن، وعن الخزائن الجديدة التي اشتراها والدهن قبل الحرب ليحفظن فيها ثيابهن وأغراضهن الخاصة. تحكي كل واحدة منهن عن الأرفف والطاولات والأشياء الصغيرة التي حملت ملامح طفولتهن، لكن لا يتبقى لهن اليوم سوى ذكريات معلقة بعدما بدّدت الحرب كل أثرٍ للحياة التي عرفنها.

وفي مشهدٍ يقطر وجعًا، تستعيد أم حمادة المفارقة القاسية بين ماضيها وحاضرها؛ رائحة بيتها القديم التي كانت تتسلل من أكلات المفتولة والمقلوبة الفلسطينية، تعبق في الأرجاء وتفيض دفئًا من باب البيت إلى العمارة كلها. أمّا اليوم، فلم يبق من تلك الرائحة سوى ركام، مشبعًا برائحة البارود والدخان، التي غزت كل بيتٍ في القطاع مع كل قصفٍ جديد.

ورغم قلة الأثاث في بيتها، كانت كل قطعة تحمل جزءًا من عمرها، تحفظ في ملامحها تفاصيل عشرين عامًا من الزواج. لم يجرؤ أحدًا على تكسير أي قطعة، كانت تعتني بها كما لو كانت جزءًا من روحها “كنت ما أحب أستهتر بأي شيء، أحب دائمًا أنظف وأرتب كل شيء أولًا بأول”.

سنوات تحت الركام

أما إياد صالح البالغ من العمر 36 عامًا، لم يتمكن من الحفاظ على أثاث بيته كله. كان يصارع يوميًا بين خيارين قاسيين، إما أن يُضحي بالأثاث الذي اشتراه من راتبه وظل يدّخره طيلة 6 سنوات من العمل، وأجّل من أجله شراء الأجهزة الكهربائية لبعد زواجه، أو أن يترك أبناءه يجوعون. في النهاية، اضطر أن يكسّر أثاث منزله قطعةً تلو أخرى، يشعل به النار ليقي أبناءه من الجوع، بينما كان يرى بيته يتفكّك أمام عينيه قبل أن يرحل عنه بالنزوح.

الآن لم يتبق من أثاثه شيئًا ليعود به إلى الشيخ رضوان، أمام قسوة حاجته لإطعام طفليه قطّع “طقم النوم، والتخوت، والكنب، ما ضلّ اشي إلا واستخدمناه حطب للطهي”، يحكي لـ فكّر تاني، كيف دفعهم الاحتلال للعيش في حياة بدائية قاسية: “رجعنا 100 سنة لورا، ما ضل اشي إلا واستخدمناه للنار”.

نزح إياد وأسرته مرات عدة داخل غزة؛ من حي الشيخ رضوان إلى خان يونس، ثم اضطروا لاحقًا إلى النزوح مجددًا نحو دير البلح، في بداية سبتمبر، حيث أقاموا هناك قبل العودة، يتذكر تلك اللحظة القاسية قبل نزوحه الثاني، حين وقف في غرفة نومه يفّك خزانتها بيديه ليحرق خشبها، يقول بحرقة “هان الخزانة فكيتها للحرق”.

حين عاد إياد صالح إلى حي الشيخ رضوان بعد القصف، بدا الحيّ كأنه لم يكن يومًا حيًا؛ كل شيء تبدد في لمح البصر.

يتذكر نزوحه الأول إلى خان يونس، يوم كان منزله ما يزال قائمًا، وكل شيء في مكانه، لكنهم اضطروا للرحيل. كان أطفاله يقفون أمام البيت، بأجسادهم الصغيرة التي ترتجف وعيونهم المعلقة من بعيد على غرفتهم التي تركوها خلفهم، “كانت إلهم غرفة خاصة فيها ألعاب وذكريات”، لكن قلبه كان مثقلًا بما يفوق طاقته؛ فلم يستطع أن يحمل لهم شيئًا يُطمئن قلوبهم، وهو يقودهم نحو المجهول.

لكن حين عاد أثناء الهدنة، كان المشهد مختلفًا تمامًا؛ لم يجد بيتًا، فقط ركامًا صامتًا. وقف بين الأنقاض، يبحث بيدين مرتجفتين، يقول “حاولت آخذ شغلات بتخص الولاد من تحت الركام، وما لقينا غير شوية خشب طلعناهم للنار”.

يفتقد إياد فرن الغاز الذي كان يملأ البيت بروائح الأكلات الشهية، ودفء اللحظات التي التصقت بجدران المطبخ كأنها ذاكرة لا تُمحى. لكن بعد انقطاع الغاز، لم يبقَ أمامه سوى أن يحرق كل ما تطاله يده: “الترابيزات البلاستيك، والملابس، ما ضل عنا ملابس، وحتى الورق”، يقول بأسى، كمن يحرق تفاصيل حياته ليُبقي النار مشتعلة.

ذاكرة مسلوبة

لم تكن العودة إلى شمال غزة يسيرة على نفس تغريد نبهان وزوجها. تستعيد بألم تلك اللحظات التي اضطرا فيها إلى حرق بعض من أثاثهما قبل النزوح، بعد انقطاع الوقود وانعدام سبل الطهي، تقول لـ فكّر تاني: “كأني بحرق قلبي، مفصلاه قطعة قطعة”. لكنهما لم يستسلما لفقدان كل شيء، بعد قصف منزلهما، عاد زوجها إلى البيت المهدّم محاولًا انتشال ما تبقى من أثاث مدفون تحت الركام.

 “كان زوجي ينبطح على الأرض يكسّر الركام ويسحب خشب الأثاث”، وبينما كان الظلام يخيّم على المنطقة بعد انقطاع الكهرباء، لم يجد سوى ضوء كشاف هاتفه ليرشده، لكن العتمة كانت أخطر من أن تؤمّن خطواته، فسقطت عليه حجارة من بين الأنقاض، وأصيب بجروح متفرقة.

ورغم الألم، واصل جهده حتى جمع قطع الأثاث من تحت الركام، ووضعها في خيمة بجوار منزلهما المدمر، غير أن القصف المدفعي أجبرهما على النزوح مجددًا لبضع ساعات، وحين عاد ليطمئن على الخيمة، كانت الصدمة أشد من الاحتمال.. فقد سُرقت الأخشاب التي جمعها.

تقول تغريد بحرقة: “200 كيلو خشب، تعبنا نلمها من تحت الركام، كلها اتسرقت”. كانت تعرف جيدًا كل قطعة من أثاث بيتها، تحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب، تستطيع أن تميز مصدر كل قطعة خشب صارت وقودًا للنار، ومع كل لهب يتصاعد كانت تشير لزوجها: “عملنا منه رفوف، وطاولة، وشوارد، هذه من روسية التخت، وهذه من الدرج، وتلك من الخزانة”.

يستمر آلاف النازحين في العودة إلى شمال قطاع غزة، بعد أن هُجّروا منه قسرًا منذ اندلاع الحرب التي شنّتها إسرائيل في 7 أكتوبر 2023. يعودون إلى أوطانٍ سُلبت منهم قهرًا، بعدما فقدوا كل ما يملكونه، ونجوا من الموت بأجسادٍ مثقلة بالفقد وذكرياتٍ معلّقة بين الركام، آملين في نجاة أخرى لا تشبه الأولى، نجاة من العراء لا من القصف، علّهم يعيدون بناء ما تبقى من حياة سرقها النزوح وأحرقها الفقد.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة