ضمن سلسلة حوارات “كيف تدير القاهرة ملفاتها الإقليمية؟”، يستعرض خالد داوود، مدير تحرير الأهرام ويكلي والمحلل السياسي المتخصص في الشأن الأمريكي، رؤيته الاستراتيجية للتعامل مع التحديات الناجمة عن سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب.
يتناول داوود التحليل بدراسة المواقف الأمريكية التي تمس الخطوط المصرية الحمراء، لا سيما فيما يتعلق بقناة السويس، وملف التهجير القسري، وتداعيات العدوان على غزة ومستقبل المقاومة. ويصف الوضع الراهن بـ”الفوضى المدمرة”، مشيرًا إلى الحاجة لحوارات وطنية عربية لوضع استراتيجيات مبتكرة. ورغم رؤيته للطبيعة المؤقتة المحتملة لسياسات ترامب، فإنه يشدد على خطورة الوضع الحالي بالنسبة لمصر، مؤكدًا حتمية تعزيز الوحدة الداخلية كعامل استقرار أساسي.
استمع إلى بودكاست خاص حول الحوار

فإلى نص الحوار
ترامب وأسلوب الصدمة والرعب
في البداية، كيف تقرأ تحركات ترمب منذ قدومه إلى البيت الأبيض؟
ترامب يمتلك أجندة داخلية قوية جدًا تقوم على الثأر من الديمقراطيين، نتيجة الإجراءات التي اتُخذت بحقه خلال عهد جو بايدن.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فيتبنّى أسلوب “الصدمة والرعب”، حيث يطرح أفكارًا خارجة عن الحلول التقليدية، ما يؤدي إلى تعقيد الأزمات بدلًا من حلّها. وهو يميل في معظم الملفات الدولية إلى رفع سقف المطالب، ليكسب من وقع الصدمة مكاسب أكبر، حتى وإن اضطر لاحقًا إلى التراجع نحو السقف الذي كان يستهدفه أساسًا.
العالم اليوم يتعامل مع رجل يرى نفسه صانعًا للمعجزات، وهذه قناعة تُشكّل تحديًا كبيرًا. كما يؤمن بأنه الرئيس الأميركي الوحيد القادر على عقد الصفقات، استنادًا إلى خلفيته كرجل أعمال. وكلنا نذكر وعوده، قبل دخوله البيت الأبيض، بإنهاء الحرب في غزة وأوكرانيا، وحل الأزمات العالمية، باعتباره يمتلك الحلول والقرارات، بينما يرى أن العُقدة والفشل يكمنان في إدارة بايدن. ومع ذلك، مرت 100 يوم من عودته دون أن يتحقق ما وعد به.
الوضع المصري شديد الحساسية والخطورة في ظل التعامل مع إدارة مجنونة ومتهورة كإدارة الرئيس دونالد ترامب. نحن نبحر بسفينة تلاطمها الأمواج المضطربة
ترامب كتاجر لا رئيس
هل يحتاج التعامل معه إلى استراتيجيات وطنية جديدة من مختلف الدول؟
من المؤكد ذلك، فالاستراتيجيات التقليدية القديمة لم تعد فعالة في التعامل معه.
يجب أن نتعامل مع ترامب باعتباره شخصية تبحث عن الأضواء والإطراء، ويهوى الحديث عن قدراته الشخصية وعظمة الولايات المتحدة.

من الضروري مراعاة نفسيته ومزاجه عند التفاعل معه، إذ تؤكد تجربة المئة يوم الماضية أنه لا ينبغي دائمًا أخذ تصريحاته على محمل الجد، أو اعتبارها عروضًا نهائية.
لنأخذ مثالًا من الداخل الأميركي: في قضية التعريفات الجمركية، تحدث في يوم عن فرض تعريفات محددة، ثم جمّدها لمدة 90 يومًا، وفي يوم ثالث اتخذ قرارًا مختلفًا تمامًا.
برأيي، يجب أن يتعامل العالم معه كما يتعامل التجار: يبدأ بسقف عالٍ، ثم يقبل بالتفاوض والتسويات للوصول إلى ما يناسبه من نتائج.
ألا تتذكر ما حدث بمقترح التهجير؟ بدأ ترامب بطرح سقف مرتفع، يدعو إلى ترحيل كل الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن وغيرها، مع ضم القطاع وفرض إدارة عليه، ثم عاد وخفّض سقف الطرح لاحقًا.
لا يمكننا صياغة نظرية جديدة للأمن الإقليمي أو تشكيل تحالف يضم السعودية والإمارات وإيران وتركيا، لأن كل دولة تركز أساسًا على مصالحها الخاصة، مع وجود اختلافات كبيرة في المواقف والأولويات
ترامب وقناة السويس
نذهب إلى تصريحاته الأخيرة بشأن المرور المجاني من قناة السويس، كيف تراها وكيف تُقيّم تعامل القاهرة معها؟
من حقنا أن نغضب بشدة من هذا الخطاب المتعالي والعنصري الصادر عن ترامب. وأرى أن الاستراتيجية المصرية في الرد على مثل هذه التصريحات تقوم على الاستماع وتجنّب الانتقاد العلني، مع التعبير عن الموقف الرسمي عبر القنوات الدبلوماسية.

موقفنا الاستراتيجي، الممتد منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، يقوم على بناء علاقة استراتيجية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، وهي علاقة تجاوزت نصف قرن.
لكن فيما يخص هذه التصريحات تحديدًا، أعتقد أنها تأتي في إطار الخطاب الأميركي بشأن ضرورة أن تساهم أوروبا ومصر ماليًا مقابل الضربات الأميركية ضد الحوثيين وإعادة فتح الملاحة في البحر الأحمر.
هذا على الرغم من أن مصر والاتحاد الأوروبي لم يطلبا من الولايات المتحدة أي تدخل في ملف الحوثيين، خاصةً وأن القاهرة ترى أن الحل لا يكمن في استهدافهم عسكريًا، بل في وقف الحرب على غزة، وهو ما ثبت صحته خلال الهدنة، حيث التزم الحوثيون بها بالكامل.
ومن خلال تجربتي الشخصية في التعامل مع الملف الأميركي، يمكنني القول إن واشنطن تسعى دومًا للحصول على مقابل من مصر نظير أي دعم تقدمه.
خلال نقاشاتي مع مسؤولين وزملاء أميركيين حول هذه النقطة، كنت أركز على وزن مصر الإقليمي، وعلى أهمية دعم اتفاقية السلام واستقرار الدولة، لكن ردّهم كان دائمًا يتمحور حول أنهم دفعوا بالفعل، ويجب أن يحصلوا على ما يقابله.
هل تتذكر ردّ ترامب حين سُئل عن قبول مصر والأردن بملف التهجير؟ ردّ سريعًا بقوله: “نعم.. نحن نعطيهم أموالًا كثيرة”.
الاحتلال الإسرائيلي، من أبشع الاحتلالات في تاريخ البشرية، يجب مقاومته بكل أنواع المقاومة، بما فيها المقاومة المسلحة، و”الإسرائيليون” لا يفهمون إلا لغة القوة ولغة المقاومة والصمود
رسالة مصر بشأن التهجير
برأيك، هل وصلت رسالة مصر إلى ترامب بشأن رفض التهجير، أم أن دعمه للإبادة في غزة يستهدف دفع القاهرة نحو القبول بتلك الجريمة؟
أعتقد أن الرسالة المصرية وصلت بوضوح إلى الجانب الأميركي. ومن الواضح أن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان من المفترض أن يجري زيارة إلى واشنطن، لكن بعد التجربة المهينة التي تعرض لها العاهل الأردني، أعتقد أن القاهرة أعادت النظر وقررت تأجيل الزيارة.
موقف مصر لا يسمح بأي حال من الأحوال بتكرار ما جرى من إساءات مع القيادة الأردنية دون رد حاسم، وهو ما عبّر عنه الرئيس السيسي بوضوح عندما صرّح: “لن نشارك في ظلم الفلسطينيين”.

بل إن مصر ذهبت إلى ما هو أبعد من التصريحات، عبر إطلاق خطة مقابلة لمشروع التهجير، وهي خطة إعادة الإعمار في غزة، التي لاقت ترحيبًا عربيًا وأوروبيًا واسعًا.
الدولة الأمريكية العميقة
في هذا الإطار.. هناك خطاب نقدي لترامب ينطلق من خطورته على أمريكا وصورتها العالمية وقيمها، فهل تعتقد أن “الدولة العميقة الأمريكية” تتجاهل ذلك أم قد تتدخل في وقت ما؟
المسألة لا تتعلق فقط بصورة الولايات المتحدة، بل بمصالحها الاستراتيجية التي أصبحت مهددة بالفعل.
في موقفه من الصين، أعتقد أن نصائح قُدمت له من مستشاريه تدعوه إلى وقف التصعيد مع بكين، وقد حدث ذلك أيضًا خلال ولايته الأولى.

كما أرى أن الجهات المختصة داخل وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون)، ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، وجهاز الأمن القومي، تتحمل مسؤولية كبيرة في التدخل لتوضيح المخاطر.
الولايات المتحدة تمر بحالة انقسام حاد، وهناك خلاف جوهري بين اليمين واليسار، وهو ما ينعكس بوضوح على مجمل السياسات الأميركية، إذ إن صناعة القرار هناك تنبع من الداخل.
وليس نحن وحدنا من نشعر بالضرر. الأوروبيون أيضًا يعانون بشدة من سياساته، وحتى الكنديون عبّروا عن غضبهم من تصريحاته، التي وصلت به إلى اعتبار كندا الولاية الأميركية الـ51.
تخيل أن رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لا تستطيع حتى الآن الحصول على موعد لقاء مع ترامب، رغم محاولاتها المتكررة.
القاهرة بحاجة إلى تعزيز جبهتها الداخلية من خلال توسيع المجال العام، وفتح آفاق الحريات، ووقف تدهور الديمقراطية المستمر منذ 2011. يجب إجراء حوار حقيقي ومفتوح يتماشى مع القانون والدستور. أكبر مخاوفي على مصر هو التعامل مع الدستور كوثيقة رمزية بدلًا من كونه إطارًا ملزمًا
حجم الولايات المتحدة الأمريكية
في حواره مع فكر تاني، قال الأكاديمي البارز الدكتور إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة ومدير مركز دراسات الهجرة واللاجئين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إن “مصر أخطأت منذ السبعينيات حين ضخّمت حجم الولايات المتحدة خارجيًا”.. ما رأيك؟
أعتقد أنه ما كان يجب لمصر أن تضع كل أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة، لكن الواقع على الأرض يقول إننا أمام مشهد ممتد منذ أكثر من عام ونصف من حرب إبادة تُرتكب بحق الفلسطينيين في غزة، دون قدرة حقيقية للمؤسسات الدولية على وقف هذه الجرائم التي تُبثّ على الهواء مباشرة.

المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية تواجهان ضغوطًا غير مسبوقة وحملة شرسة من الولايات المتحدة، فقط لأن بعض الدول قررت اللجوء إليهما للتصدي للجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين.
عمليًا، أصبحت المصالح والرؤى الأمريكية هي المُهيمنة على القرار الدولي إلى حد كبير، وهنا تتجلى الأزمة الحقيقية في النظام العالمي.
وبالطبع، هناك دعوات متكررة لبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، يتيح مشاركة قوى كالصين وروسيا والهند، وهو أمر بالغ الأهمية رغم ما يحمله من تعقيدات جيوسياسية.
ينبغي صياغة رؤى جديدة، فلم يعد مقبولًا خطاب القذافي الوحدوي العربي-الإفريقي، ولم يعد الخطاب البعثي في سوريا والعراق قائمًا. علينا إعادة التفكير في أسس الدولة الوطنية بمراجعة أخطاء الماضي، مع إعطاء الأولوية لاحترام حقوق الإنسان
عرقلة حل الدولتين
في 4 مارس الماضي، قلتَ إن ما تم في قمة القاهرة لإعمار غزة هو خطوة حاسمة لتفعيل حل الدولتين. هل ترى أن هذا الحل تتم عرقلته في ظل استمرار الإبادة الصهيوأمريكية في غزة؟
أذهب إلى أبعد من ذلك، وأؤكد أن عرقلة حل الدولتين بدأت فعليًا منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ولم تُبذل جهود جادة لتفعيله من بعده.
الإدارة الأمريكية تتبنى منهجًا يُعرف بـ”المضي قدمًا” (Move on)، أي ترحيل الأزمات بدلًا من حلّها، خاصة عندما تتعقد الملفات سياسيًا أو ميدانيًا.
هذا النهج بات واضحًا في عدة قضايا، من الأزمة الأوكرانية إلى ما يجري في غزة، حيث يتم تأجيل الحلول الحقيقية واستبدالها بإدارة مؤقتة للأزمات، دون معالجة جذورها.

ولكن مصر حصلت على دعم مهم لخطتها من دول أوروبا والدول العربية الكبيرة كالسعودية والإمارات والكويت. وهذا هو المهم.
والسعودية التي يطلقون عليها أمريكيًا “الجائزة الكبرى”، واضحة جدًا، لا تطبيع مع إسرائيل إلا مع حل الدولتين.
ولكن للأسف نتينياهو استطاع إقناع الإدارة الأمريكية بترك غزة له، والتفكير في إعادة رسم المنطقة، والهدف من ذلك هو إيران بالطبع.
ليس أمام مصر حاليًا إلا عدم القبول بمشروع التهجير أو تصفية القضية الفلسطينية، مع السعي لإنهاء الحرب
أدوات مصر لوقف العدوان الصهيوني
برأيك.. ماذا تبقى في جعبة مصر لإنهاء العدوان المتصاعد على قطاع غزة؟
ليس أمام مصر حاليًا إلا عدم القبول بمشروع التهجير أو تصفية القضية الفلسطينية، مع السعي لإنهاء الحرب.
وإزاء هذا الموقف الثابت، فإن هناك دعم أوروبي عربي لاستقرار مصر، وقوتها في مواجهة المشروعات الأمريكية الإسرائيلية.
حماس وسلاح المقاومة
ما الذي قصدته بعبارة “على حماس أن تأخذ استراحة محارب” التي كتبتها مطلع أبريل، خاصة مع تزامنها مع دعوات لنزع سلاح المقاومة؟
كتبتُ تلك العبارة في سياق وقف إطلاق النار الذي كان مطروحًا آنذاك، حين عرضت حماس الجندي الأمريكي الإسرائيلي عيدان ألكسندر، إلى جانب جثامين أربعة آخرين، فيما كان وسيط المفاوضات ويتكوف يطرح خمسة أسرى أحياء وعددًا من الجثث.

في تلك اللحظة، كانت المجازر بحق المدنيين في غزة تتصاعد بوتيرة مأساوية وضاغطة، وكان الهدف من حديثي دعوة حماس إلى إبداء قدر من المرونة السياسية والإنسانية، بما يتيح استمرار الهدنة ووقف الكارثة الإنسانية.
ومع تطور المشهد، رأينا بالفعل هذا التوجه من الحركة، التي أعلنت استعدادها للدخول في هدنة تمتد لخمس سنوات، تشمل تبادلًا شاملًا للأسرى، ضمن اتفاق متكامل لإنهاء الحرب.
لكن من المهم التأكيد أن دعوات نزع سلاح المقاومة لا يمكن فصلها عن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعد من أكثر أشكال الاحتلالات فظاعة في التاريخ الحديث، ليس فقط بسبب العنف، بل بسبب محاولاته العلنية لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين. هذا احتلال استيطاني عنصري مدفوع بخلفية دينية متطرفة، ولا يمكن التعامل معه إلا بلغة المقاومة والصمود، كما فعلت شعوب كثيرة في وجه الاستعمار، ومنها المصريون والجزائريون.
الإسرائيليون لا يفهمون سوى لغة الردع. هذه حقيقة أثبتتها الانتفاضتان الفلسطينيتان، وهي التي تفرض اليوم بقاء المقاومة المسلحة كجزء أساسي من معادلة الصراع.
أمريكا في حالة انقسام حاد، هناك خلاف كبير بين اليمين واليسار، وهو ما يؤثر على السياسيات الأمريكية كافة، فالسياسة هناك تصنع من الداخل
مصر كشقيقة كبرى للعرب
هل مصر خسرت مكانتها كشقيقة كبرى للعرب كما يرى البعض في ظل النفوذ السعودي الإماراتي؟
الأمريكان يقولون “money talks”، أي المال يتحدث.
كل الدعاية التاريخية حول الزعامة والريادة، باتت غير واقعية، في ظل التطورات الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة.
هناك دول اختفت، انظر إلى السودان هي هل هذه دولة؟

انظر إلى سوريا وليبيا والعراق وغيابهم عن دعم المواقف العربية في القضية الفلسطينية مثلًا. الكل مشغول في ملفات أخرى.
السطوة المالية باتت صاحبة الصوت الأعلى في المنطقة، وهو ما عزز القيادة لصالح السعودية والإمارات، خاصةً أن مصر في وضع اقتصادي صعب للغاية، وكلنا نتذكر أثر صفقة رأس الحكمة الإماراتية، التي أنقذت الاقتصاد المصري في لحظة مهمة.
ورغم ذلك، القاهرة تنجح في خلق مواقف مستقلة، مع إداركها الواضح أن استمرار الحفاظ على علاقة جيدة مع الرياض ودبي هو أمر استراتيجي.
صعوبة إيجاد نظرية جديدة للأمن الأقليمي
كذلك في حواره مع فكر تاني دعا المفكر هشام جعفر، إلى حوار جاد بين مصر والإمارات والسعودية وإيران وتركيا لوضع نظرية جديدة للأمن الأقليمي تحدد الموقف من إسرائيل وأمريكا وأمن المنطقة الإنساني.. هل هذا ممكن؟
لا يبدو هذا ممكنًا في الوقت الراهن. رغم وجاهة الطرح الذي قدمه المفكر هشام جعفر، إلا أن الواقع السياسي يعكس مشهدًا معقدًا يصعب فيه تجاوز الحسابات الوطنية الضيقة لصالح رؤية أمنية شاملة.
خلال إقامتي في الولايات المتحدة، ترجمتُ كتاب “الأزمة” لهنري كسينجر، والذي استعرض فيه دوره في حرب أكتوبر 1973.
وقد أشار كسينجر إلى اجتماع ضم 6 وزراء عرب بارزين مع الرئيس الأمريكي نيكسون، ونصحه حينها بألا يقدّم لهم وعودًا جماعية، بل أن يتعامل معهم فرادى عبر سياسة “العصا والجزرة”. هذه الرواية توضح كيف أن القوى الكبرى تدرك جيدًا هشاشة العمل العربي المشترك أمام تعقيدات المصالح.

اليوم، لكل من الدول المعنية أولوياتها الوطنية ومصالحها الخاصة. التباين في الملفات الكبرى مثل السودان واليمن مثال صارخ على ذلك. فرغم العلاقات القوية التي تجمع مصر بالإمارات والسعودية، إلا أن الخلافات في المواقف الإقليمية واضحة، ومستمرة.
وبالتالي، فإن تشكيل نظرية أمنية موحدة يبدو بعيد المنال، خاصة في ظل غياب اتفاق على من يقود هذا المشروع، وكيف تُضبط مواقف الدول من إسرائيل وأمريكا ضمنه.
ورغم أهمية التوافقات المرحلية – مثل رفض التهجير القسري للفلسطينيين – إلا أن القفز نحو تحالف إقليمي ذي طابع استراتيجي موحّد يبدو نظريًا أكثر مما هو عملي في الظروف الحالية.
نعيش أيام فوضى مدمرة ولدي أسئلة تلاحقني.. وكل الدول العربية، تحتاج إلى حوار داخلي لتعرف أين تتجه الأمور في السنوات القادمة وكيفية التعامل معها
ورقة قوة لمصر
هل شكّل الموقف من القضايا الخارجية ورقة قوة لمصر؟
نعم، تاريخيًا مثّل الموقف المصري من القضايا الخارجية ركيزة استراتيجية عززت من مكانتها الإقليمية والدولية، وكانت في أحيان كثيرة ورقة قوة حاسمة للنظام السياسي.

من أبرز الأمثلة على ذلك، مشاركة مصر في حرب تحرير الكويت عام 1991، والتي شكلت نقطة تحول مهمة في علاقتها بالغرب، وأسفرت عن إعفاء نحو 50% من ديونها الخارجية بقرار من الدول الدائنة، وهو ما منح دفعة قوية للاقتصاد المصري آنذاك.
اليوم، تظل مصر لاعبًا محوريًا لا يمكن تجاوزه في الإقليم، فهي الدولة الأكبر من حيث عدد السكان، وتملك أحد أكثر الجيوش تماسُكًا في الشرق الأوسط. ورغم التغيرات في ميزان النفوذ الإقليمي وبروز أدوار جديدة، فإن الدور المصري يظل حاضرًا في الملفات الاستراتيجية، لا سيما القضية الفلسطينية، التي تحتفظ فيها مصر بخصوصية الجغرافيا والتاريخ والعلاقات المباشرة.
حتى مع تزايد النفوذ المالي لبعض الدول مثل قطر، لا يمكن تجاوز ثقل مصر السياسي والأمني في الملفات الحساسة، بما في ذلك الوساطة، وضبط الحدود، وإدارة علاقات الفصائل.
هناك ما يكفي من المشاكل الداخلية في إثيوبيا وهو ما يوفر للدبلوماسية المصرية فرصة إذا كان الإثيوبيين بحاجة إلى دور مصري دبلوماسي لحل مشاكلهم مقابل تفاهم واضح بالدور الذي يلعبه سد النهضة
تقييم الموقف الخارجي
ما تقييمك لمصر خارجيًا ومدرستها الدبلوماسية في العقد الأخير؟
أهم ما يميز أسلوب الإدارة الدبلوماسية للرئيس السيسي، حتى في أكثر المواقف حدة مثل الخلاف مع إثيوبيا، هو غياب الميل إلى التصعيد، والتركيز الدائم على البحث عن حلول دبلوماسية وتفاوضية.
ويظهر الفارق بوضوح عند المقارنة بأنظمة سابقة، كانت السمة الغالبة عليها التصعيد الخطابي، والبيانات النارية، والتجاوزات اللفظية.
سد النهضة الأثيوبي
بذكر إثيوبيا.. هل ترى أن أزمة ملف سد النهضة توارت في ظل ضغوط الملفات الإقليمية الأخرى؟
لا أعتقد أن مصر أهملت هذا الملف إطلاقًا.
التحركات المصرية في إفريقيا مستمرة ولا تتوقف، بهدف استعادة الدور المصري في القارة.

هناك تواصل دائم مع جيبوتي وإريتريا والصومال، والهدف الرئيس يتمحور حول إثيوبيا وضبط ما حدث بشأن سد النهضة.
العمل في ملف السودان لا ينفصل عن هذا السياق أيضًا.
تسير مصر في خطوط متوازية لمعالجة هذا الملف، كما أن التحديات الداخلية التي تواجهها أثيوبيا تتيح للدبلوماسية المصرية فرصة للتحرك، خاصة إذا كان الجانب الإثيوبي بحاجة إلى دور مصري للمساعدة في حل أزماته، مقابل تفاهم واضح بشأن الدور الذي يلعبه سد النهضة.
الموقف من جامعة الدول العربية
هل نحتاج إلى تأسيس جديد لجامعة الدول العربية؟
فيما يتعلق بجامعة الدول العربية، بل وحتى الأمم المتحدة، فهاتان المؤسستان تعكسان مواقف الدول الأعضاء وسياق كل مرحلة تاريخية، ولا ينبغي تحميلهما ما يفوق قدرتهما أو إلقاء اللوم عليهما دون النظر إلى أدوار الدول المؤثرة.
إذا استمرت الدول العربية الكبرى على موقفها الحالي تجاه الجامعة، فلن يكون لها أي دور فعّال، لأن المطلوب ببساطة هو ألا يكون لها دور من الأساس.

لا يوجد طائر حر مستقل له أجنحة يطير بها كما يشاء واسمه جامعة الدول العربية. هذه مؤسسة خاضعة للدول العربية الكبرى، وبها أكثر من 6 دول غائبة عن دورها، بسبب ظروف الداخلية، وبالتالي، فلا نستطيع التحدث عن المؤسسة.
نحن في حالة فوضى إقليمية ستستمر لعدة سنوات. فوضى مُدمرة ولدي أسئلة تلاحقني: متى تستقر ليبيا وتتوحد؟ ما مستقبل سوريا في التشابكات الراهنة؟ مستحيل أن نتباكى على ديكتاتور قتل شعبه، ولكن يجب أن ندرس الوضع الراهن ومستقبله.
مواجهة الفوضى
ألا يحتاج ذلك الوضع الخطير لتحالف عربي ما أو هيئة دولية جديدة توجه تلك الفوضى؟
نتمنى ذلك.
يكفينا عربيًا ما جناه علينا زمن “الجمود الأعظم”، حين سيطرت لعقود طويلة سياسات أمثال مبارك، والقذافي، وصدام حسين.
كل الدول العربية، على وجه التحديد، بحاجة إلى حوار داخلي عميق، لمعرفة الاتجاهات المستقبلية وكيفية التعامل مع التحديات القادمة.

على سبيل المثال، أشعر بقلق بالغ تجاه السودان، وأخشى من سيناريو تقسيم جديد. فهل سيصمت أبناؤه؟
نحن بحاجة إلى صيغ جديدة؛ فلم يعد مقبولًا الاستمرار في خطاب القذافي عن الوحدة العربية الأفريقية، ولا في الشعارات البعثية التي سادت في سوريا والعراق، والتي فقدت صلاحيتها.
علينا أن نعيد التفكير في الأسس التي تقوم عليها الدولة الوطنية. يجب أن نتعلم من أخطاء الماضي، ونمنح الأولوية لاحترام حقوق الإنسان، بوصفه أحد أركان أي نظام سياسي مستقر ومستقبلي.
تقوية الجبهة الداخلية
بشأن مصر تحديدًا، ألا تحتاج التحديات الخارجية إلى تقوية الجبهة الداخلية كما يطالب الكثير؟
بلا شك، تحتاج القاهرة إلى تعزيز جبهتها الداخلية.
لقد تجاوزنا مرحلة التخويف بالفزاعات المرتبطة بالظروف الاستثنائية، وحان الوقت لاحترام عراقة هذه الدولة ومكانتها التاريخية في المنطقة.
لا بد من توسيع المجال العام، وفتح باب الحريات، ووقف نزيف الديمقراطية المستمر منذ عام 2011. كما أن من الضروري فتح حوار وطني حقيقي، يستند إلى القانون والدستور، لأن أكثر ما يقلقني هو أن يُنظر إلى الدستور وكأنه مجرد وثيقة رمزية.

وأسمح لنفسي هنا، كمتحدث سابق باسم الحركة المدنية الديمقراطية، أن أؤكد أن مشاركتنا في الحوار الوطني انطلقت من هدفين رئيسيين: إطلاق سراح سجناء الرأي، وتعديل قوانين الانتخابات.
فلا يمكن للمصريين ممارسة السياسة أو التعبير عن آرائهم بحرية وسيف السجن مسلط على رقابهم. ومن دون عدالة ناجزة تحسم ملف المحبوسين، وقوانين انتخابية عادلة تتيح المنافسة والمشاركة، لن يكون هناك متنفس حقيقي يعكس إرادة الشعب.
عودة المصريين بالخارج
في هذا الإطار، طالب البعض بتفعيل مبادرة عودة المصريين في الخارج التي أطلقها السياسي البارز محمد أنور السادات، رئيس حزب الإصلاح والتنمية. ما تعليقك؟
كنت من أوائل الداعمين للأستاذ محمد أنور السادات في هذا المسار، ولا أزال على موقفي، وأثمّن مبادرته.
لقد رأيت عن قرب حجم معاناة المصريين في الخارج، الذين يشعرون بالخوف من العودة إلى بلادهم بسبب رأي أو تدوينة، رغم أن كثيرًا منهم لا يواجهون أي قضايا داخل مصر. هذا واقع مؤلم للغاية.

عقب إطلاق الحوار الوطني، تلقيت العديد من الاتصالات من زملاء يسألون سؤالًا واحدًا فقط: “هل يمكننا عبور مطار القاهرة دون توقيف؟”
إذا كانت هناك نية حقيقية للتهدئة والانفتاح، فأرى أن المدخل الأساسي هو ضمان عودة جميع المصريين في الخارج، ممن لا يواجهون اتهامات في قضايا عنف أو إرهاب أو تخريب. فتح هذا الباب من شأنه أن يبعث برسالة طمأنينة ويعزز الثقة بين الدولة وأبنائها في الخارج.
للأسف، تمكن نتنياهو من إقناع الإدارة الأمريكية بالتغاضي عن غزة، مع التركيز على إعادة تشكيل المنطقة، حيث يبدو أن الهدف الرئيسي هو استهداف إيران
أخطاء تاريخية
ولكن البعض يتحدث عن خصومة سياسية لقطاع من المصريين في الخارج مع النظام السياسي، مما قد يربك هذه المبادرة. هل قرار الأردن بحظر جماعة الإخوان يلقي بظلاله عليها ويعزز من تعقيداتها؟
الأردن يختلف عن مصر من حيث التركيبة الداخلية، وأيضًا بسبب الحرب القائمة في غزة.
لكن من وجهة نظري، أكبر مصيبة يرتكبها الإخوان المسلمون المصريون هي شخصنة الصراع السياسي مع النظام الحالي في مصر.
من الواضح أنهم يستهدفون شخص الرئيس عبد الفتاح السيسي فقط، وهذا خطأ تاريخي كبير يضاف إلى أخطائهم السابقة التي لم يعترفوا بها بعد، خصوصًا في الفترة ما بين 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013.
الاستمرار في تعاطي الإخوان مع الرئيس السيسي بشكل شخصي، مبني على الغل والمكايدة، يعد من أكبر الأخطاء السياسية. هذا التصرف لا يليق بأي مواقف سياسية عقلانية.
عندما خرجت من السجن، كان هناك الكثير من الأسئلة عن مدى تغييري لمواقفي من النظام السياسي. كنت أوضح أنه في سياق الحوار، يجب تجنب إطلاق كلمات وأفعال تؤدي إلى تعزيز القطيعة وتمنع التفاوض، فهذا جزء أساسي من العمل السياسي.
يجب على الإخوان أن يعترفوا بأن ما حدث في 30 يونيو 2013 كان ثورة حقيقية، وأن هناك حالة سخط واسعة من الطريقة التي كان يتم بها إدارة البلاد، والتي كانت تهدد مصر بحرب أهلية. إنكار الأخطاء لا يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة السياسية.
لقد مرت 12 سنة، وهذه فترة كافية لإعادة تقييم المواقف.
هناك فارق بين معارضتي للنظام وإدراكي للظروف الصعبة التي تمر بها مصر، والتي تتطلب إعداد بديل للنظام عبر الصناديق الانتخابية. يجب السماح بذلك.
يجب مراعاة نفسية ترامب وتقلبات مزاجه عند التعامل معه. تجربة الأيام المئة الأولى له تظهر أنه لا ينبغي أخذ تصريحاته دائمًا على محمل الجد، أو اعتبارها عروضًا فورية أو نهائية
مستقبل مصر الإقليمي
أخيرًا.. إلى أين تذهب مصر في ظل الأوضاع الإقليمية الراهنة وحقبة ترامب؟
الوضع المصري شديد الحساسية والخطورة في ظل التعامل مع إدارة مجنونة ومتهورة كإدارة الرئيس دونالد ترامب. نحن نبحر في سفينة تتلاطمها الأمواج المضطربة.

الميزة في الحقبة الترامبية أنها ليست دائمة، بحكم القوانين الأمريكية، فهي أربعة أعوام صعبة فقط.
يجب التركيز على حسن إدارة السفينة المصرية خلال هذه السنوات، والعمل على الحفاظ على تماسكها. هذا هو الإنجاز الأهم، بجانب التعلم من أخطاء الماضي، وفي مقدمتها إهدار حقوق الإنسان والحريات، وعدم ترتيب الأولويات في المشروعات الاقتصادية، والاستدانة الخارجية.
مهمة صعبة، لكن الاستفادة من دروس العقد الأخير قد تفيد البلد.