ترامب يُعيد رسم عالم لا يعترف بنا

في تطور استراتيجي يثير قلقًا عميقًا في الأوساط السياسية والدبلوماسية العالمية، يبدو أن فترة الرئاسة الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تشهد تحولًا جذريًا في عقيدة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فبدلًا من الاستمرار في نهج “تنافس القوى العظمى” الذي شكل حجر الزاوية للاستراتيجية الأمريكية خلال العقد الماضي، تشير الدلائل إلى أن ترامب يسعى بنشاط نحو إقامة نظام عالمي جديد يقوم على “التواطؤ” أو “الوفاق” بين القادة الأقوياء، وتحديدًا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينج ضد النظام العالمي نفسه. وهو تحول، تصفه مجلة السياسة الدولية Foreign Affairs في تحليل معمق نُشر اليوم الإثنين، بأنه يتسارع بوتيرة ملفتة ولا يمثل مجرد تغيير تكتيكي، بل هو بمثابة انقلاب استراتيجي شامل.

ووفقًا لهذا التحليل، يحمل هذا الانقلاب – الذي يقوده ترامب – في طياته مخاطر جسيمة تهدد بزعزعة استقرار العالم، وتقويض التحالفات التاريخية التي بنتها الولايات المتحدة على مدى عقود، ويضع مصير الدول الأصغر والأقل نفوذًا تحت رحمة صفقات تُعقد في الغرف المغلقة بين القوى المهيمنة. كما أن هذا التوجه الجديد يستدعي بقوة شبح الانهيارات التاريخية التي منيت بها محاولات سابقة لإدارة الشؤون العالمية عبر “نادٍ حصري للقوى العظمى”، مثل “الوفاق الأوروبي” في القرن التاسع عشر.

مُهادنة الكبار لا منافستهم

لفهم حجم التحول الجاري الآن، يذكّر تحليل “فورين أفيرز” بأن إعلان عودة عصر “تنافس القوى العظمى” كان بمثابة لحظة فارقة في السياسة الخارجية الأمريكية. وقد بدأت ملامح هذا التحول تتشكل في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وتم ترسيخه بشكل رسمي في استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها إدارة ترامب الأولى عام 2017.

هذه الاستراتيجية، التي انطلقت من فرضية أن حقبة التعاون التي سادت بعد نهاية الحرب الباردة قد ولّت، وضعت مواجهة التحديات التي تمثلها الصين وروسيا كأولوية استراتيجية قصوى للحفاظ على التفوق والمصالح الأمريكية.

وعلى هذا النهج، سار الرئيس السابق جو بايدن، خلال فترة رئاسته، مؤكدًا في استراتيجيته للأمن القومي لعام 2022 على ضرورة “التفوق في المنافسة” على الصين وكبح جماح العدوان الروسي، بهدف حماية النظام الدولي القائم على القواعد والمؤسسات.

لكن المشهد الذي ترسمه “فورين أفيرز” لولاية ترامب الثانية يقلب هذا الإجماع الظاهري رأسًا على عقب. فبدلًا من مواصلة سياسات المنافسة والردع، يُظهر التحليل أن ترامب، منذ عودته للبيت الأبيض، يبدو أنه يسعى بنشاط وبشكل مباشر لعقد “صفقات كبرى” مع بوتين وشي.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين (وكالات)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين (وكالات)

تشمل الأمثلة كدلائل على هذا التوجه المتسارع: الضغوط التي يمارسها ترامب، حسب التقارير، لإنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، حتى لو كان ذلك بشروط قد تعتبرها كييف مهينة ولكنها ترضي طموحات موسكو التوسعية، وسعيه الحثيث للقاءات مباشرة “رجل لرجل” مع الرئيس الصيني شي جين بينج بهدف تسوية القضايا الشائكة المتعلقة بالتجارة، والحد من التسلح النووي، وربما إعادة تعريف العلاقات الاستراتيجية، بالإضافة إلى تصعيده الملحوظ للضغوط والخطاب المتشكك تجاه الحلفاء التقليديين في أوروبا وحلف الناتو، وكذلك الجارة كندا، مما يلمح إلى إعادة تقييم جذرية لأهمية هذه التحالفات في رؤيته الجديدة للعالم.

ويخلص تحليل “فورين أفيرز” إلى استنتاج مقلق: إن هذا النهج الذي يتبعه ترامب لا يمكن تفسيره أو فهمه ضمن الإطار المألوف لـ”تنافس القوى العظمى”، حتى في نسخته القومية التي تبناها ترامب نفسه في ولايته الأولى. بل تجب رؤيته كتحول نوعي نحو نموذج “تواطؤ القوى العظمى” أو كمحاولة لإحياء نسخة محدثة ومعدلة من “الوفاق الأوروبي” الذي ساد القرن التاسع عشر، حيث عملت قلة من القوى المهيمنة (بريطانيا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا، وفرنسا لاحقًا) على إدارة شؤون القارة الأوروبية وفرض رؤيتها الخاصة للنظام والاستقرار، غالبًا على حساب تطلعات الشعوب والدول الأصغر. وهنا، في هذا النموذج تحديدًا، تكمن بذور المخاطر الجسيمة التي يركز عليها تحليل “فورين أفيرز” بشكل أساسي.

التنافس المتوازن: هل كانت مجرد سردية؟

قبل الغوص أعمق في مخاطر نموذج “التواطؤ” الجديد الذي يبدو أن ترامب يتبناه، يشير تحليل “فورين أفيرز” إلى نقطة ضعف محتملة في العقيدة التي يتم التخلي عنها الآن.

ويجادل التحليل بأن مفهوم “تنافس القوى العظمى”، على الرغم من هيمنته الخطابية، كان في كثير من الأحيان أقرب إلى “سردية” قوية وجذابة منه إلى “استراتيجية” متماسكة وواضحة المعالم. ويوضح أن الاستراتيجية الحقيقية، لكي تكون فعالة، تتطلب تحديد أهداف قابلة للقياس ومقاييس واضحة للنجاح أو الفشل (مثل استراتيجية الاحتواء التي اتبعتها الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، والتي كان لها هدف واضح وهو منع التوسع الشيوعي).

في المقابل، بدا مفهوم “التنافس” المعاصر مع الصين وروسيا، كما تلاحظ “فورين أفيرز”، في كثير من الأحيان وكأنه غاية في حد ذاته، دون تحديد دقيق وواضح لـ “متى” يعتبر التنافس ناجحًا، و”كيف” يتم قياس هذا النجاح، و”لماذا” يتم التنافس في مجالات معينة دون غيرها.

هذه الطبيعة المرنة، والغامضة إلى حد ما لمفهوم التنافس، سمحت بالفعل بتبرير سياسات قد تبدو متناقضة تحت مظلته (مثل تهديد ترامب في ولايته الأولى بالانسحاب من الناتو، ثم إعادة استثمار إدارة بايدن فيه كأداة رئيسية لمواجهة روسيا).

لكن هذه المرونة تعني أيضًا، كما يلمح تحليل “فورين أفيرز”، أن الأساس الاستراتيجي لهذه العقيدة قد يكون أضعف وأكثر هشاشة مما كان يبدو عليه. وهذا الضعف الهيكلي هو ما قد يسهل نسبيًا على قائد مثل ترامب، برؤيته البراجماتية والشخصية للعلاقات الدولية، التخلي عن هذه العقيدة لصالح سردية جديدة – سردية “التواطؤ” – تبدو أكثر انسجامًا مع رؤيته للعالم كمجموعة من الصفقات الكبرى التي تُعقد بين “القادة الأقوياء”.

ترامب وبوتين وشي.. سياسة تقسيم العالم

وفقًا للتفسير الذي يقدمه تحليل “فورين أفيرز”، فإن اهتمام ترامب الملحوظ بنموذج “الوفاق” أو “التواطؤ” لا ينبع بالضرورة من دراسة متأنية للتاريخ الدبلوماسي، بل هو نتاج رؤية غريزية وعميقة لديه حول كيفية عمل العلاقات الدولية.

يرى ترامب العالم بشكل يشبه إلى حد كبير عالم صفقات العقارات الضخمة أو صناعة الترفيه التي اختبرها طويلًا: ساحة يتنافس فيها عدد قليل من اللاعبين الكبار، ولكنهم أيضًا مستعدون للتواطؤ وعقد الصفقات الجانبية فيما بينهم لإدارة “النظام” العام والحفاظ على مصالحهم المهيمنة.

في هذه الرؤية، يرى ترامب، كما تنقل “فورين أفيرز”، قادة مثل بوتين وشي ليسوا كأعداء أيديولوجيين يجب احتواؤهم أو تغييرهم، بل كـ”قادة أقوياء وأذكياء” ونظراء يمكن، بل ويجب، عقد الصفقات المباشرة معهم، حتى لو كانت الولايات المتحدة لا تزال تحتل موقع القوة العظمى الأبرز.

الأخطر من ذلك، كما يصف التحليل، هو أن هذه الرؤية تتضمن استعدادًا متزايدًا للعمل المشترك مع هؤلاء الخصوم السابقين، ليس فقط لتسوية النزاعات، بل ربما أيضًا للحفاظ على “النظام” ضد ما يعتبره هؤلاء القادة مجتمعين قوى “الفوضى” أو “الأعداء في الداخل” – سواء كان ذلك يتمثل في الهجرة غير الشرعية، أو انتشار الأيديولوجيات الليبرالية التقدمية، أو حتى الحركات الديمقراطية التي تتحدى سلطتهم.

والجزء الأكثر إثارة للقلق العميق في هذه الرؤية، والذي يبرزه تحليل “فورين أفيرز” كمصدر رئيسي للمخاطر المستقبلية الجسيمة، هو القبول الضمني، وربما الصريح في نهاية المطاف، بفكرة تقسيم العالم إلى “مناطق نفوذ” محددة، حيث تمنح كل قوة عظمى حرية التصرف داخل منطقتها المعترف بها مقابل عدم التدخل في مناطق الآخرين.

الخطر القادم من ثلاثتهم

هنا، يصل تحليل “فورين أفيرز” إلى جوهر تحذيراته الصارخة، مفصلًا بعناية المخاطر المتعددة والمتشابكة التي ينطوي عليها تبني نموذج “تواطؤ القوى العظمى” القائم على الصفقات البراجماتية وتقسيم مناطق النفوذ:

خطر مناطق النفوذ الوهمية والمُفجرة للصراع:

يشدد تحليل “فورين أفيرز” بقوة على أن فكرة إمكانية تقسيم العالم ببساطة إلى مناطق نفوذ واضحة المعالم ومستقرة هي مجرد وهم خطير وساذج. ويستشهد بالتاريخ ليثبت ذلك: فحتى في أوج قوة “الوفاق الأوروبي” في القرن التاسع عشر، كانت حدود مناطق النفوذ والمصالح محل نزاع وتنافس مستمر (بين النمسا وبروسيا في ألمانيا، وبين فرنسا وبريطانيا في المستعمرات).

كما أن المحاولات اللاحقة لترسيم مناطق النفوذ، مثل اتفاق يالطا الشهير في نهاية الحرب العالمية الثانية، سرعان ما تحولت إلى بؤر توتر وصراع مرير على تخوم هذه المناطق (كما حدث في ألمانيا المقسمة، وكوريا، وفيتنام).

ويحذر التحليل من أن محاولة تطبيق هذا النموذج اليوم ستكون أصعب بما لا يقاس وأكثر خطورة بسبب تعقيدات العولمة، وتشابك سلاسل التوريد العالمية، وتدفقات الاستثمار الهائلة عبر الحدود، بالإضافة إلى المشاكل العابرة للحدود الوطنية بطبيعتها (مثل تغير المناخ، والأوبئة العالمية، وانتشار الأسلحة النووية) التي لا يمكن احتواؤها أو حلها داخل حدود “منطقة نفوذ” واحدة.

ويخلص التحليل إلى أن القبول بسيطرة روسية دائمة على أجزاء من أوكرانيا، أو التخلي عن التزامات أمنية تجاه دول مثل الفلبين أو حتى تايوان لصالح الصين مقابل وعود بعدم تدخلها في “منطقة” أمريكا (التي قد يسعى ترامب لتوسيع مفهومها لتشمل كندا أو حتى دولًا في أمريكا اللاتينية)، لن يؤدي إلى استقرار دائم كما يتوهم البعض، بل سيزرع بذور صراعات مستقبلية أشد ضراوة عندما تبدأ هذه الحدود المصطنعة بالاهتزاز حتمًا، أو عندما يسعى أحد الأطراف القوية لتوسيع نفوذه على حساب الآخر، وهو أمر شبه مؤكد في عالم السياسة الواقعية.

لوحة رسمها الفنان الفرنسي إدوار دوبوف عام 1856، تصور مؤتمر باريس الذي عُقد بعد نهاية حرب القرم (1853–1856)، وشارك فيه ممثلو القوى الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا، فرنسا، الدولة العثمانية، النمسا، وسردينيا، بهدف إعادة التوازن الأوروبي بعد الحرب.
لوحة رسمها الفنان الفرنسي إدوار دوبوف عام 1856، تصور مؤتمر باريس الذي عُقد بعد نهاية حرب القرم (1853–1856)، وشارك فيه ممثلو القوى الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا، فرنسا، الدولة العثمانية، النمسا، وسردينيا، بهدف إعادة التوازن الأوروبي بعد الحرب.

خطر تجاهل الخلافات الأيديولوجية العميقة والجذرية:

يفترض نهج ترامب القائم على الصفقات، كما يصوره تحليل “فورين أفيرز”، أن الاتفاقات البراجماتية والمصالح المشتركة المؤقتة يمكن أن تتجاوز وتطغى على الاختلافات الأيديولوجية العميقة بين الدول، خاصة بين الديمقراطيات الغربية والأنظمة الاستبدادية في روسيا والصين. لكن التاريخ يُظهر بوضوح أن “الوفاقات” بين القوى المختلفة غالبًا ما تخفي هذه التوترات الأيديولوجية تحت السطح بدلًا من حلها فعليًا.

فالانقسام داخل الوفاق الأوروبي الأصلي بين القوى المحافظة (روسيا، وبروسيا، والنمسا) والقوى الليبرالية الصاعدة (بريطانيا وفرنسا لاحقًا) أدى إلى سياسات متضاربة وتوترات مستمرة. وبالقياس على القرن الحادي والعشرين: فبينما قد لا يبدي ترامب شخصيًا اهتمامًا كبيرًا بقمع الصين للحريات الديمقراطية في هونج كونج أو تهديداتها لتايوان، فإن رد الفعل الشعبي والسياسي داخل الولايات المتحدة نفسها، وكذلك من قبل حلفائها الديمقراطيين حول العالم، قد يكون قويًا ومعارضًا بشدة، مما يقوض أي “صفقة كبرى” يتم إبرامها على حساب القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

كما أن العدوان الروسي المستمر في أوكرانيا، حتى لو تم تجميده مؤقتًا بصفقة غير مرضية، سيظل مصدرًا للتوتر الأيديولوجي والاستراتيجي العميق مع الغرب.

إن تجاهل هذه القيم والمبادئ ليس مجرد موقف أخلاقي مشكوك فيه، بل هو، كما يؤكد التحليل، خطأ استراتيجي فادح قد يأتي بنتائج عكسية تمامًا ويزيد من عدم الاستقرار على المدى الطويل.

كيف هي ردود الفعل المتوقعة؟

يحذر تحليل “فورين أفيرز” بشكل خاص من أن محاولات القوى العظمى المتواطئة لفرض نظامها الخاص وقمع أي تحديات لسلطتها غالبًا ما تؤدي إلى نتائج عكسية وغير متوقعة.

ويستشهد التحليل مجددًا بالتاريخ؛ فيشير إلى أن قمع القوى المحافظة في الوفاق الأوروبي لتطلعات القوميات في القرن التاسع عشر لم يؤدِ إلى إخمادها، بل على العكس، أدى إلى تقويتها وتوحيدها في نهاية المطاف (كما تجلى في ثورات 1848 والتوحيد اللاحق لألمانيا وإيطاليا). واليوم، في عالم أكثر ترابطًا وتعددية، سيكون من المستحيل تقريبًا فرض نظام هرمي تديره ثلاث قوى عظمى فقط، وتتوقع أن تقبله الدول الأصغر حجمًا والقوى المتوسطة الصاعدة دون مقاومة.

رجل فلسطيني يسحب عربة على طريق تصطف على جانبيه المباني المدمرة في خان يونس جنوب قطاع غزة في 2 مايو 2024. (ا ف ب)
رجل فلسطيني يسحب عربة على طريق تصطف على جانبيه المباني المدمرة في خان يونس جنوب قطاع غزة في 2 مايو 2024. (ا ف ب)

ومن غير المرجح، كما يشير التحليل، أن تقبل أوكرانيا بالتنازل عن أراضيها وسيادتها إلى الأبد بموجب صفقة تُفرض عليها. ومن غير المرجح أيضًا أن تقبل دول ذات ثقل إقليمي وعالمي متزايد مثل الهند، أو اليابان، أو القوى الأوروبية الكبرى (مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا)، بنظام عالمي جديد يقرر مصير مناطقها ومصالحها قادة يجلسون في واشنطن وموسكو وبكين.

يتوقع تحليل “فورين أفيرز” أن يؤدي هذا النهج المتعجرف من الأعلى إلى الأسفل إلى تسريع جهود هذه الدول وغيرها لبناء قدراتها العسكرية والاقتصادية الذاتية، وتشكيل تحالفات بديلة وموازية خارج إطار القوى العظمى الثلاث، ومقاومة “الوفاق” المفروض عليها بشتى الطرق. والنتيجة المحتملة، بدلًا من الاستقرار المأمول، ستكون زيادة الاحتكاكات، وسباقات التسلح الإقليمية، وتصاعد احتمالات الصراع في مناطق متعددة من العالم.

النظام العالمي الجديد.. هل تصلح القيادة الحالية؟

يتطرق تحليل “فورين أفيرز” أيضًا إلى عامل حاسم وهو طبيعة القيادة نفسها. فإدارة نظام “وفاق” أو “تواطؤ” بين القوى العظمى بنجاح، حتى لو كان ذلك ممكنًا نظريًا، يتطلب مهارات دبلوماسية فائقة، وقدرة على ضبط النفس، ورؤية استراتيجية طويلة المدى، على غرار ما أظهره المستشار الألماني أوتو فون بسمارك في إدارة توازن القوى الأوروبي المعقد في أواخر القرن التاسع عشر.

لكن التحليل يلمح بقوة، وإن كان بشكل غير مباشر، إلى أن شخصية الرئيس ترامب، المعروفة بالاندفاع، والتقلب، والميل إلى التنمر والتهديد، والتركيز على الصفقات السريعة والمكاسب الآنية بدلًا من الاستراتيجية الصبورة والمدروسة، تجعله أقرب إلى نموذج القائد الفرنسي نابليون الثالث، الذي على الرغم من طموحاته الكبرى، غالبًا ما تم التلاعب به واستغلاله من قبل منافسين أكثر دهاءً ومكرًا (مثل بسمارك نفسه).

إن الرهان على قدرة ترامب على التفاوض ببراعة وتحقيق مصالح الولايات المتحدة طويلة الأمد في مواجهة قادة متمرسين مثل بوتين وشي، المعروفين بتفكيرهم الاستراتيجي الصبور وقدرتهم على استغلال الفرص، هو رهان محفوف بمخاطر جسيمة، حسبما ترى “فورين أفيرز”.

وقد تجد الولايات المتحدة نفسها، في ظل هذا السيناريو الذي يرسمه التحليل، قد قدمت تنازلات استراتيجية خطيرة (مثل التخلي عن حلفاء أو مناطق نفوذ تقليدية) دون الحصول على مكاسب حقيقية أو ضمانات دائمة، أو قد تنجر إلى صراعات غير متوقعة أو أزمات دبلوماسية نتيجة لسوء تقدير للمواقف أو ردود فعل عاطفية وغير محسوبة من قبل القيادة.

المراهنة على شركاء غير موثوقين

وأخيرًا، يفترض نموذج “الوفاق” أو “التواطؤ” الذي تتوقع “فورين أفيرز” أن يسعى ترامب لتطبيقه، درجة معينة من الثقة والالتزام المتبادل بين القادة الأقوياء المشاركين فيه.

لكن التحليل يشكك بشدة في إمكانية الاعتماد على قادة مثل بوتين وشي كشركاء حقيقيين يسعون لتحقيق “الصالح العام” العالمي أو حتى الالتزام بقواعد اللعبة المتفق عليها في أي صفقة. فتاريخهم الحافل باستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف سياسية، وتحدي الأعراف والقوانين الدولية، والسعي الدؤوب لتحقيق مصالحهم القومية الضيقة على حساب الآخرين، يشير بوضوح إلى أن أي “تواطؤ” يتم التوصل إليه سيكون هشًا ومؤقتًا، وقائمًا بشكل أساسي على توازن القوى المتغير باستمرار، وليس على أساس الثقة المتبادلة أو المبادئ المشتركة.

وهذا يجعل النظام برمته عرضة للانهيار المفاجئ عند أول اختبار حقيقي، أو عند حدوث أي تغير ملموس في موازين القوى، أو عندما يقرر أحد الأطراف أن خرق الاتفاق يخدم مصالحه بشكل أفضل.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة