مطرود م الزمن والمِلْك (حكايات الإيجار القديم)

“عايش بالسُكّر، باخد أنسولين، وبفرش قُدّام مستشفى أحمد ماهر بأكياس مناديل وعلب سجائر، واهي ماشية بالزق، ولما ييجي الليل بروح أنام أنا وواحد صاحبي جنب سور معهد الأورام”.

في ظل شجرة، إلى جوار معهد الأورام، يرقد “عم محمود”؛ رجل سبعيني، ينتفض من احتلال السخونة جسده الضعيف. طويل، هزيل، غطى الشيب رأسه ووجهه، ينحني دون إرادة، يتكئ على عكازه في حواري وميدان السيدة زينب، وقد لُفت قدمه بشاش ورباط ضاغط، يرسمان تفاصيل حالته الصحية، كأن الزمن كما الملك طارده فطرده.

المفارقة في حكاية “عم محمود” هي أن هذا الرجل، الذي يفترش الأرصفة ويتلقى وجبات أهل الخير، ليس بلا مأوى من الناحية القانونية. فهو يملك شقتين في محافظة الإسكندرية (شمالي البلاد)، لكنهما أسيرتا “قانون الإيجار القديم” الذي يجمد القيمة الإيجارية عند 11 جنيهًا فقط للشقة الواحدة.

إيجار يحصل عليه كل عدة أعوام، لا يكفي حتى ثمن مواصلات السفر من القاهرة إلى الإسكندرية لتحصيله. هكذا حاله، إذ يصفه بـ “المضحك المخجل”.

الجرح مش عايز يلم

لم تكن رحلة “عم محمود” مع المرض وليدة اللحظة. هي قصة إهمال فرضته ظروف الشارع القاسية، سببها عجزه المالي الذي آل إلى عجزه الحالي. “مرة وأنا راجع المكان اللي بنام فيه أنا وصاحبي، دخلت حتة إزاز في بطن رجلي اليمين، قرب صوابعي كده، وما أخدتش بالي”.

لم يشعر بألم جرحه في حينه لإصابته بمرض السكري، فلم ينتبه للجرح الصغير الذي تحول مع مرور الأيام والأسابيع إلى كارثة تُهدد قدمه كلها.

أكد رئيس مجلس النواب الدكتور حنفي جبالي أن القانون “ليس به أية شبهة عدم دستورية”، متعهدًا بأنه “لن يترك مواطنًا بلا مأوى”.

“بعد فترة ما بقتش عارف اتحرك من مكاني.. جسمي ما بقاش شايلني، والسخونية بتزيد، وحاسس النهاية كل شوية بتقرب أكتر”. وقتها، وبينما كان ملقى على الأرض ينتفض من الحمى، رآه “أهل خير” يوزعون الوجبات على أهالي المرضى إلى جوار سور المعهد. اكتشف “أبناء الحلال”، كما يصفهم “عم محمود”، الجرح في قدمه فنقلوه إلى شقة في محيط مسجد السيدة زينب وبدأوا رحلة علاجه.

كان الجرح قد وصل إلى مرحلة مروعة. “تعدى فكرة الصديد والقيح، وعششت فيه الديدان”؛ كما يقول.

بعد تنظيف أولي، نقلوه إلى معهد السكر، حيث قرر الأطباء ضرورة التدخل الجراحي العاجل. أُجريت له عملية بتر لأصابع قدمه اليمنى وما خلفها، ولم يتبق له سوى “ثلثي كف القدم”، ليكمل بعدها رحلة علاج طويلة أرقدته في السرير لعدة أشهر.

يا طوق نجاة طوّل الغيبة

هذه المعاناة الجسدية، التي حولت حياة “عم محمود” إلى جحيم، هي ما دفعته للتعلق بخيط أمل رفيع جاء في صورة تعديلات قانون الإيجار القديم الأخيرة، التي اعتبرها، بحسب قوله، “نجدة للملاك من المستأجرين وطوق نجاة طالت غيبته”.

يقول إنه بمجرد أن سمع عنها، قرر السفر إلى الإسكندرية ليتفاوض مع المستأجرين بشأن ما أقره القانون الجديد، سواء بزيادة القيمة الإيجارية أو شراء الشقق، لـ”يخلص الموضوع على خير للجميع”.

تعديل قانون الايجار القديم يثير غضبا مجتمعيا وفق المعارضة المصرية - فيس بوك
تعديل قانون الايجار القديم يثير غضبا مجتمعيا وفق المعارضة المصرية – فيس بوك

هذا الأمل يستند إلى تعديلات جذرية. فالقانون الجديد ينص على فترة انتقالية تمتد لـ 7 سنوات للوحدات السكنية و5 سنوات للمحال، تبدأ بعدها مرحلة جديدة. خلال هذه الفترة، تُرفع القيمة الإيجارية الحالية بمعدل 20 ضعفًا في المناطق المتميزة، و10 أضعاف للمناطق المتوسطة، و5 أضعاف للمحال، مع وضع حد أدنى للإيجار الشهري يتراوح بين 250 و1000 جنيه، حسب تصنيف كل وحدة.

ولضمان حقوق المستأجرين، يقدم القانون خيارين أساسيين للتعويض: الأول هو الحصول على شقة بديلة مشطبة وجاهزة للسكن فور إخلاء الوحدة السابقة دون أي تكاليف، والثاني هو الحصول على تعويض نقدي بقيمة 5000 جنيه عن كل متر مربع من مساحة الشقة.

بحلم يا توكتوك

وسط ركام ألمه والذكريات، لا تزال الأحلام تعرف طريقًا إلى “عم محمود”. “هبيع الشقتين للمستأجرين، وارجع السيدة.. هشتري توكتوك، وأشوف حد أمين أشغله عليه”.

طموح لا يتعدى تأمين الحد الأدنى من الكرامة في أيامه الأخيرة. “معاشي مع إيجار التوكتوك يستروني في آخر أيامي.. ده دخل معقول يخليني أقدر أخد حاجة صغيرة إيجار جنب السيدة، منا أصلي ماليش غيرها”.

حلم بسيط لرجل يستعد للنهاية، لكنه يمر عبر أروقة السياسة والتشريع، حيث لا يزال القانون الذي يعلق عليه آماله موضع جدل كبير. ففي يوليو الماضي، أصدر نواب المعارضة بيانًا عبروا فيه عن رفضهم للتعديلات، معلنين انسحابهم من جلسة مناقشته بمجلس النواب.

دافعت الحكومة عن قانون الايجار القديم في جلسات مجلس النواب بينما تمريره خلف أزمة كبيرة - مواقع التواصل الاجتماعي
دافعت الحكومة عن قانون الايجار القديم في جلسات مجلس النواب بينما تمريره خلف أزمة كبيرة – مواقع التواصل الاجتماعي

وقد جاء في بيان المعارضين حينها: “انطلاقًا من مسؤوليتنا الوطنية والدستورية، بذلنا كل جهد مخلص وأمين، حفاظًا على استقرار الوطن وسلامة الجبهة الداخلية، وتقديم منتج تشريعي يحافظ على حقوق الملاك والمستأجرين بشكل متوازن”.

بينما على الجانب الآخر، وفي جلسة وُصفت بـ”التاريخية” عُقدت في يونيو، أكد رئيس مجلس النواب الدكتور حنفي جبالي أن القانون “ليس به أية شبهة عدم دستورية”، متعهدًا بأنه “لن يترك مواطنًا بلا مأوى”. لكن الجلسة ذاتها شهدت تعهدًا من الحكومة لرئيس المجلس بإرسال بيانات دقيقة عن أعداد المستأجرين الأصليين وأعمارهم، “وهو ما لم يحدث حتى صدور القانون وإقراره من رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، في أغسطس الجاري”.

مجرب الحوجة لا يعرف قسى

رغم مرارة واقعه، لا يتعامل “عم محمود” بمنطق المنتقم. قرر ألا يذهب إلى الإسكندرية طارقًا أبواب تنفيذ الطرد، سيتبع منطق التفاوض الذي علمه الشارع إياه. “هروح لهم وأُخيّرهم بين إنهم يشتروا الشقتين تمليك أو يزودوا الإيجار.. أنا شايف إن الأفضل نتفق، أحسن من تنفيذ القانون.. مش هاجي عليهم.. منا مجرب الحوجة وعارف”.

جدل مجتمعي واسع حول قانون الايجار القديم
جدل مجتمعي واسع حول قانون الايجار القديم

تعاطفه ينبع من تجربة قاسية حُفرت في جسده وروحه. يرفض “عم محمود” أن يذيق غيره من الكأس التي شرب منها حتى الثمالة. “أنا مش عايز أطرد حد في الشارع، عشان أنا قاسيت ولسه الشارع بيبهدلني”. لكن هذه الرغبة في عدم تشريد الآخرين تصطدم بواقعه، وهي مفارقة يلخصها بكلمات موجعة تختزل أزمة آلاف الملاك والمستأجرين في مصر: “أنا مش عايز أطرد حد من بيتي، اللي هو بيته برضه، بس أنا مطرود في الشارع من سنين.. حد يقولي أعمل ايه”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة