منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر الماضي، وثّق فهد الغجر، البالغ من العمر 35 عامًا، عمله الخطير في إزالة الألغام عبر منشورات على فيسبوك، حيث نشر صورًا من مواقع مختلفة في سوريا.
في إحدى تدويناته، عبّر عن فخره بإزالة الألغام من أراضٍ زراعية تُستخدم لرعي الماشية، قائلاً: “أجمل شيء هو النهاية.” وفي منشور آخر كتب: “سوريا حرة، لكننا، فريق الهندسة، نفقد شخصًا كل يوم… في النهاية، نحن جميعًا ميتون؛ ما يهم هو تنظيف البلاد”.
وفي 21 فبراير، لقي الغجر مصرعه إثر انفجار لغم أثناء قيامه بتطهير مزرعة في شمال سوريا. ووفقًا لشقيقه عبد الجبار الغجر، فقد نجح فهد في تأمين المنزل، إلا أن لغمًا انفجر أثناء تفتيش الحقل، ما أدى إلى مقتله على الفور.
الغجر، وهو أب لأربعة أطفال، اكتسب خبرته في زرع وإزالة الألغام أثناء خدمته في الجيش السوري قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 2011. لكنه غادر الجيش لاحقًا وانضم إلى المعارضة الساعية لإنهاء حكم الأسد.
قال شقيقه: “لقد ضحى بنفسه لكي يعيش الآخرون”، مستذكرًا كلماته الدائمة: “تم تحرير البلاد، وعلينا نحن المهندسين أن نقف إلى جانب الناس، نزيل الألغام ونساعدهم على العودة إلى منازلهم”.
“سوريا حرة، لكننا، فريق الهندسة، نفقد شخصًا كل يوم… في النهاية، نحن جميعًا ميتون؛ ما يهم هو تنظيف البلاد”؛ فهد الغجر
وقد أشار أحدث تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، بالتعاون مع الشركاء الإنسانيين، أن نحو 1.2 مليون سوري عادوا إلى مناطقهم الأصلية منذ ديسمبر الماضي، بينهم أكثر من 885 ألف نازح داخليًا – معظمهم نزحوا بعد نوفمبر – إضافة إلى 292 ألف شخص عادوا من دول أخرى.
وأشار التقرير، الذي يغطي الفترة من 12 إلى 27 فبراير 2025، إلى أن أقل من 100 ألف شخص غادروا المخيمات في شمال غرب سوريا خلال الفترة ذاتها، وهو معدل منخفض نسبيًا.
ورغم تزايد أعداد العائدين، لا تزال الذخائر غير المنفجرة تشكل التهديد الأكبر لهم، إذ يقدر الخبراء أن بين 100 ألف و300 ألف من نحو مليون ذخيرة استخدمت خلال الحرب لم تنفجر بعد.
وقال بوجار هوكشا، مدير منظمة الإغاثة في سوريا، إن “الكثير من الأراضي السورية لا تزال مليئة بالألغام ومخلفات الحرب بعد 13 عامًا من الصراع”.
ألغام سوريا.. الأطفال أكثر الضحايا
التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة تؤكد أن الأطفال هم الأكثر عرضة لخطر الذخائر الحربية غير المنفجرة المنتشرة في أنحاء سوريا، وقد تم تسجيل أكثر من 540 شخصًا فقدوا حياتهم بسبب هذه المخلفات منذ ديسمبر الماضي.
وأفاد قسم مسؤولية العمل في مجال الألغام أنه منذ التحديث الأخير، لقي 17 شخصًا حتفهم، بينهم أربعة أطفال، وأُصيب 40 آخرون، بينهم 19 طفلًا، في 26 حادثة متفرقة، ما يرفع إجمالي الضحايا إلى 544، بينهم 200 حالة وفاة و344 إصابة، يشكل الأطفال ثلثهم.
ووفقًا لمنظمة “أنقذوا الأطفال”، التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرًا لها، تسببت الألغام الأرضية ومخلفات الحرب في مقتل 628 شخصًا، وهو أكثر من ثلثي إجمالي الضحايا في عام 2023. كما أفادت المنظمة بمقتل أو إصابة 188 طفلًا منذ الإطاحة بالرئيس بشار الأسد في ديسمبر.
ومن جهتها، أكدت منظمة اليونيسف أنها تلقت تقارير تفيد بمقتل أو إصابة 116 طفلًا بسبب الذخائر غير المنفجرة، حيث أشار ريكاردو بيريس، مدير الاتصالات في حالات الطوارئ باليونيسف، إلى أن “هذا العدد يعادل أربعة أطفال يوميًا، لكنه يُعتبر تقديرًا منخفضًا”.
وأشار التقرير إلى أن الحرب الأهلية التي استمرت 14 عامًا، وأسفرت عن مقتل أكثر من 500 ألف شخص وتشريد الملايين، خلفت نحو 324 ألف قطعة من الذخائر غير المنفجرة متناثرة في أنحاء سوريا.
وأضاف بيريس أنه خلال السنوات التسع الماضية، تم الإبلاغ عن ما لا يقل عن 422 ألف حادثة تتعلق بالذخائر غير المنفجرة في 14 محافظة سورية، وكان لها أثر مدمر على الأطفال.
وفي الأسبوعين الماضيين وحدهما، تم تسجيل 26 حادثة جديدة مرتبطة بهذه الذخائر، وقع 15 منها في الأراضي الزراعية أو مناطق رعي المواشي، فيما تسببت خمس حوادث بمقتل مدنيين كانوا يبحثون عن الكمأ. وفي إحدى الحوادث بمحافظة حماة، انفجر جسم غير متفجر، ما أسفر عن مقتل ثلاثة مدنيين على الفور.
أما في دير الزور، فيظل الوضع حرجًا بسبب ضعف خدمات الطوارئ وإعادة التأهيل، إذ تعاني المنشآت الصحية من أضرار جسيمة، وسط نقص حاد في التمويل.
وفي تصريح لصحيفة “الجارديان“، قال محمد سامي محمد، منسق برنامج إزالة الألغام في منظمة “الخوذ البيضاء”، إن إزالة الذخائر غير المنفجرة في سوريا قد تستغرق عقودًا، مضيفًا: “هناك دول انتهت فيها الحروب منذ 40 عامًا، ولا تزال غير قادرة على التخلص تمامًا من هذا التهديد، فما بالك بسوريا التي شهدت دمارًا غير مسبوق؟”.
وأكد محمد أن المتطوعين يبذلون جهودًا لتطهير الأراضي وجعلها آمنة لعودة السكان، إلا أن العديد منهم فقدوا حياتهم أثناء القيام بهذا العمل الإنساني.
دعوات لجهود دولية مكثفة لإزالة الألغام
وحذرت منظمة “هالو تراست“، أكبر منظمة مدنية لإزالة الألغام الأرضية في العالم، من أن الوضع في سوريا يستلزم جهودًا دولية ضخمة لإزالة الذخائر غير المنفجرة، مشددة على ضرورة تدريب العاملين في قطاع البناء على التعامل مع المتفجرات لاكتشاف علامات الخطر المحتملة.
وأشارت المنظمة إلى أن مع عودة العائلات إلى منازلها، يتعرض المئات للقتل، حيث يواجه الأطفال تهديدًا متزايدًا من القنابل العنقودية التي غالبًا ما يخطئون في اعتبارها ألعابًا.
ووفق تقرير للأمم المتحدة صدر الأسبوع الماضي، قُتل أو أُصيب 640 شخصًا نتيجة الذخائر غير المنفجرة، وكان ثلث الضحايا من الأطفال.
وقال ديميان أوبراين، مدير برنامج “هالو تراست” في سوريا: “الناس يُقتلون أو يُشوهون بانتظام”، مضيفًا أن قطيعًا من الأغنام دخل مؤخرًا إلى حقل ألغام، مما أدى إلى انفجار أحد الأجهزة، وأسفر عن مقتل عدد من الأغنام وإصابة الراعي بجروح خطيرة.
وأشار إلى أن الأطفال يفقدون حياتهم عند التقاطهم للقنابل اليدوية، كما أن عائلات اجتمعت لأول مرة منذ سنوات للاحتفال برمضان لقيت حتفها في منازلها السابقة بسبب هذه المخلفات القاتلة.
وأوضح أوبراين أن الجمعية تعمل على تدمير الألغام الأرضية والذخائر بأمان وبأسرع ما يمكن، لكنها تملك حاليًا فريقًا صغيرًا مؤلفًا من 40 خبيرًا فقط يعملون في شمال غرب سوريا، بينما تخطط المنظمة لتوسيع نطاق عملها عشرة أضعاف ليشمل البلاد بأكملها، وهو مشروع يتطلب تمويلًا يقدر بنحو 40 مليون دولار سنويًا.
من جانبه، أكد المتحدث باسم منظمة اليونيسف، جيمس إلدير، أن استثمار عشرات الملايين من الدولارات في إزالة الألغام يمكن أن يحدث فارقًا هائلًا، مضيفًا: “هذا الاستثمار سينقذ آلاف الأرواح، وهو عنصر أساسي إذا كانت سوريا ستعود إلى وضعها كدولة ذات دخل متوسط”.