منذ عشر سنوات تقريبًا، صدرت المجموعة القصصية الأولى للكاتب الصحفي هشام أصلان، بعنوان “شبح طائرة ورقية”. حينها، كانت تصوراتي المسبقة عن أبناء المبدعين أنهم يمارسون الإبداع كفعل وراثي، لا عن كفاءة واستحقاق. وبالتبعية، كان لهشام نصيب من هذه التصورات والأحكام بوصفه ابن الأديب الراحل إبراهيم أصلان. لكن غلاف مجموعته القصصية وعنوانها جذبَا انتباهي، وما إن بدأت في أولى صفحاتها حتى ختمت المجموعة في جلسة قراءة واحدة.
بعد سنوات طويلة من الغياب عن النشر، يعود هشام بمجموعة قصصية جديدة بعنوان “ثلاثة طوابق للمدينة” عن دار الشروق. خلال هذه المدة، تغيرت أشياء كثيرة في حياتي. راجعت مواقفي فيما يخص أحكامي المسبقة تجاه أبناء المبدعين وغيرهم من الأشخاص والأفكار والتصورات. عرفت هشام عن قرب وأصبحت مدركًا أن ما يبدو للآخرين بوصفه منحة قدرية، قد يكون بالنسبة لصاحبها مسؤولية وتحديًا كبيرين.
هشام أصلان
المجموعة القصصية الصادرة حديثًا، بغلاف مميز في خطوطه وألوانه وتكوينه وروحه المعبرة عن القاهرة بكل ما فيها من تناقضات وعفوية للفنان أحمد اللباد، تضم أربعة عشر قصة قصيرة بعناوين تستدعي العديد من التساؤلات والأفكار والمشاعر. نقرأ فيها: “مدينة وراء الليل، صاحب كرامة الشتاء، زيارة ليلية، مهرجان ليلى الصغير، المكتبات لا تلائم شقق الإيجار، مراحل زينب، فصل الأحلام، استشعار السخونة، ابتسامة من الماضي، تواطأنا على عدم السؤال، مناسبة عائلية قديمة، الغريب المبتسم، خطة استدعاء الوحدة”.
مراحل التكوين
يمهّد هشام لمجموعته القصصية في الصفحات الأولى من الكتاب بثلاثة أبواب/طوابق/مستويات، تبدو أقرب إلى مراحل تكوين، ومفاتيح للدخول إلى العالم الخاص لمدينته. في المستوى الأول، نقرأ إهداءً: “إلى القاهرة، وأرواح العابرين”. وفي المستوى الثاني، نقرأ نصًا صغيرًا يعبر عن روح المدينة في عيون هشام أصلان، بكل ما تحمله من أحلام، وحُرّاس، وأجراس، وأحزان، ونهايات، ومحاولات مستمرة للسعادة والنجاة:
“في الأيام اليسيرة، كان حرّاس البنايات المطلة على شوارع سعادتنا هم أكبر همومنا. راوغناهم كثيرًا، وعندما صرفوا النظر عن ملاحقة بهجتنا، كانت الشوارع قد انتهت منا، تاركةً فوق أكتافنا ما فقدته من سنوات”.
أما في المرحلة الثالثة من التكوين، والتي تحمل عنوان “شهيق”، فيتداخل فيها النصّ مع أنفاس المدينة وصاحبها، حيث يُلقي هشام أصلان سلامه على ذكريات وملامح ما زال بعضها حاضرًا، وإن تلاشى معظمها:
“سلامًا على مساحة صغيرة لم تزل سليمةً من داخلك، في ابتسامات قليلة تلتقطها بين شرودٍ يحفّز ماء العين. سلامًا على التلاهي الداعمة، وفطرة الخلق في الانشغال عمّا يمكنه أن يذهب بعقولنا دون عودة. سلامًا على حوائطنا الداخلية، لصد هجمات الحنين والدراما في الأماكن، وقسوتها بعدما فقدت شركاء الجلوس. سلامًا على ثمالة هادئة، ولو كانت حزينة، لم تستجب لموروث الأفلام حين جسّدت حزن السكارى”.
يعتمد أصلان في مجموعته على ثنائية الكشف والغموض؛ فما تخبرنا به قصص المجموعة من تفاصيل قليل للغاية، لكنه كاشف لبعض ملامح الشخصيات والمدينة. يدعونا الكاتب إلى أن نكون شركاء في الرحلة، وأن نكمل تفاصيلها بأنفسنا.
تشبه قصص المجموعة مدينة القاهرة، بكل ما فيها من مشاعر وذكريات وطبقات من التاريخ؛ بكل ما فيها من شوارع صاخبة، وأزقة هادئة لا يكاد يُسمع فيها سوى صوت الطيور. خلقت هذه التناقضات خصوصيةً وسحرًا للمدينة، وجعلت كل شيء فيها جائزًا وممكنًا ومتاحًا، لذا تتركنا معظم القصص بنهايات مفتوحة، صالحة لتكون بداية لقصة وحياة جديدتين.
موت جميل
في القصة الأولى من المجموعة، بعنوان “مدينة وراء الليل”، يقدم الكاتب صورتين لعالم المدينة، يفصلهما مسافات، وحيوات، وأرواح قلقة لا تطمئن إلا بالحب والوصال. تعود في هذه القصة روح البطل —الذي لا نعرف اسمه— من هجرته العكسية، من ضواحي القاهرة إلى قلبها من جديد، بحثًا عن الطمأنينة والسكون. تدور القصة في فضاء الموت، لكنه موت جميل، برفقة من نحب؛ موتٌ تصاحبه الأُلفة والدفء والحنين.
“في الصباح تحرّكت جنازتان. تقابلتا في المنتصف، حيث مساحة المقابر تفصل بين قلب المدينة والضاحية العالية. جنازة لرجل، والثانية لسيدة. كأنهما قرّرا في الوقت نفسه أن يُنهيا حكاية البيت القديم. البيت الذي شيّدته السيدة دون أعمدة خرسانية، وكان هو أول ساكنيه، قبل أن يتركه منتقلاً إلى الضاحية. عرفت هي أنه سيموت، عندما رأت أولاده يشرعون في نقل ما تركه في الشقة القديمة، أسفل شقتها، إلى سكنهم الجديد الذي انتقلوا إليه قبل سنوات، فاستعدّت للموت”.
ما يبدو غرائبيًا في قصص هشام أصلان، يتكشّف في حقيقته كأمرٍ طبيعيّ يحدث يوميًا في حياتنا، من مصادفات وترتيبات قدَرية، لا ننتبه إليها وسط غفلتنا وصخب الحياة المعاصرة، بما تحمله من دوامات، وصراعات، وسرعة استهلاك طاغية. تبدو شخصيات القصة كأنها قادمة من عالمٍ آخر؛ عالمٍ سبق هيمنة التكنولوجيا وتسارع الإيقاع، عالمٍ للإنسان فيه مكان، وللقيم والمشاعر والحب والحنين حضور.
“انتظرت رائحة موته منذ ذلك اليوم. كانت تخرج يوميًا إلى شرفتها وقت الغروب، حتى جاءت الرائحة، فدخلت من الشرفة واستكانت، قبل أن تنطلق في الأنحاء رائحة موتها. للمقابر مدخلان: دلف نعشه من المدخل القريب للضاحية، بينما مرّت هي من المدخل الأقرب للمدينة. كان المطر يهطل، والرياح قوية. أقوى من المعتاد. شعر المشيعون برجفات في أجسادهم”.

كرامات المدينة
في بلدٍ مثل مصر، ضاربٍ في القِدم قدم التاريخ نفسه، وفي مدينةٍ عتيقة متعددة الوجوه مثل القاهرة، حيث لا يُعرَف ظاهرها من باطنها، تظل الحياة مشبعة بمسحةٍ صوفيةٍ تربط بين الحياة والموت، والواقع والخيال، وتخلق مساحة متحررة من كل القيود، تعكس حقيقة المدينة بكل ما فيها من سحرٍ مطمور بين طيات الحاضر والماضي. هذه الروح الفريدة للقاهرة، وعالمها السفلي، تُحاكي في جوهرها الواقعية السحرية كما ظهرت في أدب أمريكا الجنوبية، مع احتفاظ كل ثقافة بخصوصيتها وتفرّدها.
“قبل المرور بمنطقة زينهم، والسير لبعض الوقت وسط المقابر، فكرت… كيف أن الحياة داخل أحواش المقابر وطرقاتها المعتادة في القاهرة، ليست مكانًا للدفن فقط، ولا للسكن فقط، بل للحياة. السكن شيء، والحياة الكاملة شيء آخر. هناك محالّ بقالة، وورش تصليح سيارات، وباعة ألبان، وفَتَارين صغيرة تبيع الحلوى. هناك (خناقات) صغيرة، وسيارات أجرة تمر. رغم هذا، لم أستطع استيعاب مشهد هؤلاء العمال وهم يفككون أفرع لمبات الكهرباء الملونة وبقايا صوانٍ كان منصوبًا لفرح شعبيّ في قلب المقابر”.
وبجانب فرادة المكان، تتفتّح للشخصيات أيضًا كرامات يلتقطها هشام أصلان، ويبني منها عالمًا قصصيًّا ممتدًا على مستوى الزمن، والدراما، والمشاعر، والخيال. في قصة “الغريب المبتسم”، كما في العديد من قصص المجموعة، نلمس تلك الكرامات، بكل ما تحمله من رمزية في أرواح الشخصيات وحضورها:
“منذ فترة لم أره. أكثر من سنتين. قابلته للمرة الأولى منذ سنوات طويلة مع أصدقاء في البار. تعارفنا وصار الود كبيرًا، ومحبّة لله في لله، رغم أننا تقريبًا لا نجلس معًا. كانت بيننا مصافحة حميمة، وحفاوة بالغة، وابتسامات، وتحيات طيلة السهرة من بعيد لبعيد”.
“انعدام الوسامة لم يمنع تلك الابتسامة الدائمة الساحرة، وتلك الجاذبية الإنسانية الغامضة المصدر. ربما كانت الطيبة، أو الصدق في التعبير عن المشاعر، أو ربما كانت حافة الثمالة الدائمة، تلك الحالة التي يحتفي بها القدر ببعض الناس، حيث لا تأخذهم الخمر إلا نحو انبساط محبوب، ونشوةٍ يبدو معها المرء سعيدًا ومحبًّا للعالم ما دامت اللحظة سعيدة، بينما يحتفظ بالحزن لما بين جدران حجرته. لم أقرأ له أي شيء، لكنه حكى لي مرة قصة تدور في ذهنه، عن ولد صغير مرّ على المقهى واستأذنه أن يشرب من المياه أمامه. قال إن الولد، بعدما ذهب، استدار وابتسم له. سألني: إيه رأيك؟ تنفع قصة؟ قلت: طبعًا”.
السيرة والعمر
غالبًا ما تحملنا المدينة بذكرياتٍ وأعباءٍ ومشاعرَ وتحيزاتٍ وتصوراتٍ ومواقفَ مسبقة، يكتب هشام أصلان قصصه متخففًا من كل هذا، كأنه يعيد اكتشاف الحياة والمدينة من جديد، ومعهما يعيد اكتشاف ذاته، يكتب بروح طفلٍ متصالحةٍ مع القدر والزمن والفقد والذكريات، وقادرةٍ على المغامرة واستقبال الدهشة، والتقاط أدق التفاصيل البسيطة وبناء سردياتٍ جديدة منها.
في قصة “مراحل زينب” تبدو هذه السمات حاضرةً بكثافة، بكل ما فيها من تناقضاتٍ وشاعريةٍ وذكرياتٍ مؤلمةٍ وجميلةٍ: “جاء المرض على جسد زينب بالنحول الشديد، ولم يعد نفسه الجسدُ الذي استطاعت صاحبته تكتيفي بينما كنت مراهقًا، كي يستطيع الطبيب خياطة الجرح في إصبع قدمي دون بنج. كانت تكتف نصفي الأعلى وهي تبكي على صريخي الذي يُسمَّع وراق العرب كلها. كانت أنظف واحدةٍ تقريبًا في الحي، ولم تنجح قلةُ الفلوس في قفل ضحكتها”.
في هذه القصة، يستدعي الراوي ذكريات الطفولة لتخلق زمنًا وحياةً مغايرةً، قادرةً على طرد شبح الموت، حياةً يمتد فيها الزمن بقدر ما نعيشه من لحظاتٍ وخبراتٍ وتجاربَ وتفاصيلَ حميميةٍ وحقيقية، وليس بقدر أعمارنا المحدودة، فالسيرة في معظم قصص هشام أطول من عمر أصحابها بكثير، كأنها حياةٌ أبديةٌ قادرةٌ على البقاء والاستمرار طالما ظلّت حيّةً في ذكرياتنا، ومصاحبةً لنا فيما نعيشه.
“عمري ما رأيتها صغيرةً في السن، ولكن شعرتُ بخضةٍ عندما ارتدت نظارة، وبدأت تقوم بمشوارها للمطعم والخضري كل بضعة أيام، بعد أن كانت تذهب يوميًا. وعندما طلبت أن ترى أولادي، لم يكن باقيًا من شكلها القديم غير النظافةِ والرائحةِ الحلوة. صباح يوم الجنازة، نادَوا لي كي أساعد في حملها إلى النعش. رفضت أن أدخل البيت أمام استياء رجال العائلة. سألوا مستنكرين: أمال إحنا جايين ليه؟”.
رحلة العودة
رغم سعي هشام للاستقلالية في مشروع كتابته عن صورة الوالد إبراهيم أصلان، بحكم كون الكتابة مشروعًا فرديًا/ذاتيًا، فضلًا عن الحساسية لفكرة الإبداع بالوراثة التي يعاني منها كثير من أبناء المبدعين، إلا أن ظلال صاحب “مالك حزين” حاضرة في كتابات هشام، حضورٌ ممتد من مجموعته القصصية الأولى “شبح طائرة ورقية”، إلى مجموعته الجديدة “ثلاثة طوابق للمدينة”.
لكن الحضورَ هذه المرة أكثر كثافة، وتصالحًا، ورقةً، وحنينًا. حضورٌ واثق، مشحون بالمشاعر على مستوى الصداقة والأبوة، وحساسية اللغة والكتابة والخيال، والوفاء لذكريات مدينة الأب، حيث عاش معظم عمره في حي إمبابة قبل انتقالهم إلى ضاحية المقطم، هذه الرحلة التي نخوضها مرارًا مع بطل المجموعة، ونطوف معها عبر أكثر من طريق، أحياء كثيرة من القاهرة القديمة، بكل ما فيها من حيوية وحياة وضجيج وطبقات متراكمة من التاريخ.
“أنت الآن في الثمانين، وها أنا أجلس عند شاطئ النيل، أو النهر كما تحب أن تسميه، عند النقطة التي أظنها الأكثر اتساعًا على صفحة المياه، ربما هي النقطة ذاتها حيث كنت تتعلم السباحة ككل أبناء المدينة في تلك الأيام. تقبع جزيرة الزمالك في مواجهتي، أرى أنوارًا رفيعة في مقدمة خيالات غامقة لمبانٍ يبدو عليها الهجر، مرصوصة في عشوائية تتناقض مع طبيعة الحي الموغل في الأرستقراطية وراء ظهري، يصطف شريط البيوت البيضاء من عند الكوبري المعدني القديم وحتى مشارف حي الدقي، ألتفت إليها وأندهش من اصفرار لونها إلى هذه الدرجة، كانت بالأمس فقط شاهقة البياض. أنت قلت: يوحدون بيوت الحي الشعبي المطلة على النهر باللون الأبيض، حتى إذا نظر ساكنو الجزيرة، فيقابلهم المشهد نظيفًا”.