دعونا نُقرّ بحقيقة واضحة وضوح الشمس، وهي أن الانتخابات في مصر منذ مارس 54 لا تؤثر في شكل وطريقة الحكم، وأن السلطة التشريعية لا تستطيع مخاشنة السلطة التنفيذية ولا التأثير عليها، وأن الانتخابات النزيهة، التي يجب أن نفرق بينها وبين الانتخابات الحرة، تمرّ على البلاد كالمناسبات السعيدة في تاريخها، فهي شحيحة وقليلة.
أسباب إجراء الانتخابات
من هنا، يجب أن نتساءل: لماذا تُجري السلطة التنفيذية انتخابات البرلمان؟ ولماذا تخوضها المعارضة في مناسبات عدة؟
هناك عدة أسباب تختلف طبقًا لطبعات السلطة التنفيذية في مصر، منها:

ضرورة وجود مجلس نيابي وفق الدساتير المختلفة لإقرار القرارات والاتفاقات والمعاهدات والتشريعات، ولأننا دولة عريقة في البيروقراطية، فإننا نهتم جدًا جدًا باستيفاء الأوراق والشكل.
حرص بعض الطبعات من الدولة المصرية على علاقاتها الدولية وتجنب الانتقادات.
استخدام السلطة، في بعض الطبعات، الانتخابات لتفريغ غضب المواطنين من وزراء السلطة التنفيذية.
اعتبار أحزابها وسيطًا بينها وبين مواطني الدولة في تقديم الخدمات، وأداة لتواصل نوابها مع المواطنين، ومكافأة عائلات وعصبيات ومثقفين وسياسيين ونخبتها السياسية بعضوية البرلمان.
استخدامها أحيانًا لتصفية حساباتها داخل البرلمان.
استيعاب المعارضة المصرية في بعض الأحيان، وعدم نقل غضبها إلى مستويات قد تجدها خارج إطار السيطرة.
الطبعة الناصرية والساداتية
السلطة التنفيذية في مصر، حريصة على إجراء انتخابات دورية للمجالس التشريعية، حتى لو اختلفت أسماء المجلس التشريعي (مجلس الأمة – النواب – البرلمان)، بوصفه شكلًا مما يمكن تصوره شرطًا شكليًا للدولة المدنية الحديثة.
السلطة التنفيذية حريصة جدًا على وجود الدساتير، حتى وإن لم تطبقها. وهي حريصة جدًا جدًا على دورية انعقاد الاستفتاء والانتخابات، حتى لو كانت ضعيفة التأثير، فهي تهتم بالشكل كثيرًا، والأوراق، وما تتصوره قانونيًا.

في فترة الخمسينيات والستينيات، كان هناك تنظيم سياسي واحد إلى جانب انتخابات لمجالس تشريعية، والغرض منها أن يكون للتنظيم السياسي التابع للسلطة حضور شعبي، ونقل ما يمكن أن نطلق عليه مؤشرات عن رضا المواطن عمّا تقدمه له السلطة ورضاها عنه، وهو ما كان بارزًا في الطبعة الناصرية من الدولة.
نعم، هذه الطبعة الناصرية كانت تقيّد الحريات، ولا تسمح بالتنظيم، ولا تسمح لأحد بممارسة السياسة خارج تنظيمها، لكنها كانت تهتم للغاية بوجود وسطاء من قيادات طبيعية، للتأكد من جودة ما تقدمه للمواطن من خدمات، وعدالة توزيعها، وأمور عديدة دون الاعتماد على أجهزتها وتقاريرها فقط في جانب الخدمات وآراء المواطن. كما استخدمت السلطة التشريعية في تصفية صراع كان واضحًا، ولكن المواطن لا يعلم عنه شيئًا، كالصراع بين ناصر وحكيم مثلًا.
السادات، بدوره، كان مهووسًا بالنموذج الغربي والأمريكي للديمقراطية، وكان يحب أن يُظهر نفسه للعالم والمنطقة على أنه منفتح سياسيًا، يسمح بوجود المنابر، وإجراء الانتخابات، ويسمح بالتظاهر أحيانًا، بل ويسمح بإنشاء الأحزاب، لكنه لم يتحمل مثلًا نتائج برلمان 76، وقام بحلّه.
طبعة مبارك
أما طبعة مبارك للسلطة، فقد فعلت في البلاد ما يجعلها أسوأ طبعات سلطة مارس 54، وهو تسفيه المجال العام والسياسي، وتقزيمه داخل النخبة الحاكمة والمعارضة.
ولكن تبقى هي الأكثر انفتاحًا شكلًا وموضوعًا بالمقارنة بباقي طبعات سلطة مارس 54، وهو ما يجب أن نعترف به ونتذكره، حيث كان حريصًا جدًا على وجود هامش ما، هامش لكل شيء في الإعلام، والثقافة، والمجال العام، والسياسي.
كان حريصًا على إجراء انتخابات دورية، ومحاولة تمثيل المعارضة، بل وفتح حوار معها، حيث التقى رؤساء الأحزاب المصرية في فترته الرئاسية الأولى أكثر من مرة، والحقيقة أن الوضع كان مختلفًا على مستوى المجال العام والسياسي، في قيمة كوادره وخبراتهم.

في انتخابات قائمتي 84 و87، سمح للوفد والإخوان والتحالف الإسلامي بنسبة معقولة جدًا في البرلمان، فيما غضب على التجمع ومنظمات اليسار، على عكس انتخابات 90 و95 التي شارك فيها التجمع، وأصبح مع الوفد واجهة المعارضة.
وجاءت انتخابات 2000 و2005 كأكثر البرلمانات تمثيلًا للمعارضة من اتجاهات سياسية مختلفة، إلى أن حرم مبارك معارضته التي كان يتحملها من تحقيق نتائج في انتخابات 2010، وهو ما كان مؤشرًا خطيرًا على انهيار سلطة مبارك، بعد أن وصل إلى مرحلة الصدام الذاتي مع طبعته التي كان يدير بها السلطة، وهذا من أسباب انضمام معارضة لم يكن يتوقعها لانتفاضة يناير 2011.
مبارك كان يهتم بالبرلمان، ويبث جلساته على الهواء مباشرة أو مسجلة، ما ساهم في بزوغ نجوم في برلمان مصر، وصناعة أسماء سياسية من خلال العمل النيابي، عرفهم الناس، وعرفوا منظماتهم، ورأينا جلسات برلمانية تاريخية أحيانًا.
كما استخدم البرلمان في كل شيء، من تصفية صراعات أجنحة حكمه، وصرف الغضب لأعوانه من السلطة التنفيذية، من وزراء الحكومة، من أجل ألا يغضب المواطن منه.
كان مبارك حريصًا على أن يدخل في حوار مع معارضيه، حتى لا تعمل بشكل سري أو تأتلف خارج سيطرته، بل كان نواب من الأغلبية ينتقدون السلطة التنفيذية، وكانت انتخابات البرلمان في مصر فرصة كبيرة للدعاية وبناء الكوادر.
قد يتصور القارئ أن لديّ حنينًا لسلطة مبارك مثلًا، فأقول مجددًا وبوضوح: إن سلطة مبارك قدمت أسوأ طبعات السلطة التنفيذية.
طبعة الحكم الراهن
أما طبعة الحكم الراهن، فهي لا تقيم وزنًا للسياسة ولا للسياسيين.
لم يهتم نظام الحكم بإنشاء حزبٍ سياسيٍ معبِّرٍ عن السلطة، وهو أمرٌ انفردت به طبعة الحكم الحالية عن باقي طبعات الحكم السابقة، بدايةً من طبعة الاتحاد الاشتراكي والقومي حتى الحزب الوطني طبعة جمال مبارك، فهو لا يريد وسيطًا بينه وبين المواطنين.

يعتمد نظام الحكم على مخاطبة الرئيس السيسي المواطنين بشكل مباشر، ولا توجد أجنحة سلطة بينها خلافات، يُستخدم البرلمان في تصفية الحسابات معها، ولا يهتم الرئيس ولا يسمح بإهانة أو توجيه النقد لموظفيه من السلطة التنفيذية.
ويأتي اهتمام نظام الحكم بالبرلمان من منطلق وظيفته فقط، عبر إقرار التشريعات والاتفاقات، وبالتالي لا يقيم وزنًا لأي انتقادات دولية في هذا الإطار ولا لتمثيل المعارضة، من منطلق فهم النظام الحالي أن أزمة سلطة مبارك كانت في أنه أحيانًا اهتم بوزن الانتقادات الخارجية، وأنه سمح لمعارضيه بحريات، من وجهة نظرهم، أساءت المعارضة استخدامها.
برلمان 2015
في برلمان 2015، لم يكن هناك حزبٌ حاكم، وحصل على أغلبية أصوات البرلمان حزبُ المصريين الأحرار، ولكن المدهش أن الحزب لم يحصل على مقعدٍ واحدٍ في انتخابات 2020، بل لم يُقدِّم مرشحًا واحدًا حتى، وهو أمرٌ لم يحدث في السياسة بالعالم كله.

تم تدشين ائتلافٍ باسم “في حب مصر” شمل سياسيين مصريين مستقلين وحزبيين، وكان أبرز الأحزاب المحسوبة على المعارضة (حزب الوفد، والمحافظين، والإصلاح والتنمية) الذي صوَّت أعضاؤه وأعضاء حزب المحافظين على فصل النائب أنور السادات، رئيس حزب الإصلاح والتنمية نفسه!
تم إدارة البرلمان بشكلٍ لا تحكمه سطوة حزب الأغلبية، لأنه لم يكن هناك حزبُ أغلبية، ولم يقم البرلمان بأيِّ دورٍ تشريعي أو رقابي، بل ولم يتم بث جلساته على الهواء، وليس لديّ معلومات — وهو تقصيرٌ مني — عمّا إذا كان يُبث مُسجَّلًا مثلًا.
تم تمرير اتفاقية تيران وصنافير، ثم تمرير التعديلات الدستورية، بمشاغبة عددٍ محدودٍ من نواب برلمان المستقلين، وعددٍ من أعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي الناجحين على المقاعد الفردية، وبعض نواب كتلة 25-30، وقد انضم لهم في تيران وصنافير نوابٌ لم يُعرف عنهم المعارضة سابقًا.
برلمان 2020
في برلمان 2020، وهو الذي جرت انتخاباته أيضًا بالنظام الانتخابي نفسه الذي أُجريت به انتخابات 2015، عبر نظام القائمة المُغلقة، التي تُعد أسوأ النُظُم الانتخابية على الإطلاق في كل النُظُم الانتخابية التي اكتشفتها البشرية، والذي قضى على أيّ منافسة انتخابية وأنهى دور الأحزاب، وبات الوصول للبرلمان بشكلٍ يشبه التعيين.
كانت رئاسة البرلمان في دورتي 2015 و2020 رئاسة غير سياسية، لم يُعرف عن رؤساء البرلمان فيهما ممارسة السياسة من قبل أبدًا، لا في أحزاب موالاة ولا معارضة.

ودخل برلمان 2020 معارضة حصلت على مقاعدها على قوائم تُشبه قائمة “في حب مصر”، استمر فيها “الإصلاح والتنمية”، وانضم لها حزبا “العدل” و”الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي”.
وأدّى بعض نواب “الديمقراطي الاجتماعي” و”العدل” أداءً سياسيًا معقولًا وشجاعًا، وانضم لهم نائبان مستقلان.
في بداية برلمان 2020، لم نسمع منه أيّ نقد للسلطة التنفيذية، لا بالتلميح ولا باستخدام أدوات رقابية، ثم لم نعرف سوى رفض نواب “الحزب الديمقراطي الاجتماعي” لبيانات الحكومة.
مع الأسف، لم يتم تغطية أخبار البرلمان، ولم يُمارس البرلمان سلطته في اختيار رئيس الحكومة، ولكن بعد مرحلة “الحوار الوطني”، ومقابلة الرئيس لبعض زعماء المعارضة، ومسؤولين رفيعي المستوى من السلطة التنفيذية لقادة “الحركة المدنية” وأحزابها، سمحت السلطة بانتخابات رئاسية بشكلٍ أفضل من 2018، التي أيد فيها المرشحُ المنافسُ السيدَ رئيسَ الجمهورية.
شهدت الفترة من 2016 إلى 2020 إغلاقًا كاملًا للمجال العام والسياسي، وتم القبض على عدد كبير من السياسيين والحقوقيين، وأُغلقت كافة المنافذ الإعلامية، وبعد “الحوار الوطني” وقبله، تم الإفراج عن عدد من المحبوسين، والسماح بهامش حركة، يختلف على تقييمها المعارضون، ويتبادلون الاتهامات حول مسؤولية كل منهم عن الاشتباك أو الحضور.
ومهما كان الاختلاف في التقييم، فقد شهدنا ما يمكن وصفه بانفتاحٍ نسبيّ، غاب عنه إخراج كل المحبوسين، والانفتاح الإعلامي، وأمور كثيرة.
هذا بالنسبة لطبعات السلطة التنفيذية ونظرتها للانتخابات.
ماذا عن المعارضة المصرية وانتخابات البرلمان؟ هذا ما سنحاول التفكير فيه سويًا في مقالات قادمة.