من "تمثيل النساء" إلى "تمثيل كل النساء"

لا يمكنني إنكار أن وصول النساء إلى البرلمان المصري بهذا التمثيل النسبي هو أحد أهم المكاسب التي تحققت للمرأة خلال السنوات الأخيرة. بعد عقود طويلة من التهميش والخذلان والصوت المكتوم، صار للنساء موطئ قدم واضح في قاعات التشريع وصناعة القرار.

وكل مقعد تجلس عليه امرأة في البرلمان هو انتصار مستحق، لا منحة، لا زينة، بل ثمرة نضال طويل خاضته نساء من الظل وفي الضوء، نساء قاومن الصمت والخذلان، وصمّمن أن يكنّ شريكات في صنع مصر.

عدد من نائبات مجلس النواب 2020 يتوسطهن رئيس المجلس المستشار حنفي جبالي
عدد من نائبات مجلس النواب 2020 يتوسطهن رئيس المجلس المستشار حنفي جبالي

تمثيل كل النساء

لكنني، كامرأة مصرية، أجد نفسي اليوم – وبعد أن تحقق هذا الحضور العددي المشرف – أتوقّف قليلًا، لا لأقلل من الإنجاز، بل لأتساءل بحبٍّ وشغف ومسؤولية: هل تمثيل النساء في البرلمان يُعبّر حقًا عن كل النساء؟ هل يُعبّر حقًا عن اختلافنا، عن ثقل تجاربنا، عن ألوان حياتنا المتداخلة؟ هل يروي حكاياتنا المتعددة، أم يكتفي بسرد حكايات مكرّرة بصيغ مختلفة؟

نعم، لقد كسرنا حاجز الغياب، لكن بقيت أمامنا فجوة التنوّع، وقد حان الوقت أن ننتقل من الاحتفاء بالأرقام إلى التمعّن في الوجوه، ومن الفخر بالكمّ، إلى التركيز على الكيف، والاهم من المطالبة بوجود النساء، إلى مساءلة هذا الوجود: من هنّ؟ وعن من يتحدثن؟ فالبرلمان، كمرآة للوطن، لا ينبغي أن يعكس الطبقة الأعلى صوتًا فقط، بل الطبقة الأعمق أثرًا أيضًا.

في وقت يراعي تمثيل العمال والفلاحين تمثيلا مناسبا، لا نجد عاملات أو فلاحات، لنتساءل: أين الفلاحة التي تعرف طريق الأرض أكثر من طريق الميكروفون، وتربط رأسها بمنديل مبلل وتُمسك المعول، وتشكو الغياب عن المستشفيات والمياه النظيفة؟

أين تلك التي تتنقل بين الجمعيات الزراعية والمجالس المحلية بحثًا عن قرض أو رخصة، وتفهم الاقتصاد أكثر مما يتخيل الخبير؟

أين العاملة التي ترتدي الرداء الأزرق وتحمل الحياة على أكتافها، تنهض قبل الفجر، تركب الميكروباص بملامح متعبة، تعمل ثماني ساعات أو أكثر في مصنع لا يسمع صوتها، ويخصم من أجرها إن غابت لرعاية طفل مريض.

أليست هذه سيدة تستحق أن تمثَّل؟ أليست السياسة هي التي تنظم أجرها وتأمينها ومعاشها؟

أين المعيلة التي أصبحت وحدها الوطن لعائلتها، تحارب على جبهات الحياة كلها، تُطعم وتُعلّم وتُعالج وتصمد. تُدين نفسها بالديون الصغيرة كل أول شهر.

هل من صوتٍ داخل القبة يعبّر عنها؟ من يطالب بتعديل قوانين الحضانة، أو إجازات الأمومة، أو قروض الإنتاج الصغير؟

أريد أن ننتقل من مرحلة فتح الباب، إلى مرحلة إصلاح الطريق. من وجود النساء، إلى تمثيل النساء. ومن تمثيل النساء... إلى تمثيل كل النساء.

غياب مؤلم

ولعل من أسباب هذا الغياب المؤلم أن هذه الفئات لم تُتح لها فرصة التواجد والمشاركة في المجال العام لفترة طويلة، تحديدًا في ظل غياب المجالس المحلية، التي كانت – وإن بشكل جزئي – نافذتهن الأولى نحو التعبير عن قضاياهن اليومية وتكوين قيادات قاعدية قادرة على الصعود للمستويات الأعلى.

ومع تجميد المحليات، خفتت أصوات النساء الفاعلات في القرى والمناطق المهمشة، وتوقّفت مسارات التدرّج السياسي والاجتماعي التي كانت تتيح تمثيلًا نابعًا من القرب الحقيقي من الناس.

لذا، فإن مسؤولية البرلمان اليوم لا تتوقف عند عدّ المقاعد، بل تتطلّب إما إتاحة تمثيل مباشر لتلك الفئات، أو على الأقل ضمان تمثيل حقيقي يُدرج قضاياهن في قلب الأجندة التشريعية والرقابية، ويضع احتياجاتهن وهمومهن على رأس أولويات العمل البرلماني.

الحضور الرمزي، مهما كان كبيرًا، لا يُغني عن الحضور الجوهري، فكم هو محبط أن تفرح النساء بزيادة عدد المقاعد، ثم يبحثن في الوجوه فلا يجدن من يُشبههن.

إنني لا انتقص مما تحقق، بل اتمسك به لاطالب بما بعده.

أريد أن ننتقل من مرحلة فتح الباب، إلى مرحلة إصلاح الطريق.

من وجود النساء، إلى تمثيل النساء.

ومن تمثيل النساء... إلى تمثيل كل النساء.

مرحلة جديدة

أريد برلمانًا يرى المرأة في كل مواقعها، في الحقل والمصنع، في الشارع والجامعة، في البيت والزقاق الشعبي.
برلمانًا يحتضن لهجتنا الصعيدية، وأحلام بناتنا في المناطق المهمشة، وصراعات أمهاتنا في دوائر الإعالة والخوف والكدّ.

ما تحقق حتى الآن مهم. بل هو حجر أساس لا غنى عنه.

انتخابات مجلس النواب 2015 - مواقع الكترونية
انتخابات مجلس النواب 2015 - مواقع الكترونية

ومنه أدعو إلى مرحلة جديدة من التمكين السياسي للنساء، عنوانها: العدالة في التمثيل، والتنوّع في الصوت، والجرأة في التغيير.

مرحلة لا تُقصي من لا تعرف اللغة الرسمية، ولا تُهمّش من لا تملك العلاقات، بل تفتح المجال الحقيقي لكل امرأة، أيًا كانت خلفيتها، أن تكون صانعة قرار، لا متفرّجة عليه.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة