"كنا بنزرع القصب واحنا مطمنين.. محصول مضمون.. بس الخساير أكتر من المكسب، بعد ارتفاع سعر السماد والمستلزمات الزراعية، ده غير أزمة نقص المياه اللي ضربت المحصول في السنين الأخيرة".
حسين عز مزارع من محافظة قنا، يعاني كغيره من مزارعين كُثُر في صعيد مصر من التحديات المتزايدة التي تواجه زراعة القصب، وهو ما اضطره -كما يكشف في حديثه لـ فكر تاني - إلى تقليص مساحة زراعة القصب، بعد أن تكبّد مصاريف باهظة، نتيجة تراجع تدفق المياه المتأثر ببناء سد النهضة، خاصة وأن الشركات لم تعد تشتري المحصول بأسعار عادلة، وقد أوقع هذا العديد من المزارعين في دائرة ديون متراكمة.
"واللي زاد الطين بلة هو انخفاض الإنتاجية"؛ يشير عز إلى إنتاجية الفدان الواحد التي كانت تبلغ نحو 40 طنًا، لكنها الآن لا تكاد تتجاوز 25 طنًا في بعض الأراضي، ويقول إن هذا الأمر دفع كثيرين إلى إعادة النظر في زراعة القصب من الأساس، وهو ما يُمكن أن يفسر أيضًا ارتفاع أسعار منتج السكر محليًا في الفترة الأخيرة.
بخلاف السكر، فإن كل الصناعات القائمة على زراعة قصب السكر تتأثر بانخفاض زراعته بالتبعية. يقول نقيب العمال بمصنع "إدفو" للورق عبد السلام الأمير إن "إنتاج صناعة الورق انخفض في الفترة بين 2020 لـ 2024 من مليون و200 أو 300 ألف طن إلى 850 ألف طن تقريبًا. بينما يلفت إلى أزمة كبيرة في هذا القطاع بسبب نقص المواد الخام نتيجة انخفاض كميات مخلفات قصب السكر المتاحة للصناعة".
شهد محصول قصب السكر تراجعًا ملحوظًا خلال الموسم الزراعي الأخير، بسبب عزوف عدد كبير من المزارعين عن زراعته، ما وضع عدة صناعات حيوية مثل صناعة الورق والسكر في مأزق، نتيجة تراجع كميات التوريد، وزيادة تكلفة الحصول على الخامات البديلة.
يوضح الأمير أن صناعة الورق في مصر تعتمد بشكل أساسي على مخلفات قصب القادمة من مصانع السكر، والمعروفة علميًا باسم "الباجاس". ولذا، فإن انخفاض إنتاج القصب ارتد بدوره على كميات الباجاس المتاحة لمصانع الورق، فتأثر الإنتاج بشكل مباشر وانخفض.
في حديثه لـ فكّر تاني، يشير الأمير إلى "محاولات لتعويض هذا النقص باستخدام مواد خام بديلة مثل سيقان الذرة"، إلا أن مثل هذه الحلول تصطدم دائمًا بارتفاع تكلفة النقل، ما يجعل استخدامها غير مجدٍ اقتصاديًا، وينصح بتكثيف جهود توعية العاملين في القطاع، بالتنسيق بين وزارتي الزراعة والتموين، حول أهمية توفير المواد الخام ودعم الصناعة المحلية.
يقول: "على الجهات المعنية سرعة التدخل لضمان توفير المواد الخام وسداد المستحقات المالية، بما يضمن استمرارية الإنتاج وتقليل الاعتماد على الاستيراد".
تراجع إنتاج قصب السكر تسبب في نقص حاد في المخلفات المستخدمة كمواد خام لصناعة الورق. وقد انعكس هذا التراجع مباشرة على المصانع التي تعتمد على هذه المخلفات كمصدر رئيسي للإنتاج. ومع تقلص كميات المواد الخام، انخفضت الطاقة الإنتاجية، ما أدى إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد في ظل تحديات مادية متزايدة، تُفاقم الضغوط على الصناعة المحلية وتهدد استمراريتها.
العمالة الموسمية
وعن أوضاع العمالة غير الدائمة، يوضح النقيب أن التشغيل يتم من خلال مقاولين، حيث يحصل العامل اليومي على أجر يتراوح بين 100 و150 جنيهًا، ويعمل في وظائف مساعدة داخل المصنع ولهم تأمين اجتماعي، إلا أن عقود العمل بين الشركات والمقاولين لا تضمن دائمًا حقوق العمال بشكل مباشر.
ويضيف أن "العمالة الموسمية في المصانع لا تقتصر فقط على سد احتياجات التشغيل المؤقتة، بل تُعد نوعًا من التدريب غير المباشر لتأهيل الأفراد للعمل الدائم داخل المصانع، وتُطبق هذه الطريقة منذ سنوات لمعالجة النقص في العمالة المؤهلة".

ويلفت الأمير، إلى أن هناك عمالًا انتظروا لمدة تصل إلى ثلاث سنوات قبل تعيينهم رسميًا، حيث يتم إعدادهم داخل المصنع ليكونوا جاهزين لشغل الوظائف المتاحة عند فتح باب التعيينات.. "يضم المصنع حاليًا نحو 750 عاملًا دائمًا، بالإضافة إلى 150 عاملًا موسميًا يتم تأهيلهم للعمل الرسمي لاحقًا".
هذه الفجوة الواضحة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك في مصر، يتحدث عنها نقيب العمال، فيقول: "لا يتجاوز الإنتاج المحلي 220 ألف طن سنويًا، تخرج من مصنع إدفو وشركة قنا للورق بالإضافة إلى بعض الشركات الصغيرة في 6 أكتوبر والعبور والعاشر من رمضان. ويصل الإنتاج المحلي لما يقارب 600 ألف طن؛ ما يستدعي استيراد نحو 400 ألف طن سنويًا بتكلفة تصل إلى 800 مليون دولار، أي ما يعادل 40 مليار جنيه مصري، يمكن أن تنفق لتطوير الصناعة المحلية".
وتعتمد المصانع المحلية على مصادر محدودة من المواد الخام، مثل مصاص القصب وفضلات الورق، لكنها لا تستغل بشكل كامل المخلفات الزراعية الأخرى. وهناك دراسات وتجارب أجريت لاستخدام مواد بديلة مثل سيقان الذرة، وسيقان الموز، وجريد النخل استفادةً من مبادرة 100 نخلة في توشكى وأثبتت نجاحها.
"أحد أبرز التحديات أمام تعميم هذه الحلول هو ارتفاع تكلفة نقل المخلفات الزراعية، إذ أن سيقان الذرة، على سبيل المثال، خفيفة الوزن وتشغل حيزًا كبيرًا، ما يجعل نقلها من المنيا أو بني سويف غير مجد اقتصاديًا"؛ كما يقول الأمير، الذي يضيف أن المزارعين يلجؤون في كثير من الأحيان إلى حرقها، ما يؤدي إلى أضرار بيئية كبيرة، في حين يمكن إعادة تدويرها والاستفادة منها. كما أن رفع الطاقة الإنتاجية لمصانع الورق المحلية والاستثمار في المعدات الحديثة يُمكننا من تقليل الاعتماد على الاستيراد بنسبة قد تصل إلى 50%، بما يخفف الضغط على العملة الصعبة ويدعم الصناعة الوطنية.
اقرأ أيضًا:لماذا تخلى المصريون عن العزوة؟
خسائر فادحة
في تصريح صحفي للدكتور أيمن حسني مدير معهد بحوث المحاصيل السكرية، كانت المساحة المزروعة لقصب السكر عام 2021/ 2022، 340 ألف فدان، لإنتاج 8 ملايين طن، بينما تراجعت المساحة المزروعة في عام 2023 عن الأعوام السابقة ليصل حجم الإنتاج 767.4 ألف طن، حسب دراسة منشورة في مجلة الاقتصاد الزراعي.
وفي عام 2024 انخفضت المساحة المزروعة ما تسبب في تراجع توريد القصب لمصنع شركة السكر والصناعات التكاملية من 750 ألف طن عام 2020 إلى 10 آلاف طن فقط في 2024، حسب تصريحات صحفية لعصام بديوي، الرئيس التنفيذي لشركة السكر والصناعات التكاملية المصرية.
في السنوات الأخيرة، شهدت محافظة قنا تناقصًا كبيرًا في زراعة قصب السكر، بعد أن كانت واحدة من أبرز المحافظات المنتجة له في مصر، فبات المزارعون يفضلون محاصيل أخرى، بحثًا عن عائد اقتصادي أكثر استقرارًا، في ظل تراجع الجدوى الاقتصادية لزراعة القصب، بجانب نقص المياه في بعض الأماكن.
يقول أحمد دندراوي مزارع آخر من قنا، لـ فكّر تاني، إنه قرر الاستغناء عن القصب لصالح زراعات بديلة مثل الذرة والبرسيم: "مفيش في فايدة من القصب، كنا بنتحمل في السنوات اللي فاتت لكن الحمل الآن تقيل علينا"، لافتًا أن الذرة أصبحت الأكثر طلبًا في الأسواق وتحقق ربحًا أفضل، كما أن البرسيم مطلوب لتربية المواشي ما يجعله مصدر دخل ثابت.
ويوضح دندراوي، أن القصب يحتاج إلى دورة زراعية طويلة تصل إلى عام كامل في حين أن المحاصيل البديلة يمكن حصادها في فترة أقل، ما يتيح للمزارع فرصًا لتحقيق مكاسب متكررة في العام، مضيفًا، بعض المزارعين بدأوا أيضًا في تجربة زراعة محاصيل جديدة مثل الفول والسمسم، بحثًا عن فرص أكثر استدامة.
توضح منى دكروني خبيرة واستشارية الزراعة الذكية مناخيًا والزراعات العضوية، أن انخفاض إنتاجية محصول القصب في محافظات الوجه القبلي وعلى رأسها سوهاج والمنيا، يعود إلى أسباب عدة، على رأسها ارتفاع درجات الحرارة وتذبذبها خلال فترات حيوية من النمو، ما أثر سلبًا على جودة المحصول وكفاءته.
وتضيف خبيرة الزراعة الذكية في حديثها مع فكّر تاني، أن الاعتماد على صنف أو صنفين فقط في الزراعة دون إدخال سلالات جديدة أدى إلى فقدان التنوع الوراثي اللازم لمقاومة الأمراض والآفات: "نواجه أمراضًا متكررة مثل التفحم السوطي وديدان القصب الصغرى والكبرى، خصوصًا في مراحل النضج المتأخرة، ما يصعب مكافحتها".
"ورغم محاولات مراكز البحوث والجهات المعنية إدخال طفيليات حيوية مثل "التريكودرما" لمكافحة الآفات، إلا أن فعالية هذه الحلول لا تزال محدودة، في ظل تكاثر الأجيال الجديدة من الآفات بسبب استمرار درجات الحرارة المرتفعة لفترات أطول من المعتاد".
وتشير منى دكروني إلى أن تكلفة الزراعة أصبحت عبئًا متزايدًا على المزارع، قائلة: "سعر شيكارة السماد الكيماوي وصل إلى 250 جنيهًا، ومع استهلاك القصب لكميات كبيرة، فإن تكلفة التسميد فقط قد تصل إلى 3000 جنيه للفدان، فضلًا عن تراجع جودة الأسمدة نفسها".
وتُرجع الخبيرة جزءًا من الأزمة إلى تدهور خصوبة التربة في مناطق الزراعة المستمرة، نتيجة غياب عمليات الإحلال والتجديد اللازمة باستخدام الأسمدة العضوية ففقدت الأرض الكثير من عناصرها الغذائية. كما أن أزمة المياه تلعب دورًا محوريًا، فتقول: "رغم توافر المياه في بعض المناطق، إلا أن سوء إدارتها واستخدام أساليب ري بالغمر يؤدي إلى إهدار كميات كبيرة منها، في حين تُعد تقنيات الري الحديث مثل الري بالتنقيط حلًا ممكنًا، لكنها ما تزال بعيدة المنال بسبب ارتفاع تكلفتها التي قد تصل إلى 300 ألف جنيه للفدان الواحد".
"تدخل الدولة لتوفير شبكات ري حديثة مدعومة ضرورة مُلحة، أو يمكن خصمها على أقساط من أرباح المزارع عبر مصانع السكر، لتشجيع الفلاحين على الاستمرار في زراعة المحصول وتقليل الفاقد من المياه، ولا تقتصر الأزمة على الإنتاج فقط، بل تمتد إلى عمليات النقل، إذ أن وجود مصانع السكر في مواقع محددة دون توسعة جغرافية يجعل من الصعب زراعة القصب في محافظات أخرى"، وتؤكد: "مُزارع المنيا مش هيشيل قصب ويوديه مصنع في قنا".
وتختتم منى حديثها بالتأكيد على أن استمرار الوضع الحالي دون إصلاح جذري في السياسات الزراعية، وإدخال سلالات جديدة مقاومة للتغيرات المناخية، سوف يؤدي إلى تراجع تدريجي في محصول القصب، ما يُهدد مستقبل الصناعات القائمة عليه، ومنها صناعة الورق التي تعتمد على بقايا عصر القصب كمادة خام أساسية.
اقرأ أيضًا:قانون الضمان الاجتماعي الجديد.. نواية تسند الزير
بحسب مصدر رفض التصريح باسمه وتحدث مع فكّر تاني، فإن الأزمات المادية في مصانع الورق في بعض الشركات مثل مصنع أبو قير بالإسكندرية، وهو في المرتبة الثالثة لصناعة الورق في مصر، بالإضافة إلى تهالك معداته التي تعود إلى الستينيات، وأكدت المصادر أن استمرار هذه الأزمات دون حلول واضحة يهدد استقرار الصناعة.
ويكشف المصدر أن الأزمة المالية التي تواجه الشركات ترجع بشكل أساسي إلى تأخر سداد المستحقات الحكومية، حيث بلغت قيمة الديون المستحقة لصالح المصانع مئات الملايين، ما أدى إلى عجز في توفير المواد الخام وتعطل عمليات الإنتاج.
ويوضح أن الشركات ورّدت نحو 25 ألف طن من الورق بقيمة تتجاوز الـ 230 مليون جنيه، إلا أن هذه المستحقات لم تصل إليها مباشرة حيث تمر بأكثر من جهة حكومية ما يعرقل عمليات السداد، مشيرةً إلى أن وزارة المالية تحصل على المبلغ المخصص للورق من وزارة التربية والتعليم، التي بدورها تمرره إلى المطابع الأميرية، ما يخلق فجوة إدارية تؤدي إلى تأخير الصرف.
"تسببت هذه الفجوة في أزمة سيولة خانقة، انعكست على قدرة المصانع على استيراد المواد الخام الأساسية مثل الورق المستورد، وبودرة التلك، ومواد التبييض ما يهدد استمرارية الإنتاج". كما أن أزمة الغاز تفاقمت نتيجة تأخر السداد، حيث وصلت مديونيات المصانع لشركات الغاز إلى 100 مليون جنيه، ما أدى إلى انقطاع الإمدادات في بعض الفترات.
وبحسب المصدر، تصل مديونيات الشركات لصالح وزارة التربية والتعليم إلى نحو 232 مليون جنيه، بينما تبلغ مستحقات الغاز الطبيعي حوالي 102 مليون جنيه، وقد تم الاتفاق على جدولتها، مع سداد 28 مليون جنيه منها بالفعل، تفرض هذه الأعباء المالية ضغوطًا كبيرة على القطاع، ما يستدعي البحث عن حلول تمويلية مستدامة لضمان استمرار الإنتاج وتطوير الصناعة، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة.
"تشهد صناعة الورق أزمة رغم أهميتها الاستراتيجية، حيث توفر لمصر أكثر من 500 مليون دولار سنويًا كانت تُنفق على استيراد الورق الأبيض للكتابة والطباعة، لكن تهددها الأوضاع الاقتصادية الحالية"، والأمل أن هناك اهتمامًا حكوميًا بدعم هذه الصناعة، حيث تم إجراء دراسات لبحث سُبل تطويرها وعقدت لقاءات مع الجهات المعنية لكن الأزمة المالية التي تمر بها البلاد تعيق تنفيذ هذه المشروعات.