هل تصلح سياسة "جز العشب" الصهيو-أمريكية مع إيران؟

في تطور مفصلي جديد دخلت منطقة الشرق الأوسط فجر الحرب الشاملة بيوم رابع من التصعيد غير المسبوق عسكريًا بين إسرائيل وإيران. فبعد أن شنت تل أبيب هجمات واسعة النطاق استهدفت منشآت نووية وعسكرية إيرانية حيوية، ردت طهران بهجمات مضادة طالت منشآت إسرائيلية حيوية واقتصادية، مسفرةً عن دمار لم تشهده المدن الإسرائيلية منذ تأسيسها على أنقاض الشعب الفلسطيني.

هذا التصعيد يطرح تساؤلات ملحة حول مستقبل المنطقة: هل نحن على أعتاب "حرب دائمة" قد تدخلها الولايات المتحدة التي بدأت في نقل قطعها العسكرية البحرية في اتجاه الشرق الأوسط؟ وهل يمكن لسياسة "جز العشب"، التي تعتمدها إسرائيل بدعم أمريكي، أن تحقق أهدافها الاستراتيجية في احتواء البرنامج النووي الإيراني، أم أنها ستُغرق المنطقة في دوامة من العنف والاضطراب بلا نهاية؟

هل النووي الإيراني في مرمى إيران فعلًا؟

في الساعات الأولى من يوم الجمعة 13 يونيو الجاري، نفذت القوات الجوية ووحدات الكوماندوز الإسرائيلية عملية عسكرية واسعة النطاق متعددة المحاور ضد أهداف إيرانية حساسة، شملت منشأة تخصيب "نطنز" النووية، بالإضافة إلى موقع إنتاج الصواريخ في "خرم آباد"، والمجمع العسكري في "بارشين"، ومقر قيادة الحرس الثوري الإيراني، وصولًا إلى مساكن قادة عسكريين وعلماء نوويين بارزين، الذين أعلن اغتيال أبرزهم في اليوم التالي.

تبرر إسرائيل هذه الضربة بأنها لغرض تدمير القدرات الإيرانية التي تُقربها من إنتاج السلاح النووي، متخطيةً المفاوضات التي تخوضها الولايات المتحدة مع الجمهورية الإسلامية في هذا الشأن. فهل هي قادرة فعلًا على ما وعدت به؟

ترفرف الأعلام الإيرانية بينما تتصاعد النيران والدخان من هجوم إسرائيلي على مستودع شاران للنفط، في أعقاب الضربات الإسرائيلية على إيران، في طهران، إيران، 15 يونيو 2025 (رويترز)
ترفرف الأعلام الإيرانية بينما تتصاعد النيران والدخان من هجوم إسرائيلي على مستودع شاران للنفط، في أعقاب الضربات الإسرائيلية على إيران، في طهران، إيران، 15 يونيو 2025 (رويترز)

مارك فيتزباتريك، الزميل المشارك في قسم الاستراتيجية والتكنولوجيا والحد من التسلح والمدير التنفيذي السابق للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في الأمريكتين، في تحليله المعنون بـ "أزمة إيران النووية تنتقل إلى المأساة"، الذي نشره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، يتطرق إلى هذا بالحديث عن مخزون إيران من اليورانيوم، فيقول إن مصير 604 كيلوجرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهي كمية كافية لإنتاج عشرة أسلحة نووية أو أكثر إذا ما تم تخصيبها إلى نسبة 90% اللازمة للتسليح، ليس معلومًا. بينما يرجح أن هذه الكمية، كونها قابلة للنقل، ربما كانت أول ما تم إخفاؤه بمجرد أن أصبحت خطط القصف الإسرائيلية واضحة.

مارك فيتزباتريك
مارك فيتزباتريك

ويُشير فيتزباتريك إلى أن توقيت الهجوم الإسرائيلي لم يكن عشوائيًا، بل نتيجة حسابات دقيقة. وقد جاء الهجوم على الرغم من طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من نتنياهو الامتناع عن اتخاذ أي إجراء عسكري أثناء سير المحادثات الأمريكية-الإيرانية، كما هو مُعلن على الأقل.

الجولة السادسة من هذه المحادثات، كانت مقررة أمس الأحد، وقد ألغيت لأن إيران ترى واشنطن متورطة في الهجوم عليها ووحدها قادرة على وقف الحرب، وهذا هو أول تأثير مباشر لهذه الضربة الإسرائيلية على المسار الدبلوماسي.

فما الذي دفع نتنياهو لهذه الخطوة رغم مخاطرها؟

يقول فيتزباتريك إن نتنياهو رأى أن "نافذة الفرصة" لشن مثل هذا الهجوم كانت على وشك الإغلاق، وهو يستند في قراره إلى نتائج الضربات الجوية التي نفذتها إسرائيل في أكتوبر الماضي، وأدت إلى تعطيل الدفاعات الجوية الإيرانية، وأجبرت طهران على استبدال الرادارات والمعدات المتضررة.

بالإضافة إلى ذلك، قد يكون نتنياهو قد استنتج أن الظروف العالمية كانت مواتية لإسرائيل.

من العوامل التي قد تكون عززت هذا الاعتقاد، تصريح ترامب في 11 يونيو الجاري، بأن المحادثات مع إيران كانت تقترب من طريق مسدود بسبب رفض طهران تلبية مطلب واشنطن بوقف تخصيب اليورانيوم على أراضيها. وعلاوة على ذلك، جاء قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 12 يونيو، الذي وجه لومًا لإيران بسبب عدم تعاونها مع الوكالة، ما قوبل بتعهد إيراني بالرد بتوسيع برنامجها للتخصيب، وقد خلقت كل هذه العوامل بيئة أعتقدت إسرائيل أنها مناسبة لشن عمليتها العسكرية الواسعة.

التداعيات الإقليمية وخطر الانجرار الأمريكي

ردًا على الهجمات الإسرائيلية، هددت إيران بشكل علني باستهداف الأصول الأمريكية في المنطقة، والتي قد تشمل قواعد عسكرية أمريكية كبرى في البحرين وقطر، إضافة إلى مواقع أصغر في مصر، والعراق، والأردن، والكويت، وعُمان، والسعودية، وسوريا، والإمارات العربية المتحدة، وكذلك السفن المتواجدة في مياه الخليج.

اقرأ أيضًا: الحرب الإسرائيلية الإيرانية.. خيارات الردع والمواجهة في أخطر أزمات الشرق الأوسط

كما يُمكن للحرس الثوري الإيراني ووحدات عسكرية واستخباراتية أخرى أن تشن هجمات ضد السفارات والشركات الأمريكية، وهذا يعكس حجم التهديد المحتمل، وفق فيتزباتريك، الذي يقول إنه رغم الرغبة المعلنة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتجنب تورط بلاده في صراعات الشرق الأوسط، قد تُجبر الولايات على الانجرار إلى المواجهة المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، خاصةً في حال وقوع هجمات إيرانية تستهدف مصالحها.

حاملة الطائرات يو إس إس نيميتز
حاملة الطائرات يو إس إس نيميتز

حركت الولايات المتحدة، اليوم الإثنين، حاملة الطائرات يو إس إس نيميتز إلى الشرق الأوسط، بعد ليلة دامية في إسرائيل، وهجوم بالصواريخ والمسيرات الإيرانية التي أحدثت ضررًا كبيرًا بالمدن الإسرائيلية، وأسقطت عشرات المصابين وقتلى.

في بداية الحرب على إيران، صرح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بأن الولايات المتحدة لم تكن متورطة في الهجوم الإسرائيلي. ومع ذلك، تبقى العلاقة بين واشنطن وتل أبيب معقدة؛ ففي 9 يونيو، طلب ترامب من نتنياهو التوقف عن الحديث عن هجوم على إيران، لكن ما إذا كان هذا الطلب قد وصل إلى حد حظر القيام بالهجوم نفسه يظل غير واضح.

وقد ادعى المسؤولون الإسرائيليون وجود "تنسيق كامل وشامل مع الأمريكيين"، وهو ما يضيف طبقة من الغموض حول مدى الموافقة أو التنسيق بين الجانبين، خاصةً مع تصريحات ترامب على "تروث سوشيال" بأن الضربات الإسرائيلية لإيران قد تجعل التفاوض أمرًا ممكنًا.

استراتيجية "جز العشب".. هل تصلح في الحالة الإيرانية؟

تُعد سياسة "جز العشب" مفهومًا محوريًا في فهم الاستراتيجية الصهيو أمريكية تجاه المنطقة وإيران. فخبراء الأمن الإسرائيليون يتوقعون أن القدرة النووية الإيرانية لا يمكن القضاء عليها بشكل كامل، بل يمكن فقط تأخيرها أو إبطاؤها طالما احتُفظ بالمعرفة النووية.

ولذلك، يتحدثون عن ضرورة تنفيذ عمليات عسكرية متكررة ومنتظمة، أشبه بـ "جز العشب" الذي ينمو باستمرار لمنع وصوله إلى مستويات خطرة.

أكبر شهيد أحمد
أكبر شهيد أحمد

يرى فيتزباتريك أن إسرائيل قد شرعت الآن في حملة "جز عشب" طويلة الأمد وغير محددة، وهو ما يعني عمليًا اختيار "الحرب الدائمة" كنهج استراتيجي، بدلًا من حلول دبلوماسية جذرية.

ولكن، هذه "الحرب الدائمة" تحمل في طياتها مخاطر جسيمة، ليس فقط لإيران وإسرائيل، بل للمنطقة بأسرها، وفق ما يشير إليه أكبر شهيد أحمد، مؤلف كتاب "إدارة بايدن وغزة"، وهو ينقل عن مسؤول أمريكي، على اتصال وثيق مع نظرائه في الشرق الأوسط، قوله بأن هناك "مخاوف حقيقية" من أن إسرائيل لن تسمح لأي دولة تعتبرها "كبيرة جدًا أو مؤثرة بالتطور أو التقدم". وهو ما يعني أن بعض دول الخليج نفسها "قد تكون في مرمى النيران بعد إيران"، ما يعكس قلقًا إقليميًا متزايدًا من تداعيات هذه السياسة.

فكرة "تغيير النظام".. ورقة محفوفة بالمخاطر

يروج مؤيدو الهجوم الإسرائيلي بقوة لفكرة تغيير النظام في طهران كأحد الأهداف المحتملة أو النتائج المرجوة من هذه العمليات العسكرية. وقد ربط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حملته العسكرية بفكرة ثورة شعبية من قبل الإيرانيين ضد قيادتهم، مشيرًا في فيديو باللغة الإنجليزية إلى أن النظام الإيراني "لم يكن أضعف من أي وقت مضى". وفي السياق ذاته، دعا خصمه السياسي نفتالي بينيت، الذي يُرجح أن يقود أي حكومة بديلة في إسرائيل إذا انهارت حكومة نتنياهو، الشعب الإيراني إلى "تحرير أنفسهم من حكامهم القساة" في منشور على منصة "إكس".

هذه التصريحات تعكس رؤية إسرائيلية بأن الضغط العسكري قد يؤدي إلى تحولات داخلية في إيران. ومع ذلك، يُنصح بأخذ هذه الرواية بحذر شديد، كما يشدد شهيد أحمد في تحليله؛ فالتاريخ أثبت مرارًا أن فكرة أن المجتمعات سترى المهاجمين الأجانب على أنهم محررون هي فكرة خاطئة، بل غالبًا ما يؤدي الهجوم الخارجي إلى "تأثير التجمع حول العلم"، حيث يلتف الشعب حول قيادته حتى لو كانت غير شعبية، في مواجهة التهديد الخارجي.

ويتوقع الخبراء أن يكون هذا التأثير قويًا بشكل خاص في إيران، حيث يمتلك الكثيرون حذرًا عميقًا من التدخل الأجنبي ويتأثرون بذاكرة حرب وحشية استمرت سنوات في الثمانينيات بعد غزو العراق، وهي حرب خلفت جروحًا عميقة في الوعي الجمعي الإيراني. وهذا ما يجعل سيناريو "تغيير النظام" عبر التدخل الخارجي محفوفًا بمخاطر جمة وقد يأتي بنتائج عكسية.

مظاهرة مؤيدة لخامنئي (أرشيفية - وكالات)
مظاهرة مؤيدة لخامنئي (أرشيفية - وكالات)

نحن نواجه تراكم إخطاء الإدارات الأمريكية

يُشير فيتزباتريك إلى أن هذا التصعيد الإسرائيلي الخطير كان يمكن تجنبه لو لم ينسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل الشاملة المشتركة) في عام 2018، وذلك عندما كانت إيران ملتزمة بالكامل ببنود الاتفاق. ويضيف فيتزباتريك أن الدبلوماسية الماهرة خلال ولاية ترامب الثانية كان بإمكانها أن تحول دون الكارثة المحتملة الحالية.

ومع ذلك، يرى أن إيجاد حل يتجاوز مطلب ترامب بأن تتخلى إيران عن التخصيب على أراضيها، وإصرار إيران على عدم القيام بذلك تحت أي ظرف، كان تحديًا هائلًا حتى لأكثر المفاوضين خبرة.

ومن جهته، يُلقي أكبر شهيد أحمد باللوم على إدارة بايدن في تمهيد الطريق للتصعيد الحالي، مستشهدًا بدعمها شبه المطلق لنتنياهو في حرب 7 أكتوبر 2023 على قطاع غزة. وينقل عن علي فايز، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، قوله إن "طموح إدارة بايدن لاتفاق أطول وأقوى مع إيران أدى إلى عدم وجود اتفاق على الإطلاق". وهذا يشير إلى أن محاولات واشنطن للضغط على إيران للحصول على تنازلات أكبر، بدلًا من العودة إلى الاتفاق الأصلي، قد أدت إلى طريق مسدود سمح بتصاعد التوتر.

ويرى مراقبون، أن الإدارة الأمريكية، من خلال دعمها "غير المحدود" لإسرائيل، خلقت "خطرًا أخلاقيًا هائلًا". هذا الخطر يتمثل في أن إسرائيل باتت تتخذ مخاطر أكبر في عملياتها العسكرية، بمعرفة أن جهة أخرى (الولايات المتحدة) ستتحمل العواقب أو ستقدم الدعم اللازم. وهذا الوضع، "خلق سابقة بأن هذا ما تفعله الولايات المتحدة"، مما يعني أن هذا النمط من الدعم غير المشروط قد يشجع على مزيد من الأعمال العسكرية دون مراعاة كافية للتداعيات.

وهذه الإخفاقات الدبلوماسية وتراكم الأخطاء في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة أدت إلى المشهد الحالي شديد التعقيد والخطورة، حيث تُصبح سياسة "جز العشب" الصهيو-أمريكية محكًا حقيقيًا لمستقبل الاستقرار في الشرق الأوسط.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة