واصل معدل النمو السكاني في مصر تراجعه خلال الربع الأول من العام الحالي، مسجلًا أدنى مستوى في خمسة عقود. وهو ما اعتبرته وزارة الصحة والسكان نجاحًا تحقق بفضل استخدام وسائل الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة، لكنه في وجهه الآخر يحمل دلالات كبيرة على أوضاع اجتماعية واقتصادية يعايشها حاليًا القطاع الأكبر من المصريين، غيرت من تراث ممتد لقرون يؤمن بـ”العزوة” وأن “العيل بيجي برزقه”.
سجل عدد سكان مصر نموًا بنحو 293 ألف نسمة فقط، ليصل إلى 107.493 مليون نسمة في أول أبريل 2025 مقابل 107.2 مليون نسمة في أول يناير 2025، و104.4 مليون نسمة في أول يناير 2023. وتعني الأرقام الحكومية أن متوسط معدل النمو السنوي خلال الربع الأول من العام، بلغ نحو 1.34%، مقارنة بمعدل 1.4% عام 2024، و1.6% عام 2023.
وقد أرجعت وزارة الصحة تراجع الزيادة السكانية إلى التحسن الملحوظ في الخصائص السكانية التي تضمنت زيادة مساهمة المرأة بسوق العمل والتعليم، وزيادة نسبة التغطية الشاملة بالأطباء في مراكز الرعاية الصحية الأولية وتنمية الأسرة بالمحافظات التي وصلت لـ 80%، بعد أن كانت تعاني عجزًا شديدًا في عدد الأطباء قارب الـ 60%، وتوفير وسائل مجانية للصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة بجميع منافذ الخدمة الحكومية والجامعية والقطاع الخاص.
سؤال عن الضغوط الاقتصادية
تُفسر غادة والي، وزيرة التضامن السابق ووكيل للسكرتير العام لمنظمة الأمم المتحدة، تراجع معدل النمو السكاني بزيادة مساحة الحضر، وخروج مزيد من النساء للعمل، وتأخر سن الزواج ارتباطًا بغلاء العيشة، وارتفاع تكلفة الزواج تأثرًا بعادات بالية لم تعد تتناسب مع الأوضاع الاقتصادية للمصريين حاليًا.

وتقول في تعليق لها عبر “فيسبوك”، إن من الأسباب أيضًا ارتفاع معدلات الطلاق ارتباطًا بالعنف الأسري، إلى جانب البرامج المتعددة التي نفذتها الدولة لتنمية الأسرة وزيادة الوعي. لكنها، طالبت بأن يتم التعاطي حكوميًا مع هذا التراجع في النمو السكاني بتحسين الخصائص السكانية (نوع السكن، وحالة الملكية، وطبيعة الإقامة، ومصدر الكهرباء والماء، وغيرها)
بحسب المجلس المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة)، فإن معدلات الزواج لم تنخفض بشكل كبير، بل شهدت تراجعًا طفيفًا لا يفسر وحده انخفاض أعداد المواليد، وإن كان يعكس تأجيل الأزواج الإنجاب أو تقليل عدد الأطفال.
بلغ عدد عقود الزواج 961 ألفًا و220 عقدًا عام 2023 مقابل 929 ألفًا و428 عقدًا عام 2022 بنسبة زيادة قدرها 3.4%، لكن لم تصدر أي إحصائيات رسمية عن عام 2024 إلى الآن من قبل الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
الملاحظ في عام 2023 أن عقود الزواج بدأت في التراجع بداية من شهر يوليو الذي سجل 8.5% انتهاءً بديسمبر الذي بلغ 7.1%، وأن الزيادة في الزيجات كانت في فترة الإجازات المعتادة للمصريين بالخارج.
تربية الأطفال.. أعباء ضخمة
لكن يوجد متغير آخر لتراجع الزيادة السكانية في مصر يرتبط بتكاليف الإنجاب؛ إذ يوجد ارتباط وثيق بين الإنجاب والطبيعة المتغيرة للوضع الاقتصادي الذى يواجهه الشباب، وتنطوي تربية الأطفال على تكاليف مباشرة وغير مباشرة، ما يجعل الآباء يرون الأطفال مكلفين للغاية استجابة للضغوط المالية.
اقرأ أيضًا: لماذا تخلى المصريون عن “نصف دينهم”؟
يفسر ذلك الذروة الإنجابية التي تحققت عام 1961، حينما بلغ معدل النمو السكاني 2.8%، وحينها كانت الدولة مسؤولة بشكل تام عن المواطن وتكاليف التربية منخفضة.
حتى بين الرجال والنساء ذوي الدخول المنخفضة والتعليم المتدني – الذين كانوا يفضلون زيادة الإنجاب فيما مضي – فإن معادلة الإنجاب تغيرت، وصارت هناك مخاوف بشأن فرص عملهم في المستقبل، وبالتالي، هم لا يرغبون في إنجاب أطفال، لأن الأسرة كبيرة الحجم تعني مزيدًا من الفقر النسبي، والأسر التي لديها ثلاثة أطفال كانت في وضع مالي أسوأ بكثير من تلك التي ليس لديها أطفال أو تلك التي لديها طفل أو طفلان. وهذا يعني أن الإنجاب بات يتأثر بالعوامل الاقتصادية.
بعض الدراسات تشير إلى أن تفضيل الأزواج إنجاب طفل واحد أو طفلين تزايد في السنوات الأخيرة نتيجة للتضخم الاقتصادي وارتفاع الأسعار، فبدلًا من ميل الأزواج إلى إنجاب عدد كبير من الأطفال كالسابق، نظرًا لعدم وجود صعوبات اقتصادية، اضطر الأزواج إلى التقليل او الحد من الإنجاب.

ارتفع استخدام وسائل منع الحمل بمصر من 18.8% إلى 60.3%. كما وفرت السلطات حينها كميات هائلة من وسائل منع الحمل، وزادت الإعلانات التي تحث على الحد من المواليد، وفقًا لبيانات “يونيسيف”.
الطلاق والخلع.. أرقام في تزايد
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بلغ معدل الطلاق في مصر 2.5 في الألف عام 2023، و2.6 في الألف، و2.5 في الألف في عام 2021، و2.2 في 2020، و2.3 في الألف في 2019.
كما ارتفع عدد أحكام طلاق “الخلع” بنسبة 81.3% خلال 2023 على أساس سنوي مسجلًا نحو 8.684 ألف حجم من إجمالي الأحكام النهائية.
كانت أعلى نسبة طلاق في الفئة العمرية (25 – 30 سنة) بينما سجلت أقل نسبة طلاق في الفئة العمرية (75 سنة فأكثر) وقد بلغ متوسط سن المطلقة 34.4 سنة خلال 2023، وفق بيانات الجهاز، ويشير ذلك إلى أن الخلع يتركز في فترات ذروة خصوبة المرأة.
فيما يتعلق بفكرة العنف الذي تحدثت عنه غادي والي، يشير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى أن 11% مـن النسـاء بمصر تعرضن للعنف في تجربة الزواج مرة واحدة على الأقل، بينما كشف إحصاء عام 2015 أن ثلث نساء مصر يتعرضن للعنف من الرجل.
عمل المرأة.. عنصر مهم في معادلة الإنجاب
يمثل عمل المرأة عنصرا مهما في المعادلة، إذ تتضمن خطة الحكومة للعام 2023 رفع مشاركة الإناث فى القوى العاملة لـ24%، مقابل 14.3% عام 2020، لكن وزيرة التضامن الاجتماعي مايا مرسي قالت أخيرًا إن النساء تمثلن نحو 45% من القوى العاملة بمصر، وتشغل النساء 25% من المناصب القيادية.
بحسب آخر الإحصائيات الرسمية، سجّل معدل البطالة بين الإناث 16.6% من إجمالي الإناث بقوة العمل خلال الربع الأول من 2025 مقابل 18.2% في الربع السابق و17.7% خلال الربع المماثل من العام السابق.
هل توجد مخاوف؟

مصطفى عادل، الخبير الاقتصادي، يقول إن معدل الانخفاض في النمو السكاني بلغ 54% خلال 11 عامًا. وهو أعلى معدل انخفاض للنمو السكاني في مصر منذ بدء إحصاءات السكان الرسمية.
وقد بلغت نسبة النمو في القاهرة 0.59% على أساس سنوي خلال الربع الأول، بارتفاع بلغ 15 ألف نسمة ومعدل يومي وصل إلى 168 نسمة يوميًا. وكانت نسبة النمو في الإسكندرية نحو 0.58%، ولم يزد النمو في السويس عن 0.5%.

ويشير عادل إلى محافظات القاهرة والإسكندرية والسويس التي سجلت أدنى معدلات نمو سكاني منذ عقود، في وقت اقتربت محافظة بورسعيد من حالة تسمى “السكون السكاني” يعني لا نمو”.
لكن ماجد عثمان، مدير المركز المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة)، لا يرى أن انخفاض عدد السكان بمصر مثيرا للقلق فنحن مجتمع شاب، وعدد المواليد يبلغ حوالي 2 مليون سنويًا، في حين تبلغ الوفيات نحو 600 ألف، ما يعني أن عدد المواليد يفوق الوفيات بأضعاف.
أضاف أنه حال الوصول إلى معدلات توازن بين المواليد والوفيات، سيؤدي ذلك لاستقرار النمو السكاني: وإذا نظرنا إلى دول مثل إيطاليا وبلدان شرق أوروبا، سنجد أن المواليد فيها أقل من الوفيات، مما يشكّل مؤشر خطر، لكن مصر بعيدة تمامًا عن هذا السيناريو.
