خناجر كثيرة في ظهر نقيب الصحفيين خالد البلشي، إذ يخوض انتخابات التجديد النصفي، أمام النقيب الأسبق؛ عبد المحسن سلامة.
بعضٌ من تلك الخناجر، يسددها مؤيدوه ممن تغلبهم الحماسة أحيانًا، فينزلقون برعونة منفلتة إلى أخطاء تُنسب إلى البلشي، فيُحاسب “على المشاريب” خصمًا من أرصدته، فيما يستل خصومه خناجر أكثر مضاءً وحِدَّةً، في منافسة انتخابية تحررت من المبادئ الأخلاقية، رغم مناشدة المرشحيَّن مؤيديهما، التزام شرف الخصومة.
الخنجر الأخطر الذي يُسدَّده خصوم البلشي إليه، هو ادعاؤهم أنه “ليس على مزاج الدولة”، وبالتالي لن يقدر على انتزاع مكتسبات تتطلع إليها الجماعة الصحفية، وعلى رأسها زيادة بدل التكنولوجيا، الذي أصبح يفتح بيوت مئات الصحفيين، ويسد أرماق عيالهم.
على الضفة الأخرى تُغازل حملة سلامة الصحفيين، بأنه سيأتي لهم بزيادة غير مسبوقة، مدغدغًا مشاعر فريق كبير ممن فقدوا مصادر رزقهم، من جراء غلق المواقع أو حجبها، وشيوع صحافة الاستسهال و”الترند”، التي لا تحتاج كوادر كفؤة دؤوبة، فضلًا عن اختزال الخطاب الإعلامي مطبوعًا ومسموعًا ومرئيًا، في ترديد صدى صوت السلطة السياسية.
مؤيدو سلامة يروجون لأنه “سيجيب الديب من ديله”، رغم أن مسألة زيادة البدل غدت حتمًا مقضيًا، والمؤكد أنه سيُدرج ضمن موازنة السنة المالية الجديدة، لكن هكذا جرى تصميم حملته الانتخابية مبكرًا، وأغلب الظن أنه ما من خطاب بديل يمكن الدفع به لإقناع الجمعية العمومية بانتخابه.
ولعله من نافلة القول، أنه لا يجب من حيث المبدأ، أن يعتاش صحفيون بالاعتماد على البدل، بل لا بد أن تكون لهم وظائف، يحصلون بمقتضاها على أجور عادلة.
إن الحل في فتح الشبابيك والأبواب أمام حرية التعبير، بحيث تسترد الصحافة دورها
حرية الصحافة
من الهتافات البديعة الموجزة وذات السجع على سلم النقابة العريق، بشارع عبد الخالق ثروت: “عايزين صحافة حرة.. العيشة بقت مرة”.
الحرية ليست “دبوسًا ذهبيًا” يشبكه الصحفي بياقة سترته التوكسيدو، على سبيل التأنق، وإنما هي السبيل الوحيد، لتأسيس مناخ يتسنى فيه للموهوبين ممارسة المهنة، متحررين من تعليمات “رسائل السامسونج”.
عيشة الصحفيين “بقت مُرَّة”، لا بسبب هيمنة شبكات التواصل، وانصراف المتلقين عن المواقع الإخبارية التي تُجافي العصر وإيقاعه الرشيق، كما يتردد، وإنما لكساد الصحافة كنشاط اقتصادي.
هذا الكساد يرجع إلى انصراف القراء عن الصحف، بعد أن صار ما يُكتب هنا، يتردد هناك، وغدت هذه الوسيلة الإخبارية، لا تختلف عن تلك، حتى إن العناوين الرئيسية “المانشيتات” كثيرًا ما تتكرر بمنتهى اللزوجة، وكأن محررًا بعينه أو “مسؤولًا أمنيًا بعينه”، هو الذي يتولى سكرتارية التحرير في عموم المحروسة.
ماذا سيغري قارئ أن يبتاع صحيفة ورقية “مستنسخة”؟
ولماذا يزور هذا الموقع أو ذاك ما دام المطروح هنا مطروحًا هنالك؟
ولماذا تتحمل الصحف رواتب جيوش من الصحفيين لا شغلة لهم ولا مشغلة إلا تلقي البيانات المعلّبة عبر البريد الإلكتروني؟
على هذا الأساس، فإن وعود سلامة برفع البدل، تعالج الأزمة من خارجها، ولا تتغلل إلى أعماقها، على عكس البلشي الذي بادر منذ أصبح نقيبًا إلى حلحلة مشكلات عديد من المواقع المحجوبة، ومن ثم دارت العجلة نسبيًا، ومع دورانها وجد صحفيون فرصهم، وتحسنت أوضاعهم المادية بدرجة لا بأس بها.

الحرية هي لب المشكلة، أو بتعبير أوديب في رائعة سوفوكليس، هي “أصل الدنس”، وما نعلمه يقينًا أنها لم تكن في دائرة اهتمامات سلامة حين كان نقيبًا، بل إن تصريحًا له يبرر غلق المواقع باعتبارات الأمن القومي، وهو تصريح جدير بأن يطلقه مخبر بوزارة الداخلية، وليس نقيبًا لمهنة “الرأي”.
الغريب أن مطالب البلشي برفع سقف الحريات، رغم ارتباطها الحتمي بتحسين الأوضاع الاقتصادية للصحفيين، على المدى القصير والطويل معًا، ووفق منهج يكفل الديمومة، كثيرًا ما يعتبرها خضومه تصادمية أو غير منطقية.
من المؤسف أن البعض يريد أن يحصل على السمكة، كما لو كانت منةً ومكرمة، لا أن يدله أحدهم على الشاطئ الملائم لممارسة الصيد.
اتهامات مسبقة ولاحقة
واللافت أن الطعن في البلشي لا يقتصر على مسألة البدل فحسب، فالدأب على تصويره خصمًا أو “معاديًا” للدولة، انطلق حتى قبل أن يحقق المفاجأة بفوزه في انتخابات الدورة الماضية.
مما قيل زورًا في هذا الصدد، أنه سيحول النقابة إلى تنظيم ثوري، وقد كانت مرجعياته الأيديولوجية اليسارية من أبواب الهجوم عليه، حتى بدا أمام قطاع من المتوجسين والمترددين، كما لو كان من “الاشتراكيين الثوريين” أو “الأناركيين”، وهذا غير صحيح على طول الخط.

كان المراد إذن أن يوضع البلشي في خانة أنه “خطر على مصالح الجماعة الصحفية”، فهو “ثورجي متشدد يفتقر للمرونة كشأن معظم اليساريين”.
لدى الحديث عن انحيازات البلشي الأيديولوجية، يبدو أن البعض يستقي معلوماته عن اليسار، من فيلم “السفارة في العمارة”.
ثم قيل بعد فوزه إنه سينحاز إلى “أهله وعشيرته” من المؤيدين، ولن يراعي مصالح معارضيه، فإذا بتواجده طيلة الوقت في مكتبه المفتوح على مصراعيه، خلافًا لمن سبقوه الذين كانوا يلفون سبع لفَّات على شاشات الفضائيات، ويتولون المناصب الرفيعة ذات المسؤوليات الشاقة “والرواتب المجزية”، ينفي تلك الافتراءات.
بشهادة المنصفين من خصومه، لقد توخى البلشي أن يكون نقيبًا يعبر عمن يخالفونه ويعارضونه، مثلما هو نقيب لمن يؤيدونه ويؤازرونه.
خصومه يطرحون السؤال عن إنجازاته بصيغة استنكارية هدفها النفي، وذلك دعمًا لمرشح يعدهم بزيادة البدل زيادة تاريخية، وكفى الله المقاتلين دفاعًا عن الحرية، أو قل عن وجود الصحافة شر القتال.
إن زيادة البدل ليست أكثر من حبة مسكن ذات مفعول مؤقت، سرعان ما سيزول مع معدلات التضخم المتسارعة، لتُستعاد الثنائية القبيحة مع كل انتخابات: “سأعطيكم فانتخبوني”، وهي ثنائية لا تليق بالصحفيين، ولا تتسق مع المكانة المعنوية لمهنة حمل القلم.
مرةً ثانيةً، إن الحل في فتح الشبابيك والأبواب أمام حرية التعبير، بحيث تسترد الصحافة دورها فلا تقتصر على البيانات التعبوية، وتشتبك مع واقعها بما يمور فيه من متغيرات، فتجتذب الجمهور المنصرف عنها، إلى الفضائيات المعارضة أو “الإخوانية” أو “العميلة” بالخارج -سمها ما شئت- وعندئذٍ فقط ستتحسن اقتصادياتها، ومن ثم ستتحسن أجور العاملين بها.
وضع الحصان وراء العربة لا يمكن أن يتيح لها أن تتحرك للأمام.
وما يقال في العموم عن رفع سقف حرية التعبير، الذي لم يكن منخفضًا كما هو الآن، ينسحب أيضًا على إطلاق سراح سجناء الرأي من الصحفيين، هذا إذا تحدثنا من منطلق فئوي، وإطلاق سراحهم بغير استثناء إذا تحدثنا كصحفيين، ننشد مصلحة الوطن بأسره.
المسألتان متصلتان اتصالًا حتميًا، كاتصال الجنين في رحم أمه بالحبل السُّري.
هجوم على خلفية الموقف الأخلاقي من غزة
وبعيدًا عن ذلك، هنالك هجوم موازٍ على البلشي، مرده الحراك السياسي الذي تشهده وشهدته النقابة، إبَّان حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة.
يتشدق المتشدقون ويتنطع المتنطعون، بأن النقابة لم تكن أبدًا مسيسة، ومن ثم لا ينبغي أن تخوض هذا الغمار.

والمثير للسخرية أن معظم أولئك المتشدقين المتنطعين، ينطلقون من أن موقف النقابة يحرج السلطة السياسية، فإذا بحالهم مثل حال الدبة التي قتلت صاحبها، فالنخبة السياسية النافذة، وأصحاب القرار من بينهم، لا يمكن أن يشعروا بالحرج من أن نقابة الحريات المصرية، تجهر برفض العدوان على الأشقاء، إلا لو كانوا موافقين على هذا العدوان.
لا ننسى أن “لو” حرف امتناع لامتناع.
إزاء ذلك فإن ما يتلمَّظون به، يغدو والعدم سواء، وأغلب الظن أنه حتى إذا كان النظام المصري، لا يبدي التشدد المناسب إزاء العدو، نظرًا لاعتبارات وتشابكات يعتبرها موضوعية، ولضغوط تعهداته وظروف الاقتصاد المعتمد إلى حد كبير على القروض، فإن نقابة الصحفيين المتحررة من هذه القيود، تستطيع أن تجهر عاليًا بما لا يجهر به.
تأييد البلشي هو انحياز أخلاقي لا علاقة له بشخصه، وإنما إلى ما يحاول تحقيقه، وما يسعى لإحرازه من مكتسبات ترفع سقف الحرية
ثم إن مقولة أن النقابة ليست مسيسة تبدو بحقٍّ من الخزعبلات، فمن الذي يشتبك مع الواقع السياسي إذا سكت الصحفيون؟
النقابة غير مسيسة بمعنى أنها لا تتبنى أيديولوجيا أحادية تفرضها على أعضاء جمعيتها العمومية، ففيهم الليبرالي واليساري والإسلامي وغير ذلك، لكنها بحكم طبيعة المهنة التي تمثلها، لا تنفصم عن السياسة في حالتي الديناميكية والاستاتيكية، وفي ما يتعلق بفلسطين تحديدًا، ما كان ممكنًا ولا مقبولا أن يغيب صوت جموع الصحفيين، الذي يعبر بالضرورة عن “ضمير مصر”.
هنا لا فضل للبلشي بالطبع، فموقف النقابة منبثق أصلًا من مواقف أعضاء جمعيتها العمومية، وليس بوسع البلشي أو غيره الحجر على ذلك، إلا إذا عدنا إلى “تكفين مبنى النقابة” مجددًا.
إن ما يقال بشأن تسبب موقف النقابة في إحراج السلطة المصرية، يمثل إدانة ضمنية لهذه السلطة، وليست لنقابة الصحفيين التي تؤدي دورها الوطني والإنساني الأخلاقي، كما يتسق مع تاريخها النضالي الطويل.
ترديد خرافة إحراج السلطة، تستدعي مقولة السادات: “هؤلاء يستحقون محاكمتهم بتهمة الغباء السياسي”.
تأييد البلشي هو انحياز أخلاقي لا علاقة له بشخصه، وإنما إلى ما يحاول تحقيقه، وما يسعى لإحرازه من مكتسبات ترفع سقف الحرية، بما ينعش أو يعيد إحياء “صناعة الصحافة”، وهو الأمر الذي لا ينبغي أن يكون محل خلاف بين صحفي وصحفي.
