في ظل تصاعد التوترات الإقليمية وتزايد الاستقطاب الدولي، تتجه الأنظار نحو منطقة المغرب العربي، حيث تسعى إيران إلى ترسيخ موطئ قدم لها في شمال إفريقيا.
ورغم التحركات الدبلوماسية المكثفة والزيارات المتبادلة رفيعة المستوى بين طهران والجزائر وتونس، إلا أن تقريرًا حديثًا صادرًا عن المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI) يكشف عن وجود عقبات جوهرية تحد من طموحات التوسع الإيراني في المنطقة، مسلطًا الضوء على دوافع إيران ومساعيها في المغرب العربي، مستعرضًا في الوقت ذاته التداعيات المحتملة لهذه التحركات على مستقبل المنطقة.
إيران وتوسيع النفوذ
سعت إيران في السنوات الأخيرة إلى تعزيز حضورها في شمال إفريقيا عبر قنوات دبلوماسية مكثفة، مستفيدةً من التحولات الجيوسياسية في المنطقة، حيث شكلت زيارة وفد إيراني رفيع المستوى، برئاسة إبراهيم عزيزي، رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان إلى الجزائر وتونس، خطوة متقدمة نحو إعادة تفعيل العلاقات مع البلدين.
وتزامنت هذه الزيارة مع اجتماعات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بنظيريه الجزائري أحمد عطاف والتونسي نبيل عمار على هامش المنتدى العالمي العاشر لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة في لشبونة.
وتُعَد هذه التحركات جزءًا من سياسة إيران التي تهدف إلى إعادة التموضع في المنطقة، خاصة في ظل الضغوط التي تواجهها طهران نتيجة تصاعد الضربات الإسرائيلية، وتراجع نفوذ حزب الله في لبنان، والاضطرابات المستمرة في سوريا، وعلى هذه الخلفية، ترى إيران في منطقة المغرب العربي، بموقعها الاستراتيجي الرابط بين أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، فرصة لتعزيز تحالفاتها وتوسيع نطاق تأثيرها الجيوسياسي.
تاريخ متقلب وتحولات جديدة
شهدت العلاقات الإيرانية-الجزائرية مسارًا متغيرًا عبر العقود الماضية، حيث مرت بفترات انقطاع وتوتر، لا سيما خلال الحرب الأهلية بالجزائر، وأثناء ذلك وُجِّهت اتهامات لطهران بدعم المتمردين الإسلاميين، إلا أن العلاقات الدبلوماسية أُعيدت عام 2000، ومنذ ذلك الحين، حرصت الدولتان على تعزيز التعاون في مجالات متعددة، أبرزها العلاقات التجارية والتنسيق السياسي في القضايا الدولية، مثل الموقف المشترك من إسرائيل والتقارب مع روسيا.
ورغم التقارب السياسي، فإن العلاقات الاقتصادية بين البلدين ظلت غير مستقرة، فقد بلغت صادرات إيران إلى الجزائر 67.4 مليون دولار في عام 2021، مقارنة بـ 30.2 مليون دولار في 2016، ما يعكس معدل نمو سنوي بنسبة 17.4٪ خلال خمس سنوات، بينما بقيت صادرات الجزائر إلى إيران محدودة.
وفي عام 2023، شهدت العلاقات زخمًا متزايدًا عبر زيارات رفيعة المستوى، من بينها زيارة وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف إلى طهران في يوليو من نفس العام ثم تلتها -في شهر أغسطس- زيارة رئيس مجلس النواب الجزائري إبراهيم بوغالي.
وخلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الجزائر لحضور منتدى الدول المصدرة للغاز في مارس 2024، تم توقيع عدة مذكرات تفاهم شملت مجالات الطاقة والصناعة والتكنولوجيا والزراعة، إلى جانب إعلان نية إلغاء متطلبات التأشيرة بين البلدين، رغم عدم تنفيذ القرار حتى الآن.
أما على الجانب التونسي، لطالما اتسمت العلاقة مع إيران بالتذبذب، فعقب الثورة الإسلامية عام 1979، شهدت العلاقات توترًا دفع تونس إلى قطعها عام 1987 خوفًا من تنامي النفوذ الإسلامي، ومع ذلك، أُعيدت العلاقات خلال حكم زين العابدين بن علي، واستمرت حتى بعد ثورة 2011.
ثم شهدت العلاقات التونسية-الإيرانية تحولًا لافتًا مع زيارة الرئيس قيس سعيد إلى طهران في مايو 2024 لحضور جنازة إبراهيم رئيسي، في خطوة غير مسبوقة منذ زيارة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة عام 1965.
وجاء اللقاء الأخير ليعكس تغيرًا تكتيكيًا في السياسة الخارجية التونسية، وسط مؤشرات على تقارب متزايد بين البلدين، تتجسد في تعدد اللقاءات والاجتماعات بين المسؤولين التونسيين والإيرانيين خلال السنوات الأخيرة.
هذا التقارب يثير تساؤلات حول توجهات تونس المستقبلية في علاقاتها الخارجية، خاصة في ظل التوازنات الإقليمية الدقيقة، واحتمالات أن يشكل تعزيز التعاون مع إيران نقطة خلاف مع شركائها التقليديين، سواء في العالم العربي أو على المستوى الدولي.
اقرأ أيضًا:ماذا تعني اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الروسية الإيرانية؟
تقاطع المصالح والطموحات الإقليمية
يأتي انخراط إيران في المغرب العربي متوافقًا مع استراتيجيتها الأشمل لتعزيز نفوذها في القارة الأفريقية. فمنذ وصول إبراهيم رئيسي إلى السلطة، استعادت إفريقيا موقعها المتقدم في أولويات السياسة الخارجية لطهران.
وكانت جولته في يوليو 2023 إلى كينيا وأوغندا وزيمبابوي أول زيارة لرئيس إيراني إلى القارة منذ عقد، ما عزز توجه بلاده نحو توسيع علاقاتها الإفريقية، ويبدو أن خليفته، مسعود بزشكيان، قد صمم على استكمال هذا المسار، مستندًا إلى الديناميكيات التي أسسها رئيسي.
وبينما تواصل طهران محاولات دفع مسؤوليها لتوسيع شراكاتها الاقتصادية -ما ظهر جليًا في مؤتمرات التجارة بين إيران وأفريقيا- إلا أن إجمالي التبادل التجاري بين الجانبين ما يزال محدودًا فقد بلغ 1.3 مليار دولار في 2023. لكن تُصر إيران على التأكيد على النوايا معتمدةً في خطابها على مناهضة الغرب، خاصة في ظل موجة الانقلابات التي أطاحت بحكومات حليفة لفرنسا والولايات المتحدة في منطقة الساحل والقرن الأفريقي.
إلى جانب المسار الاقتصادي، عززت إيران جهودها لتقديم نفسها كمصدر رئيسي للأسلحة للدول الأفريقية، لا سيما تلك التي تواجه عقوبات غربية، وأثبتت قدرتها على تزويد مناطق الصراع بمعدات عسكرية منخفضة التكلفة، مثل الطائرات المُسيّرة التي استخدمتها إثيوبيا والسودان، ما يؤدي إلى تصاعد نفوذها في المجال العسكري بالقارة.

تداعيات إقليمية
يعكس الانفتاح الإيراني على الجزائر وتونس سعي طهران إلى تجاوز عزلتها الدولية وتوسيع رقعة نفوذها غربًا، متجاوزة حدود الشرق الأوسط، فمع تراجع تأثيرها في غزة ولبنان وسوريا بعد أحداث 7 أكتوبر، باتت إيران بحاجة إلى إعادة تموضع دبلوماسي يتيح لها تنويع تحالفاتها وتعزيز مكانتها في سياق جيوسياسي متطور.
فعلى المستوى السياسي، تستفيد إيران من سياسة عدم الانحياز التقليدية التي تنتهجها الجزائر، ومن البراجماتية التونسية في العلاقات الخارجية، ما يتيح لها بناء علاقات مع البلدين دون أن تفرض عليهما الدخول في تحالفات مثيرة للجدل.
أما على الصعيد الاقتصادي، فتسعى إيران إلى الالتفاف على العقوبات الغربية عبر الوصول إلى أسواق جديدة، وتشكل الجزائر، بفضل مواردها الضخمة من الطاقة، شريكًا واعدًا لطهران، حيث وقع البلدان عدة اتفاقيات خلال زيارة رئيسي للجزائر في مارس 2024، كما أبدت تونس اهتمامًا بتوسيع علاقاتها التجارية مع إيران، حيث بحث الطرفان فرصًا جديدة للشراكة في الأشهر الأخيرة.
بالنسبة للجزائر، فإن تعزيز العلاقات مع إيران يحمل بعدًا استراتيجيًا مهمًا، لا سيما في ظل شغلها مقعدًا غير دائم في مجلس الأمن الدولي، ويمنحها التقارب مع طهران مساحة أوسع للمناورة الدبلوماسية، كما يشكل ورقة ضغط في مواجهة النفوذ المتزايد للمغرب، الذي عزز تحالفاته مع دول الخليج، ووقع اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل بموجب "اتفاقيات إبراهيم"، وهي خطوات تلقى معارضة شديدة من الجزائر.
في هذا السياق، يمثل التحالف مع إيران بالنسبة للجزائر خطوة رمزية تعزز مواقفها المعادية لإسرائيل وتوفر توازنًا أمام النفوذ الخليجي في المنطقة، ورغم أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين ما زالت محدودة إلا إن البعد السياسي والدبلوماسي لهذا التقارب يمنح الجزائر أداة إضافية لتعزيز دورها كفاعل رئيسي في الدبلوماسية الأفريقية والعربية، بما يتماشى مع الخطاب الإيراني المناهض للغرب وإسرائيل.
دعم البوليساريو وتوتر العلاقات مع المغرب
يتسم التقارب الإيراني-الجزائري بتعقيدات جيوسياسية، أبرزها مزاعم دعم طهران لجبهة البوليساريو، التي تطالب باستقلال الصحراء الغربية تحت راية "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" المعلنة ذاتيًا، والتي سبق أن اعترفت بها إيران عام 1980.
هذه المزاعم، التي دفعت المغرب إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران عام 2018، تدور حول اتهامات بتقديم دعم غير مباشر للجبهة عبر حزب الله، ورغم غياب أدلة قاطعة على تورط إيراني مباشر، فإن مجرد وجود هذا التصور يمثل رسالة استراتيجية للرباط، تعكس رغبة طهران في إعادة رسم توازنات النفوذ في شمال أفريقيا.
في المقابل، وفّرت الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها تونس تحت حكم الرئيس قيس سعيد فرصة لتعزيز العلاقات مع إيران، في إطار إعادة تموضع دبلوماسي محتمل، بالنسبة لسعيد، يتقارب هذا مع توجهه المناهض للهيمنة الغربية، حيث يضفي بعدًا أيديولوجيًا على سياسته الخارجية، ويعزز صورته كزعيم يسعى إلى تنويع تحالفات بلاده وتأكيد سيادتها.
ومن منظور اقتصادي، تواجه تونس تحديات كبيرة تتطلب دعمًا خارجيًا، ما يجعل إشراك إيران -حتى وإن كان محدودًا- بمثابة ورقة ضغط رمزية في المفاوضات مع القوى الغربية والخليجية، بينما قد تجد نفسها مضطرة لتقديم مزيد من المساعدات لتقويض أي نفوذ محتمل لطهران في شمال أفريقيا.
اقرأ أيضًا:هل تضرب إيران إسرائيل مجددًا؟
عقبات اقتصادية وتباينات استراتيجية
ورغم المصالح المشتركة التي تجمع إيران بهذه الدول، تظل هناك عقبات تحد من فرص تعميق العلاقات على المدى الطويل، حيث ما زالت هناك فجوات تاريخية واختلافات إيديولوجية تحدّ من قدرة طهران على تعزيز نفوذها، فضلًا عن محدودية إمكاناتها الاقتصادية، التي تجعل من الصعب عليها تقديم استثمارات أو مشاريع تجارية كبرى.
بينما تبقى الشراكة مع إيران في الجزائر ذات طابع رمزي أكثر منها عملي، إذ تفضّل العديد من النخب السياسية والاقتصادية في البلاد توثيق العلاقات مع السعودية، التي تُعد شريكًا أكثر تأثيرًا واستقرارًا من إيران.
أما تونس، فرغم تقاربها النسبي مع طهران، فإنها تعتمد نهجًا حذرًا وبراجماتيًا، مدركة أن إيران لا تملك القدرة على تقديم حلول لمشاكلها الاقتصادية العميقة، لذا، فإن انفتاحها على طهران يبدو كخطوة تكتيكية لتحسين شروط تفاوضها مع شركائها التقليديين، أكثر منه تحوّلًا استراتيجيًا في سياستها الخارجية.
من ناحية أخرى، يطرح مستقبل النظام السوري الحالي تساؤلات حول قدرة طهران على الحفاظ على تحالفاتها الإقليمية، فإذا نظرنا إلى ما لاحظته، الباحثة الزميلة في معهد بروكينجز، شاران جريوال: "أن عجز إيران أو عدم رغبتها في مساعدة حليفها القوي بشار الأسد في لحظة أزمته قد يُضعف الحماس للتحالف معها"، فإن الحذر الذي تبديه دول شمال إفريقيا تجاه التطورات في سوريا يشير إلى أن دوافع التقارب مع إيران ما تزال قائمة، مدفوعة بمحاولة تنويع التحالفات في عالم متعدد الأقطاب يشهد تحولات متسارعة في موازين القوى.