في معرضها "البحث عن معنى"، تطرح الفنانة التشكيلية سلوى رشاد كثيرًا من التساؤلات، والتأملات، والأحلام، والمخاوف حول المعنى في حياتنا؛ المعنى بكل ما يحمله من رمزية وتجسيد على مستويات ذاتية، وجماعية، ووجودية.
"هي محاولة للتجريب، لإعادة اكتشاف الأشياء، والبحث عن جدوى الفن -بالنسبة لي- في واقع متغير، واقعٍ حضوره أقوى من أي أداة تعبير قد تُمارَس لنقده، والتصارع معه، أو الدفاع عنه عبر الأدوات الفنية والمفردات التشكيلية".
هكذا تُقدم سلوى رشاد معرضها، بينما تشير إلى أن البحث عن معنى هو أيضًا البحث عما له صلة بنا في زمن نعيش تحولاته العنيفة، حتى "أصبح دورنا فيه أشبه بمتفرج في مسرح الحياة، يلتقط المشهد بعينِ متأملٍ، إلا أنه يشعر بالاغتراب عنه".
المعرض المُقام بجاليري "ملك" في الإسكندرية، والذي انطلق في 16 نوفمبر ويتواصل حتى 5 ديسمبر الحالي، افتُتح بمصاحبة مقطوعات موسيقية قدمتها العازفة والمطربة ياسمين زكي، فكانت الموسيقى بمثابة روح جامعة تأخذنا -رفقة المعروضات الفنية المتنوعة- في رحلة إنسانية لأعماق الروح والنفس والجسد.
"في كل خطوة أنتقل من مرحلة إلى أخرى، لا أعلم ماذا ينتظرني، أو ما الجدل الجديد الذي ستفرضه اللوحة معي. نعم، هناك أفكار كثيرة تصنع تساؤلات كثيرة، لكن كيف ستطرح تلك الأفكار نفسها؟ على كل سطح جديد أقوم فيه برحلة جديدة لاستكشاف جديد داخلي ومعي، أنا واللوحة"؛ تقول سلوى.
انطلاقًا من الحيرة والتساؤلات والتأملات الشخصية، تدعو الفنانة سلوى رشاد جمهورها إلى رحلة يتشكل فيها المعنى من جديد. هذه الرحلة الثنائية تجمع بين طرفين: الأول تتجلى في أعمالها الفنية الغنية بالرؤى المتعددة، والثاني تتعمق في ذواتنا البشرية بما تحمله من براءة وارتباك. وهي رحلة تتسم بروح أمومية ومشاعر حميمية، تظهر كخيط خفي يربط بين أعمال سلوى رشاد المتنوعة.
في عالم مرتبك ومتغير بوتيرة جنونية كالذي نعيشه الآن، غالبًا ما يبحث الإنسان عن المعنى خارجه. إلا أن سلوى تُذكّرنا بأن المعنى يبدأ من الداخل، عبر طبقات من المشاعر، والأحلام، والمخاوف، والعلامات، نطوف معها ونذوب ونتماهى فيها داخل عالم فني عميق.
"تفاجئني اللوحة بتفاصيل نسيت أني وضعتها هناك، بينما كانت متوارية أو شبحية. أصبح سطح اللوحة كجلدٍ للجسد، وتحولتُ إلى باحثة عن أركيولوجية لهذا الجسد، أبحث عن الأشياء المنسية حتى يتراكم وجودنا الإنساني وعلاماته على سطح اللوحة، هذا الوجود الذي يبدو أننا نفقده أو نتوه عنه أحيانًا".
تقول سلوى لـ فكر تاني، وتضيف: "تجذبني دائمًا حركة الجسد، تعبيراته، إيقاعه في الفضاء من حولي. أرسم وجوهًا كثيرة ليست لشخص بعينه؛ فكثيرًا ما أرسم بورتريهات لي، لكنها ليست لي بذاتي. إنها ترددات لأشخاص كُثر قابلتهم ودخلوا في حيز هذا الوجه الذي أرسمه، فأصبحت تستدعي اللوحة وجوهها التي تصنعها هي".
عن الفن كرمز وجسر لمعانٍ وأفكار وتأملات ورؤى متنوعة، حاورناها فكان هذا اللقاء.
إلى نص الحوار..
"البحث عن معنى" جملة تحمل مشاعر كثيرة متباينة من الحيرة والتساؤل والبحث والأمل والقلق، كيف جاء اختيار هذا العنوان؟
اسم المعرض أتاني من تساؤلات قديمة عندي، ربما كانت مُعوِقة بعض الشيء، وسببًا في تعطّلي لفترات طويلة. وربما أيضًا كانت سببًا لتشككي في ماهية الفن، وربما كان لخطأ ما عندي أن أعتبره المخلص وأداة للتغيير. وربما خلال تلك الفترات، حيث نمت لديّ عين داخلية لم تساهم في الفهم الحقيقي لدوري أنا، كانت عينًا ناقدة أعاقتني عن التطور لأنها وقفت لي بالمرصاد.
كانت أسئلتي هي: ما جدوى الفن؟ كيف يساهم في تطوري أنا، وتطور المجتمع؟ وكيف يساهم في تغيير الأحداث؟ وكيف أكون فنانة وعضوة مؤثرة في المجتمع/الحياة؟ وكيف يكون شكل الفن الذي سأصنعه؟ هل يكون فنًا ذا نظرة داخلية تتسع لي ولمن حولي، أم هو فن يستوعب مكانًا أشمل وله مفردات أوسع من مَحليّته؟ ما هو الطرح الفني المناسب؟ وما هو شكل الفن؟ خاصةً أن هناك فترة ظهرت فيها اتجاهات فنية تعتمد على الصور المتحركة مثل الفيديو آرت والإنستليشن (يستخدم مواد وأشياء متنوعة لتصميم أعمال فنية كبيرة داخل مكان معين، بحيث يعيش الجمهور تجربة حسية أو فكرية مختلفة)، وأشكال أخرى يتضاءل فيها الرسم والتلوين.
يضم المعرض أعمالًا متنوعة، رُسمت في مراحل عمرية مختلفة، كيف تتأملين أعمالك وهى متجاورة في معرض واحد من أزمنة مختلفة؟
توقفت عن العمل لفترة طويلة، ربما لأنني كنت بحاجة لملئ فراغات ما في روحي، كنتُ أحسبها ذات صدى لتساؤلاتي. وتزامن ذلك مع اهتمامي بالفوتوغرافيا، وبداية تكوين مجلة "أمكنة" مع علاء خالد. ومن هنا بدأت رحلتي مع التصوير الفوتوغرافي وتوثيق أماكن عديدة في مصر.
ربما كانت هذه التجارب والمشاهدات من الحياة هي ما كنت بحاجة إليه، إلا أن الفن كتشكيل كان حاضرًا دائمًا في العين التي تُصور، أو في استقبال الأفكار، أو في بعض الممارسات الفنية الصغيرة. حاولت مع الوقت أن أقلص تأثير العين الداخلية الناقدة، فهذه العين لا يجب أن تكون أقوى من صاحبها، بل تتطلب أن تكون أكثر وعيًا فقط، حتى وإن كانت مغمضة أحيانًا أو متساهلة بعض الشيء.
في رحلة البحث عن معنى تتعدد الطرق والمسارات، إلى أي مدى ساعدك الفن في هذه الرحلة، وما هى أبرز الخبرات الملهمة بالنسبة لك؟
اخترت في هذا المعرض أعمالًا نُفذت في فترات زمنية مختلفة، لكنها تساهم في فكرة البحث عن معنى الفن بالنسبة لي، وكأني أتمسك بقشة الإحساس بالإيمان الذي طالما وثقت فيه؛ الإيمان بأن بداخلي فنانة.
ضمت بعض الأعمال رسومات بالألوان المائية لبورتريهات عديدة، وشعوري بأنني أبحث عن شيء خلالها أو في مواجهة مع نفسي. معظمها كانت بورتريهات لي، لكنها ليست تمامًا لي؛ فهي بورتريهات لأناس عدة مروا أمامي. والبحث هو بحث عن الحياة من خلال الفن، وهو بحث يخصنا جميعًا، نتشارك في صناعته.
الفن يستمد ذاته مما حوله، من فهمنا لهذه الحياة. هذا هو إيماني.
غالبًا ما نبحث عن المعاني خارجنا، بينما تبدو المعاني في المعرض في داخلنا بالأساس، كيف تتأملين العلاقة بين الخارج والداخل، ومن أين تستمد سلوى رشاد معانيها في الحياة؟
المسارات التي اتخذتها، بدءًا من الرسم ثم التوقف والتوجه إلى الفوتوغرافيا لأرى حركة الحياة من خلال نافذة صغيرة لعدسة الكاميرا، تكشف تفاصيل قد تمر دون أن تستدعي انتباهنا في الشكل العادي للحياة اليومية. ثم الاحتكاك بالناس من خلال الرحلات التي سلكتها عبر مجلة "أمكنة"، أتاحت لي استكشاف تفاصيل وأماكن وبشر جدد. ثم العودة مرة أخرى للفن بعد ثورة يناير والكثير من الإخفاقات التي استدعت أن يبحث كل فرد فينا عما يخصه ليعيد توازنه من جديد.
كانت تلك هي بداية العودة الجادة للفن الذي طالما راهنت على وجوده. ما هو معنى الفن؟ ما هو معنى الحياة؟ وما هو معنى الموت؟ كلها أسئلة تحمل جدلًا داخليًا، ولكن أي جدل لابد أن يستمد مادته من الخارج، من تجربة الحياة بجمالها وصراعاتها وتناقضاتها وإحباطاتها. وربما اختياري لكلمة "البحث عن معنى" وليس "المعنى"، لأنها أكثر تجريدًا. أنا لا أعرف المعنى بعد، ولكني في حالة بحث، أتشبث بكل وأي تفصيلة عنه.
أعتقد أن التأمل والتجريب هما الأدوات الغنية التي يستمد منها الفن مفرداته التشكيلية. والواقع والحياة مليئان بالمثيرات البصرية والأفكار.
البورتريهات حاضرة بقوة في أجواء المعرض بمشاعر وتكوينات مختلفة، كيف تتأملين الحضور الطاغي للبورتريهات في أعمالك؟
البورتريه أو صورة الوجه هي هوية حامل الجسد، تعكس الكثير من المشاعر والمعاني. أعرف هذا من علاقتي بالصورة كشخص مارس الفوتوغرافيا، إذ أتاحت لي الكاميرا التدقيق في ملامح الوجه وتفاصيله، والعين بالأخص، التي قد تكون شاخصة في مكان آخر أو كمرآة تعكس حالة هذا الجسد الذي ربما كان حاضرًا في كل الأعمال بحالاته المختلفة: هشًا أحيانًا، محملًا بدلالات كثيرة، وحاملًا لحكايات قديمة، أو وعاءً لذاكرة لا تخصه هو وحده، أو ربما ذاكرة شخصية، أو معلنًا رفضه لواقع ما، أو عاكسًا لوضع ما، أو مواجهًا له.
كيف تتأملين العلاقة بين صور الفوتوغرافيا واللوحة الفنية؟
استخدامي للكاميرا والصورة الفوتوغرافية ربما دربني على صنع السرد الفوتوغرافي أو الـ Visual story، وهو كيفية تدريب الذات على رؤية حكاية مصورة من عدة اتجاهات لتبني ملامح الصورة السردية الفوتوغرافية. وكأنك تتنقل باستخدام زووم in and out من الفكرة أيضًا، وليس فقط على المستوى البصري.
كنتُ دائمًا مجذوبة للصورة الفوتوغرافية، وخاصة في ألبومات الصور القديمة. وربما استلهمت بعضها، مثل صور تجمعات لشخصيات، لكنني أعدت وجودها في سياق آخر في الأعمال الأخيرة لتخلق سردية جديدة، بوجوه تواجه واقعًا تتعارض معه، لكنها أضعف من أن تغيره.
هناك بعض الموتيفات حاضرة في أعمالك الفنية، كيف تتأملين علاقتك بهذه الرموز وما تمثله من معنى؟
ربما استدعيت حالة الجسد في بعض اللوحات لموتيفات معينة، كأشكال لقواقع متحجرة تذكرنا بحياتنا الأولية وأجسادنا المتكورة، أو أشكال لطيور - وبالأخص الغراب - الذي أعتبره رمزًا للتحولات والانتقال من حالة لأخرى وليس بالضرورة من حياة إلى موت. فأنا لا أعتبره نذير شؤم كما يتصوره البعض. وأيضًا، أشكال الزهور، أو الصور الفوتوغرافية من ألبومات صور قديمة، وفي أعمال أخرى لم تُعرض بعد، استعنت فيها بصور فوتوغرافية مكبرة لنسيج مفرش المنضدة المنسوج على هيئة زهور كان متواجدًا في كل بيوتنا القديمة.
عرفتني صديقة تدرس الأنثروبولوجيا - ذات يوم - على نص للمفكر والمؤرخ "بيير نورا" الذي يتناول في مقاله "أماكن الذاكرة" موضوع المجتمعات التي تحافظ على ذاكرتها من خلال الحفاظ على مواقع وأشياء مادية. ويشير إلى أن الذاكرة ليست مقصورة فقط على الأحداث التاريخية، فالأحداث التاريخية يمكن التلاعب في تدوينها، بل تشمل أيضًا أماكن بعينها وشعائر ومنتجات يدوية وصور فوتوغرافية.
تتنوع الأعمال في المعرض بين اللوحات والمعلقات والبورتريهات، كيف تتأملين هذا التنوع، وما الذي تمثله كل نوعية من خصوصية؟
نفذت بعض الأعمال في المعرض بالألوان المائية، وهي البورتريهات التي كانت أولى محاولات الرجوع للرسم وتعود لعام 2013.هذه اللوحات ربما يتسرب فيها إحساس بالغضب أو القلق. في بعض منها استخدمت الملح كتأثير، لما له من خاصية امتصاص الماء تاركًا ذرات صبغات اللون لتحدد مكان فجوات دقيقة مكان الملح.
وهناك أعمال نفذتها بالألوان الأكريليك على ورق مجهز وملصق على قطعة قماش لجسد محاط بصور صغيرة فوتوغرافية. استعنت فيها بتكنيك الترانسفير، وهو نقل الصورة الفوتوغرافية على أي سطح مسامي باستخدام وسيط أكريليك. جسد متوج بأيادِ تحمله برفق.
عمل آخر منفذ أيضًا بالأكريليك على ورق مثبت على قماش خام لجسد آخر يحمل صورة منفذة بتكنيك الفوتو ترانسفير داخل مرآة. وأعمال أخرى نفذتها على "الكانفاس" وأخرى على ألواح خشب، وهي الخامة التي استخدمتها في معظم الأعمال. فالخشب يعطيني مرونة وحرية أكثر في التعامل مع السطح، ويتحمل الطبقات المتعددة، والكشط، والإزالة والإضافة، وعمل التأثيرات وكأنه شخص آخر أتعامل معه. فيأتيني أحيانًا باقتراحات تساعد في نمو العمل.
"في فترة ما في التاريخ كانت المرأة تُمنع من التلوين في اللوحة. فقط كان مسموحًا لها بالرسم. قرأت تلك المعلومة في أحد الكتب منذ زمن، وربما هذا أعطاني الإحساس بعدم السماح للمرأة بالبوح بأكثر مما يجب، وأن تكون مقتصدة في التعبير حتى وإن كان لونًا. ورغم حبي للرسم والخط الذي يُرشح وجود الشكل ليتسامى ببلاغة التعبير، إلا أن اللون أيضًا له دلالاته وخلقه للكتلة وتأثيره حتى في أدنى وجوده".
هذا ما أرادته سلوى رشاد لختام حوارها مع فكر تاني.
حوار رائع من فنانة صادقة و راقيه