الإجابة تتكشف في تحرّكات المنطقة اليومية، حيث يُعيد الخليج تشكيل المنطقة على صورته الخاصة.
تعمل دول الخليج العربي بنشاط على تشكيل منطقة الشرق الأوسط من خلال تحوّلات اقتصادية جوهرها نيوليبرالي قائم على الاستهلاك الشره، وتموضع جيوسياسي متزايد الحزم، واستخدام استراتيجي للقوة والشبكات المالية، فضلًا عن التأثير على سياسات القوى العالمية الكبرى مثل الولايات المتحدة، واستيعاب أو إعادة تكييف ديناميكيات قوى التغيير في المنطقة، حاملةً مبدأَي الحرية والعدالة الاجتماعية.
تعمل دول الخليج وسائر الدول في الإقليم على إخراج الأيديولوجيا من المشهد، حيث الواقعية هي التي يجب أن تسود.
وتستند هذه العملية إلى رؤية تتمحور حول التنويع الاقتصادي، والاستقرار الإقليمي من أجل الرخاء، وزيادة النفوذ على الساحة الدولية. وقد كشفت السنوات القليلة الماضية بالفعل عن صدور القوى الإقليمية المختلفة عن مصالحها الوطنية أولاً. وبرز من خلال هذه السياسة التنافس بين "الأشقاء". ووفق هذه التصورات؛ تمّت مراجعة العديد من السياسات التي استقرّت لسنوات.
يتميّز "الخليج الجديد" بدفعة حثيثة لتحويل اقتصاداته من الاعتماد على النفط إلى مصادر نموّ متنوّعة ترتكز على التكنولوجيا والابتكار. ويدعم ذلك استثمارات ضخمة، لا سيما من خلال صناديق الثروة السيادية، في قطاعات عالمية استراتيجية، وجهود لجذب الاستثمارات والخبرات الأجنبية، كلّ ذلك في سياق جيوسياسي معقّد يربط الشراكات الاقتصادية بالتحالفات الاستراتيجية والنفوذ الإقليمي.
تنافسات داخلية ترسم ملامح النفوذ الإقليمي
لكن، نظرة دول الخليج للإقليم ليست موحّدة؛ إذ تحكمها التنافسات. هناك تنافس ملحوظ بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ويتمحور هذا التنافس حول مسألة: أيّ دولة ستكون المركز السياسي والاقتصادي العربي الرئيسي في الشرق الأوسط. ترى السعودية أن نقطة البدء في بناء النظام الإقليمي هي التوافق حول سوريا، في حين ترى الإمارات، بحكم علاقات التطبيع مع إسرائيل والرغبة في استبعاد حماس، أن نقطة البداية هي غزة. تُظهر الخلافات حول غزة عمق هذا التنافس، فالإمارات لا تتوافق مع مصر حول "اليوم التالي"، ولم تكن متحمّسة لخطة الإعمار التي اقترحتها مصر، وأبدت هذه المعارضة لإدارة ترمب.
وتخلق هذه المنافسة توتّرات بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وقد تؤدّي إلى تعقيد نهجهما تجاه القضايا الإقليمية والجهات الفاعلة الخارجية، مثل تركيا. علاوة على ذلك، لدى المملكة العربية السعودية هدف طموح لتأكيد القيادة الإقليمية. إنّ هذا الطموح الأوسع يضعها بطبيعته في ديناميكية تنافسية مع دول أخرى قد تسعى هي الأخرى إلى الحصول على نفوذ إقليمي كبير.
وفي حين لم يتمّ وصفها صراحة بأنها منافسة مع المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة على نفس المنوال، فإنّ قطر تنظر إلى علاقاتها الدبلوماسية والأمنية والتجارية القوية مع الولايات المتحدة باعتبارها "بوليصة تأمين" ضد "الجيران الأقوياء"، وهو ما قد يشير إلى تصوّر محتمل للتنافس أو الضغط من جانب جهات إقليمية مهمّة أخرى، بما في ذلك نظيراتها في الخليج.
الخليج وإعادة تشكيل المنطقة على صورته
تتبنّى دول الخليج نهجًا متعدّد الجوانب يركّز على التنويع الاقتصادي، والاستثمار الاستراتيجي، والدبلوماسية الاستباقية، وإدارة العلاقات الرئيسية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. ويسعى هذا الجهد إلى بناء منطقة تتميّز بالاستقرار اللازم للنمو الاقتصادي، وزيادة الاستقلالية الإقليمية، والابتعاد عن ديناميكيات الصراع التقليدية. إنّ أفعالهم تؤثّر بشكل ملحوظ على سياسات القوى العالمية الكبرى، وتُسهم في توازن القوى الإقليمي.
1. دفع عجلة التحوّل الاقتصادي والتنويع:
يشهد الخليج تحوّلًا جذريًّا، بالابتعاد عن الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على الموارد الطبيعية نحو نماذج قائمة على التنوّع والمعرفة والابتكار. الهدف هو جعل القطاع الخاص المحرّك الأساسي للنمو. إنّ رؤية المملكة العربية السعودية 2030 هي مثال رئيسي على هذه الأجندة التنموية الطموحة، والتي تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط، ويشمل ذلك تعزيز التصنيع المتقدّم، والسياحة، والقطاعات غير النفطية الأخرى. وقد شهدنا نموًّا ملحوظًا في القطاعات غير النفطية، وزيادة في الصادرات غير النفطية. يُعدّ جذب الاستثمار الأجنبي عنصرًا بالغ الأهمية، مع بذل الجهود لجذب رأس المال والخبرة، وخاصّة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
وتتدفّق استثمارات كبيرة إلى داخل المنطقة وخارجها، حيث تستثمر صناديق الثروة السيادية الخليجية، مثل صندوق الاستثمارات العامة السعودي و"مبادلة" الإماراتية، بكثافة في شركات التكنولوجيا الأمريكية.
ويركّز نموذج دبي للتنمية، الذي يعتمد على التجارة والسياحة والتمويل، على الشراكة الاستراتيجية بين الدولة والقطاع الخاص في الاستثمار وتطوير البنية التحتية. يُنظر إلى هذا النموذج على أنّه يقدّم دروسًا للمدن التي تهدف إلى النمو الاقتصادي، ويُنظر إلى نجاح دبي على أنّه مدفوع ليس فقط بإجراءات الدولة، بل أيضًا بقدرتها على التكيّف مع الاحتياجات المتنوّعة، والتفاعل الديناميكي مع شبكات التجار والتجارة العالمية، مع الاستفادة من الأزمات المختلفة بكونها منصّة لغسيل الأموال وإخفاء ثروات أصحاب الأموال الضخمة.
2. تأكيد النفوذ الجيوسياسي والسعي إلى الاستقرار:
تنشط دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية وقطر، بشكل متزايد في الدبلوماسية الإقليمية والصراعات، سعيًا إلى تشكيل النتائج والحدّ من عدم الاستقرار لخلق بيئة مواتية لتحقيق الأهداف الاقتصادية.
تعطي دول الخليج الأولوية الآن للتوصل إلى اتفاقيات مع إيران لتجنّب الصراع الذي قد يعرّض بنيتها التحتية النفطية للخطر. ويمثل هذا تحولًا نحو المشاركة المباشرة بدلًا من الاعتماد فقط على الولايات المتحدة في إدارة الأمن. إن المملكة العربية السعودية، التي عارضت سابقًا الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، تشجع الآن المفاوضات الأمريكية مع إيران.
وضعت المملكة العربية السعودية نفسها كوسيط محتمل في الصراعات الإقليمية وحتى العالمية، حيث استضافت محادثات بشأن أوكرانيا، وعرضت تسهيل المفاوضات النووية المستقبلية بين الولايات المتحدة وإيران.
انخرطت دول الخليج بعمق في الصراعات في اليمن وليبيا والسودان والصومال، بغية التأثير في النتائج. وغالبًا ما كانت تدعم فصائل محددة أو تسعى إلى استراتيجيات "فرّق تسد" لتأمين المصالح الاستراتيجية. على سبيل المثال، استفادت الإمارات العربية المتحدة من شبكات الجهات الفاعلة غير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة لتأكيد نفوذها، وتحقيق مصالحها ومصالح حلفائها.
لعبت بعض دول الخليج دورًا في دعم الحكومات الجديدة؛ على سبيل المثال، أظهرت المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا "توافقًا فريدًا" في دعم الحكومة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، والضغط على الولايات المتحدة لرفع العقوبات. وكثيرًا ما يرتبط هذا الدعم بظروف مثل إزالة المقاتلين الأجانب والنفوذ الإيراني.
3. الاستفادة من القوة المالية والشراكات الاستراتيجية:
تستخدم دول الخليج مواردها المالية الضخمة لممارسة النفوذ وتأمين المزايا الاستراتيجية.
تشكل الاستثمارات واسعة النطاق في الاقتصاد الأمريكي، وخاصة في القطاعات الاستراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، جانبًا رئيسيًا من هذه الاستراتيجية. وترتبط هذه الاستثمارات بالوصول إلى التكنولوجيا المتطورة. إن حجم صفقات الرقائق المحتملة قد يمكّن شركات الخليج من بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع.
في أحيانٍ، يتم استخدام هذا النفوذ المالي للتأثير على السياسة الأمريكية، على سبيل المثال، من خلال ربط الصفقات التكنولوجية واسعة النطاق أو اتفاقيات التطبيع بضمانات أمنية أمريكية أو إجراءات محددة فيما يتعلق بإيران أو إسرائيل. وتشير التقارير إلى أنه خلال زيارة ترمب، تم إعطاء الأولوية للصفقات الاقتصادية والأمنية، والتي طغت في بعض الأحيان على اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية.
تسعى دول الخليج إلى موازنة القوى العالمية من خلال اتباع استراتيجية إدارة شراكات قوية مع كلٍّ من الولايات المتحدة والصين. وفي حين تظلّ الولايات المتحدة ضامنًا أمنيًا رئيسيًا، فإن العلاقات الاقتصادية مع الصين تكتسب أهمية متزايدة لخطط التنمية مثل رؤية 2030، مما يخلق توازنًا.
4. إعادة تعريف العلاقات مع الجهات الفاعلة الرئيسية:
تعمل دول الخليج بشكل نشط على إعادة معايرة علاقاتها مع الحلفاء والمنافسين التقليديين، مما يساهم في خلق مشهد إقليمي متقلب.
فالعلاقات المتطورة مع الولايات المتحدة تمثل مرتكزًا أساسيًّا في هذا التصور. ففي حين تستضيف قطر أصولًا عسكرية أمريكية حيوية مثل قاعدة العديد الجوية في قطر، تؤكد دول الخليج على استقلالها بشكل أكبر، وتتعامل بشكل مباشر مع الخصوم، وتنوع شراكاتها خارج الولايات المتحدة. يُنظر إلى النهج المعتمد على الصفقات الذي يتبعه ترمب على أنه يُمكّن دول الخليج من إعطاء الأولوية لمصالحها الاقتصادية والأمنية.
في المقابل، هناك ديناميكيات معقدة مع إسرائيل. ففي حين أن التطبيع المحتمل مع إسرائيل مطروح على الطاولة، وخاصة بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فإنه غالبًا ما يرتبط بتنازلات كبيرة، بما في ذلك الضمانات الأمنية الأمريكية والتقدم نحو إقامة دولة فلسطينية.
لقد أدت الإبادة الجماعية المستمرة في غزة إلى تعقيد وإبطاء جهود التطبيع. بدت إسرائيل مهمشة إلى حدٍّ ما خلال زيارة ترمب مقارنة بالزيارات الرئاسية الأمريكية السابقة.
5. إدارة التغيير الاجتماعي الداخلي:
إلى جانب التحول الاقتصادي، شهدت دول مثل المملكة العربية السعودية تغيرات اجتماعية كبيرة، وخاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة والحياة العامة. يتم تقديم هذه التغييرات على أنها تمنح الحكومة الوقت وحسن النية لمواصلة الإصلاحات الاقتصادية. ومع ذلك، ففي الوقت الذي تتوسع فيه "الحريات الشخصية"، فإن مناقشات الديمقراطية السياسية، أو مشاركة المواطنين، أو المساءلة السياسية غالبًا ما تكون غائبة عن هذا السرد.
وفق هذه الرؤية التي حاولت بيان بعض ملامحها في هذا المقال، تبرز عديد من الأسئلة: ما هي أبرز الأدوار الإقليمية التي تلعبها دول الخليج في الشرق الأوسط؟ وما هي التحديات التي تواجهها في بناء نظام إقليمي جديد فيه؟ وكيف يمكن للخليج أن يساهم في تشكيل النظام الإقليمي في المنطقة؟ وكيف تؤثر نظرية الأمن التي تسيطر على توجهات قادته في مجمل الدور والفاعلية؟
أسئلة تستحق أن أخصص لها مقالات قادمة.