العلاج السري.. رواية تُحاكي الواقع بخيالٍ ساخر

أصبح “التريند” في وقتنا هذا كالحاكم بأمره، وتحولت الأحداث اليومية إلى مادة دسمة للمناقشات والتحليلات، ويتأثر الرأي العام بلمسة شاشة أو بنقرة زر. لذا، تأتي رواية “العلاج السري” للكاتب معتز نادي مثل الصرخة الساخرة والمؤلمة أيضًا في وجه هذا الواقع. صدرت الرواية حديثًا عن دار ريشة، وتقدم لنا حكاية تمتزج فيها السخرية بالخيال، لتُسقط الضوء على ما آلت إليه حياتنا وسط زحام الأحداث السريعة وتحولات المشهد الرقمي.

في روايته الأولى، يناقش معتز نادي أثر الإعلام على انتشار الشائعات، وما الذي يمكن أن يحدث حينما يلتقي الناس على أمرٍ لا حل له، عن مرضٍ يبحثون له جاهدين عن علاج، وكلٌّ يُفتي برأيه. فيظهر المتحذلقون وغير المتخصصين في وجه الصورة، أن تتوازى جائحتان: جائحة التريند وجائحة المرض، في عالمٍ مستقبلي، تكون التكنولوجيا فيه عبئًا بدلًا من كونها مساعِدة.

وفي إطار كل هذه الأحداث المتلاحقة التي أبرزتها وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية، يستمر الجمهور في بيع الشائعات مع خطٍّ موازٍ للأحداث في الولايات المتحدة الأمريكية، فلا يصدق صالح -وهو صحفي صامت أغلب الوقت- الأحداث حوله، بل ويتعجب منها، ويبحث عن الحقيقة بمفرده، أن الناس قادرون على الإفتاء بهذه الوصفات العجيبة التي تظهر عبر البرامج والقنوات ووسائل التواصل والتريندات المتلاحقة، ولا يصدق كذلك أن الجمهور يصدق قدرتهم على الاستشفاء بهذه الوصفات العجيبة.

الكاتب الشاب معتز نادي في حواره مع فكر تاني

قرر نادي، في كتابه، أن يأخذنا في رحلة خيالية مليئة بالإسقاطات الواقعية البحتة، توضح أكثر الجهل الذي طال أغلب المجتمع دون البحث أو التقصي عن الحقيقة في مقابل شخص واحد فقط يحاول أن يتقن عمله ويراعي ضميره في مهنته.

وفي نقاطٍ مثيرة تفرقت في الرواية أكد الكاتب أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يوصفون بالحكمة والحنكة في التلقي ومعالجة الأمور، ثم سرعان ما يُكشفون في وقت الأزمات بعد تزاح السُتر عنهم.

كما تتمحور الراوية حول قوله الذي مهد له في البداية: “في زمن بات محكومًا بعدد الإعجابات والمتابعات.. تبقى اللقطة الفاصلة هي الاختبار في زيادة المتابعين أو قلتهم”. فكانت الكواليس شيقة في السرد وفي وصفه موجة التريندات وبدايتها وزهوتها.

“العلاج السري” ناقشه الأستاذ وشيخ العطارين والدكتورة فلة وبائع الكشري وأبو الأفكار، ولكن لا أحد يصل إلى الحقيقة لأنه لا أحد يريد أن يصل إليها، فقد سيطرت شهوة التريند عليهم وجعلتهم يتخبطون بين وسائل التواصل يصرحون دون خبرة ودون مبالاة بما يمكن أن يتركونه من أثرٍ خطير على الناس بسبب وصفاتهم هذه.

يترك نادي نهاية روايته مفتوحة، لكن بها خيطًا مهمًا إن تتبعه القراء فيسفهمون أين يوجد العلاج السري فعلًا، حيث يقول: “العلاج السري الذي يحتاجه العالم أو بالأحرى محيطه الذي يعيش فيه هو إعطاء الأمر لأهله من المتخصصين دون المحاسيب أو معدومي الموهبة أو أنصاف الشخصيات التي لا تجيد سوى التطبيل، وأثرها السلبي يظهر مع مرور الوقت، فهي تغرق سفينة النجاة بفشلها، ولا تدرك عواقب كارثتها إلا بعد فوات الأوان”.

ماذا يفعل التريند في الناس؟

التريند لم يعد مجرد موضوعًا للنقاش أو حديثًا عابرًا؛ بل بات قادرًا على تحريك الجماهير، وتشكيل الوعي الجمعي، وتحديد أولويات الاهتمام. إنه يتحكم في العناوين الرئيسية، ويؤثر في السياسات، بل ويمتد إلى تشكيل الأحكام الأخلاقية والاجتماعية، فكل شيء خاضع لقانون التريند، من القضايا المجتمعية الحساسة إلى المواقف الشخصية البسيطة. ومع هذا التحكم الكامل، تبرز أسئلة ملحة مثل: إلى أي مدى يمكن أن يزيِّف التريند الواقع؟ وكيف يمكن أن يغير من نظرتنا للأحداث؟ وهل نعيش حقًا أم أننا مجرد انعكاس لما تمليه علينا الشاشات؟

محاكاة ساخرة بلمسة خيال

في حديثه لـ فكّر تاني، يوضح معتز نادي أن “العلاج السري” ليست مجرد قصة تقليدية، بل هي محاولة لتقديم محاكاة ساخرة للواقع ولكن بشكل خيالي، حيث يُسقط الأحداث والشخصيات بطريقة تجعل القارئ شريكًا في فك شفرة هذا الإسقاط.

يقول معتز: “أترك الحكم للقارئ، خاصة مع ردود الفعل التي تراها صالحة لعمل فني فيلم أو مسلسل. الرواية إسقاط بشكل عام، والقارئ له الحكم والاستنتاج.. والسخرية صدفة مقصودة”.

لا تركز الرواية على مرض بعينه أو مشكلة محددة، بل تسلط الضوء على ما يراه الكاتب من سلبيات، مقدمًا رؤية فنية لكيفية علاجها. هنا، يبرز دور السخرية كأداة فنية حادة، تجعل القارئ يبتسم بمرارة، ويعيد التفكير في تفاصيل حياته اليومية التي قد يكون اعتاد عليها دون أن يدرك عبثيتها.

الترند جزءًا من الحبكة

واحدة من النقاط المثيرة في “العلاج السري” هي حضور التريند بشكل يومي بأحداثه وشخصياته، حيث يعترف معتز نادي بأن الرواية قد تأثرت بطبيعة عمله كصحفي يعيش وسط دوامة الأخبار والأحداث الرائجة. ويؤكد: “مع قراءة الرواية ستظهر معك كل ما تراه رائجًا ويصبح حديث الساعة عبر المواقع والصحف والقنوات.. وقد يكون هناك تأثر مع طبيعة عملي”.

هذا الحضور اليومي للتريند في الرواية يعكس بمهارة تأثيره على الأفراد والمجتمعات، وكيف يمكن أن يتسلل إلى حياتنا دون أن نشعر، ليشكل رؤيتنا للعالم من حولنا. هنا، تتحول الشخصيات إلى مرايا تعكس لنا وجوهنا، ونجد أنفسنا متورطين في لعبة التريند دون أن ندري.

بين السخرية والواقع: أين الحقيقة؟

تعتمد “العلاج السري” على مزيج ذكي من السخرية والخيال، ما يجعلها رواية قادرة على استفزاز التفكير وإثارة التساؤلات. فالسخرية في الرواية ليست مجرد وسيلة للإضحاك، بل أداة للتشريح النفسي والاجتماعي. إنها تجعلنا نتوقف أمام مرآة الحقيقة، نتأمل في انعكاس صورنا المشوهة بفعل تأثيرات التريند والضغوط المجتمعية.

يقول الكاتب: “لا أقصد بها مرضًا بعينه، وإنما لإبراز ما تراه سلبيات وكيفية علاجها”، حيث يُظهر معتز نادي بوضوح هدفه الفني؛ فهو لا يسعى لتقديم إجابات أو حلول مباشرة، بل يفتح المجال أمام القارئ للتفكير وإعادة النظر في تفاصيل حياته.

من النص إلى الشاشة

واحدة من السمات اللافتة في حديث معتز نادي عن روايته هي تركه الباب مفتوحًا أمام القارئ والمشاهد في الوقت ذاته. فهو يلمّح إلى إمكانية تحويل الرواية إلى عمل فني سواء كان فيلمًا أو مسلسلًا، وذلك بناءً على ردود فعل الجمهور وتفاعلهم مع الأحداث والشخصيات: “أترك الحكم للقارئ خاصة مع ردود الفعل التي تراها صالحة لعمل فني فيلم أو مسلسل”.

يعكس هذا الانفتاح وعيًا ذكيًا من الكاتب بتأثير التريند حتى على الأعمال الفنية، وكيف يمكن أن تتشكل الأذواق وتتغير وفقًا لما يراه الجمهور جذابًا ومؤثرًا، وربما هذا ما يجعل الرواية أكثر حيوية، ويمنحها بعدًا تفاعليًا يثير الفضول والرغبة في المتابعة.

وفي النهاية، تقدم الرواية رؤية فنية ساخرة، ولكنها في الوقت ذاته عميقة ومؤلمة للواقع الذي نعيشه، إنها ليست مجرد حكاية خيالية، بل هي مرآة تعكس لنا وجوهنا ونحن نجري وراء التريندات، ونتفاعل مع الأحداث بشكل لحظي دون أن نفكر في تداعياتها. كما تعد الرواية دعوة للتأمل والتفكير في ما وراء العناوين اللامعة والهاشتاجات الرائجة، ومحاولة لاستعادة إنسانيتنا المفقودة في زحام الشاشات، وإعادة النظر في تفاصيل حياتنا اليومية التي قد تبدو عادية، لكنها تحمل في طياتها الكثير من العبث والسخرية.

بهذا الأسلوب الأدبي الساخر، تمكن معتز نادي من تقديم عمل أدبي مميز، ويترك لنا الحكم والاستنتاج، والأهم من ذلك، أنه يجعلنا نفكر في سؤال بسيط ولكنه عميق: هل نحن فعلاً من نتحكم في التريند، أم أننا مجرد دمى تتحرك وفقًا لخيوطه الخفية؟

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة