"الرفا والإسكافي".. مؤشر غير تقليدي على التضخم في مصر

مع حلول شهر ديسمبر المنقضي، أحس عماد حمدي، محاسب في شركة مواد غذائية (25 عامًا)، بصقيع بارد يلفح جسده خلال ساعات الصباح الأولى، بينما كان يتجه إلى عمله. وحين عاد إلى منزله، أخرج من دولاب الملابس الجاكيت الأسود المصنوع من الجلد الطبيعي، الذي اشتراه قبل عامين بمبلغ 1500 جنيه. لكنه سرعان ما تذكر أنه أصبح في حالٍ مزرية.

بهت لون الجاكيت وتمزقت بطانته الداخلية، فبحث عن الجاكيت البني اللون، المصنوع من الجلد الاصطناعي، الذي اشتراه من أحد المتاجر الشتاء الماضي بمبلغ 650 جنيهًا، وخاب أمله حين اكتشف أن طبقته الخارجية بدأت بالتقشر، فلم يعد صالحًا للارتداء.

بحث عماد على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" عن أسعار "الجواكيت" الجلدية، وصُدم من الأسعار التي تتراوح بين 2500 و3000 جنيه للجاكيت المصنوع من الجلد الطبيعي، ونحو 700 إلى 1500 جنيه للمصنوع من الجلد الصناعي. أدرك أنه بعد استقطاع قيمة أجرة المواصلات وقسط الجمعية التي يسددها لشراء الأثاث الخشبي لشقة الزوجية بعد مرور 6 أشهر، لن يتبقى من راتبه سوى 2500 جنيه بالكاد سيكمل بها شهره.

اقرأ أيضًا: المصريون على قائمة ياميش رمضان.. "فقرا أوي"

بحسب المجلس التصديري للجلود والأحذية والمنتجات الجلدية، تراجعت واردات مصر من الجلود والأحذية والمصنوعات والملابس الجلدية بنسبة 17.1% خلال النصف الأول من عام 2023 بسبب أزمة الدولار.

قبل شهرين، كان عماد يسعى لإيجاد وظيفة إضافية يعمل بها خلال الفترة المسائية، لكنه لم ينجح في الحصول على واحدة. شعر بالإحباط بسبب اهتراء ملابسه الشتوية الثقيلة وتراجع قدرته الشرائية في ظل التضخم والارتفاع الجنوني للأسعار. وبينما كان يتصفح موقع "فيسبوك"، وجد إعلانًا لأتيليه في منطقة الحلمية الجديدة بالقاهرة يصلح الجواكيت الجلدية ويعيدها إلى حالتها الأولى. ولدهشته، وجد العديد من الزبائن في المتجر الصغير، وعشرات الثياب الجلدية التي تنتظر دورها ليتم إصلاحها.

أخبره الفني أن الجاكيت المصنوع من الجلد الطبيعي يحتاج فقط إلى تغيير بطانته نظير 200 جنيه، وعليه أخذه إلى المدبغة ليتم رشه وطلاؤه باللون الأسود اللامع بسعر 60 جنيهًا فقط، وسيكون جاهزًا ليستلمه خلال 3 أيام. أما الجاكيت المصنوع من الجلد الاصطناعي فسيحتاج إلى تغيير جلده مقابل 300 جنيه، ويمكنه الحضور لاستلامه بعد أسبوعين.

بحلول موعد الاستلام، كان عماد قد حصل على معطفين جلديين جديدين نظير 560 جنيهًا، وأصلح نعل حذائه الرياضي المتشقق مقابل 40 جنيهًا أخرى.

الإسكافي.. مهنة تعود للحياة

لسنوات، عانى الإسكافي أحمد البوصي من ندرة الزبائن الذين يقصدون محله لتصليح أحذيتهم وحقائبهم القديمة والجواكيت الجلدية. لكن خلال العامين الماضيين، لاحظ زيادة كبيرة في معدلات الإقبال على خدماته، بسبب ارتفاع أسعار الأحذية الجديدة التي تتراوح بين 450 و1500 جنيه في المتوسط.

هذا الارتفاع دفع الكثيرين إلى تصليح أحذيتهم القديمة بدلًا من شراء الجديد، إذ أصبح التخلص من الأحذية القديمة أمرًا مستبعدًا. حتى أنه اضطر بعد سنوات من العمل بمفرده إلى الاستعانة بشاب صغير يعلمه المهنة ويساعده في تلبية الطلب المتزايد، خاصةً وأن بعض الزبائن يريدون أحذيتهم في اليوم نفسه لعدم امتلاكهم بديلًا.

لاحظ البوصي أن ارتفاع الأسعار دفع الزبائن إلى شراء الأحذية الرياضية الرخيصة التي تباع على الأرصفة بـ 150 جنيهًا، لكنها سرعان ما تتلف بسبب خاماتها الرديئة، مما جعلهم يلجأون إلى إصلاح أحذيتهم القديمة. كما زادت الطلبات على إصلاح حقائب اليد، وتجديد أحذية "البوت" و"هاف بوت" التي تعرضت للتقشير، بالإضافة إلى تغيير الكعوب أو إصلاحها، وهي خدمات نادرة في السنوات السابقة.

يعتقد البوصي أن هذا الإقبال أعاد نشاط مهنة "الإسكافي"، وأدى إلى توسع بعض المحال العاملة في المجال، حيث افتتحت بعضها فروعًا في 7 مناطق، بما فيها الكمبوندات السكنية. يعتبر ذلك مؤشرًا على زيادة الطلب على الخدمة ووجود مردود مالي جيد، مع تنوع الأنشطة لتشمل إصلاح الحقائب والسترات الجلدية أيضًا.

بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، ارتفعت أسعار مجموعة إصلاح الأحذية بنسبة 22.7% على أساس سنوي في نوفمبر 2024 مقارنة بنوفمبر 2023، وبنسبة 1.3% على أساس شهري (نوفمبر 2024 مقارنة بأكتوبر 2024).

إصلاح ملابس وحقائب المدارس

قبل أسبوع من بداية العام الدراسي، وجدت منى السيد، مصممة جرافيك (36 عامًا)، نفسها عاجزة عن توفير المال اللازم لشراء أزياء مدرسية، وأحذية رياضية، وحقائب جديدة لأطفالها الثلاثة.

حاولت إخبارهم بعدم قدرتها على الشراء للعام الثاني على التوالي، لكن رؤية اهتراء مستلزماتهم القديمة زادت من معاناتها.

كانت ملابس أطفالها ممزقة؛ بنطال ابنها الأكبر تمزق عند الركبة، وقميص شقيقه الأصغر قُطع عند المرفق، بينما تلف سحاب جاكيت شقيقتهما. كما تشققت الأحذية الرياضية أو تقشر جلدها. أما الحقائب المدرسية، فكانت متسخة واهترأ بعضها رغم محاولات تنظيفها.

حين شعرت بالإحباط، اقترحت شقيقتها عليها إصلاح المستلزمات بدلًا من شراء الجديد.

في حي شبرا، توجهت منى إلى محل لإصلاح الحقائب والأحذية، حيث أخبرها العامل أن تأتي بعد يومين لاستلامها نظرًا لازدحام العمل. وبعد ذلك، زارت محل "رفا" في سوق شعبي لترميم الأزياء المدرسية، واتفق معها الخياط على تسليمها خلال ثلاثة أيام مقابل 50 جنيهًا لكل قطعة.

بالرغم من شعورها بثقل العبء الاقتصادي، دفعت منى 150 جنيهًا للخياط و350 جنيهًا للإسكافي. لاحظت أن المبلغ الإجمالي 500 جنيه أقل بكثير من تكلفة شراء مستلزمات جديدة، التي كانت ستصل إلى 3500 جنيه على الأقل.

بحسب هيئة الرقابة على الصادرات والواردات، انخفضت واردات مصر من الملابس الجاهزة بنسبة 27% في عام 2023 مقارنة بالعام السابق، نتيجة أزمة الدولار وارتفاع الأسعار. كما أن التخفيضات في "البلاك فرايداي" لم تُحفز المبيعات، إذ ظلت الأسعار مرتفعة مقارنة بقدرة المواطنين الشرائية.

عندما عادت منى إلى المنزل، استقبلها أطفالها بفرح بعدما رأوا مستلزماتهم المدرسية تبدو جديدة مرة أخرى. شعرت منى بالارتياح، مدركة أن إصلاح المستلزمات كان حلًا عمليًا أنقذها من أزمة مالية خانقة.

اللجوء لـ"الرفا" والصباغة

لسنوات، اعتقد أحمد مسعد، الذي يعمل في إصلاح الملابس "الرفا" بمحافظة الغربية، أن خدماته موجهة للطبقات المتوسطة وفوق المتوسطة التي تقتني ملابس باهظة يصعب الاستغناء عنها بسبب عيوب بسيطة. أما الطبقات الأدنى، فهي تفضل استبدال الملابس الرخيصة بأخرى جديدة رخيصة أيضًا بدلًا من إصلاحها.

اقرأ أيضًا: كيف أدخلت الديون موازنة المصريين في "الدائرة الجهنمية"؟

لكن مع ارتفاع معدل التضخم وسعر صرف الدولار، تغيّر الوضع، حيث أصبح شراء الملابس الجديدة عبئًا على العديد من الأسر.

وفقًا لبيانات الإحصاء، ارتفعت أسعار الملابس الجاهزة بنسبة 24.8% سنويًا في أكتوبر الماضي، والأقمشة بنسبة 30.8%، إلى جانب ارتفاع تكلفة تأجير الملابس بنسبة 23.3%.

واجه مسعد صعوبات في عمله، حيث اعتبره كثيرون غير مجدٍ ماديًا مقارنة بجهد وساعات العمل الطويلة، مما دفع بعض الشباب إلى ترك المهنة والاتجاه إلى قيادة التكاتك. ومع ذلك، شهدت مهنة "الرفا" انتعاشًا مؤخرًا بسبب إقبال الزبائن على إصلاح الملابس القديمة أو صبغها لتبدو كالجديدة، وهو ما رفع من أسعار خدمات التنظيف والإصلاح بنسبة 23.3%.

مع بدء الفصل الدراسي الأول هذا العام، فوجئ مسعد بتزايد الزبائن في محله، حيث ارتفعت تكلفة الزي المدرسي للأطفال إلى 500 جنيه (بنطلون وتي شيرت)، ما دفع العديد من الأهالي لإصلاح ملابس أبنائهم القديمة بدلاً من شراء الجديد. أصبح أحمد يتلقى 50 جنيهًا مقابل إصلاح القطعة الواحدة، مما ساعده على الاستمرار في مهنته وسط الأزمة الاقتصادية.

لا مجال للتخلي عن القديم

يرى المحلل الاقتصادي، نادي عزام، أن الإقبال المتزايد على إصلاح الثياب والأحذية القديمة أثناء فترات التضخم المرتفعة يمثل ظاهرة عالمية. ففي تركيا، المعروفة بإنتاج الملابس، ارتفعت معدلات الإقبال على تصليح الأحذية بنسبة 100%، وتفصيل الملابس بنسبة 150% خلال العام الماضي بسبب زيادة أسعار الجديد.

نادي عزام
نادي عزام

وفقًا لتقرير "سوق إصلاح الملابس والأحذية" العالمي، من المتوقع أن يتجاوز حجم هذا السوق 3951.91 مليون دولار أمريكي بحلول عام 2032، مع معدل نمو سنوي مركب بنسبة 2.44%. يشمل التقرير إصلاح الملابس والأحذية المتضررة، مثل الممزقة والبالية، أو التي تحتوي على ثقوب وبقع.

يشير عزام إلى أن الأسر، خلال فترات التضخم المرتفعة، تركز بشكل أساسي على الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والشراب والتعليم، وتؤجل الإنفاق على الملابس. لذا، يصبح إصلاح الملابس والأحذية القديمة خيارًا ضروريًا تحت ضغط الظروف الاقتصادية، مع عجز الرواتب عن تغطية ارتفاع الأسعار.

وأظهر تقرير التضخم العام للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لشهر نوفمبر ارتفاعًا في أسعار قسم الطعام والمشروبات بنسبة 23.3% على أساس سنوي، حيث سجلت مجموعة الحبوب والخبز زيادة بنسبة 29.5%، واللحوم والدواجن 17.9%، والأسماك والمأكولات البحرية 21.8%، والألبان والجبن والبيض 26.5%، والزيوت والدهون 16.1%، والفاكهة 32.7%، والخضروات 27.8%، والسكر والأغذية السكرية 9.0%، بينما بلغت نسبة الزيادة في منتجات غذائية أخرى 49.4%، مما يعكس تأثير التضخم على ارتفاع تكاليف المعيشة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة