تنطلق القوانين والتشريعات وأخلاقيات المهن في العصر الحديث من تأكيد حرمة الحياة الخاصة لكل إنسان، مع تمييز واضح بين الجريمة وشخص الجاني. فالهدف الأساسي من أي عقاب هو التقويم السلوكي وتحقيق العدالة، وليس وصمه أو الانتقام منه. لكن في مجتمعاتنا العربية، تختلط الكثير من الأوراق، ويمارس الجميع ضد الجميع التشهير والتجريس والوصم والإذلال.
وفقًا للدستور المصري، تؤكد المادة (57) حرمة الحياة الخاصة للمواطنين: “للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة ولا تُمس، وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة”. وتنص المادة (99) على أن: “كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، وغيرها من الحقوق والحريات العامة، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم”.
عرفت البشرية قبل قرون أحد أقدم النصوص والقواعد الخاصة بأخلاقيات المهن، وهو قسم الفيلسوف والطبيب اليوناني الشهير “أبقراط”، الملقب بأبو الطب وأعظم أطباء عصره. وقد صيغ القسم الذي عُرف باسمه كوثيقة وبيان أخلاقي يُقسم عليه الطبيب قبل ممارسة المهنة. وعلى نسق هذا القسم ظهرت نسخ متعددة في الدول والثقافات والعصور المختلفة يُقسمها الأطباء لحفظ وحماية الحياة الخاصة لمرضاهم. فالطب من أكثر المهن التي تطلع على أدق التفاصيل الخاصة والحميمية للإنسان، وبالتالي يُفترض في الأطباء الأمانة المعرفية والنزاهة الأخلاقية لضمان حماية خصوصية الأفراد والسلم المجتمعي.
اللافت في “قسم أبقراط” (Hippocratic Oath) مقدار الوعي والدقة في رؤيته للأمور وفقًا لمتطلبات عصره، بل والعصور التالية أيضًا. فرغم وجود العديد من النسخ المنسوبة لأبقراط بصياغات مختلفة، إلا أن جوهرها واحد، حيث ينص في فقرة ثابتة ومكررة في كل النسخ على: “أقسم أن أي منزل أدخله سيكون هدفي منفعة المريض، وسوف أكف عن عمل يستهدف الأذى أو الفساد عمدًا، وأبعد نفسي عن كل ما يشين. وسوف أحتفظ بكل ما أراه أو أسمعه من أسرار. وما دمت باقيًا على قسمي هذا غير حانث به، فليكن جزائي التمتع بالحياة وممارسة فني، مبجلًا من جميع الناس على مر العصور. أما إذا انتهكت هذا القسم وحنثت به، فليكن جزائي عكس ذلك”.
ينص “القَسم الأخلاقي” (ethical code) في كليات الطب المصرية على: “أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلاً وسعي في إنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عورتهم، وأكتم سرهم. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلًا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أسخره لنفع الإنسان، لا لأذاه، وأن أوقر من علمني، وأعلم من يصغرني، وأكون أخًا لكل زميل في المهنة الطبية، متعاونين على البر والتقوى. وأن تكون حياتي مصداقًا لإيماني في سري وعلانيتي، نقية مما يشينها تجاه الله ورسوله والمؤمنين، والله على ما أقول شهيد”.
سياسات الإذلال
رغم كل هذه المواثيق والتأكيدات على حرمة الحياة الشخصية، فإن المتابع للشأن العام يلاحظ انتهاكات هائلة للحياة الشخصية، بعضها نتيجة فوضى مواقع التواصل الاجتماعي، كما حدث من طبيبة كفر الدوار في الأيام الماضية، وكثير منها نتيجة سياسات إذلال متعددة ومباشرة تمارسها السلطة. والأمر لا يتعلق بالمجتمع المصري فحسب، بل يمتد للكثير من دول العالم.
في كتابها “سياسة الإذلال.. مجالات القوة والعجز”، تتساءل المؤرخة الألمانية أوتا فريفرت عن كيفية تشكل المجتمعات التي تقبل ممارسات الإذلال؟ أو تطالب بها؟ وما هي الأنظمة السياسية التي تسمح بالإذلال، وما هي الأنظمة التي تحاول منع ممارسات الإذلال؟ وهل يمكن أن نقول إن تاريخ الإذلال هو قصة تطور غربية ينتمي أبطالها وبطلاتها إلى البرجوازية الليبرالية وكان هدفهم الأسمى هو حماية الكرامة الإنسانية؟ أم إن الحداثة قد خلقت فضاءات ودوافع وظروفًا ومعانٍ جديدة للإذلال وانتهاك حقوق وحريات الإنسان؟
الكتاب الصادر في نسخته العربية عن دار ممدوح عدوان، بترجمة هبة شريف، يتتبع كيف مر المجتمع الإنساني من الهمجية إلى الحداثة، وكيف تشكلت سياسات العقوبات منذ فترات طويلة، وكيف تخللت بعض هذه العقوبات سياسات إذلالية للمعاقب، كالتشهير والوصم. تستعرض المؤرخة الألمانية نشأة وتطور فلسفة الإذلال والخزي والعقوبات والممارسات التي كانت وما زالت تفرضها السلطات والمجتمعات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما يحدث في المدارس ووسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
كانت عقوبات التشهير والتجريس والفضح تختلف في الماضي وفقًا للموقع الاجتماعي لمن قام بمخالفة القانون، لكن مع بداية القرن التاسع عشر ونتيجة لجهود إصلاحية طويلة، حاول العديد من السياسيين ورجال القانون والفلاسفة والمفكرين وضع تصور عام عن كرامة المواطن يختلف عن المفهوم السابق في عصر ما قبل الليبرالية. فأصبح مفهوم الكرامة منذ ذلك الحين مرتبطًا بالحداثة الغربية، لكن ظلت المجتمعات التي لا تعطي أهمية كبيرة للفرد وتعلي من شأن الجماعة على حسابه، لا تهتم كثيرًا بمفهوم الكرامة الإنسانية. وحتى المجتمعات الليبرالية لم تخلو من ممارسات الخزي والإذلال بصور وأشكال مختلفة.
ثورات الربيع العربي
تبدأ المؤرخة الألمانية أوتا فريفرت كتابها بالمشهد الأبرز في اندلاع الثورة التونسية في نهايات عام 2010، ومن بعدها ثورات الربيع العربي، التي كانت شعاراتها الأساسية “الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية”. حيث ترددت أصداء هذه الصيحات في مختلف البلدان العربية من المحيط إلى الخليج في حينها، قبل أن تتحول الثورات عن مسارها، حيث أجهضت بعضها، وتحولت أخرى إلى حروب أهلية.
“سيدي بوزيد، كانون الأول/ديسمبر 2010. في هذه البلدة التونسية، وأمام بيت المحافظ، قام البوعزيزي، بائع الخضار التونسي ذو الستة والعشرين عامًا، بسكب البنزين على نفسه، ثم أشعل النار. قبل ذلك بقليل، كانت إحدى الشرطيات قد صادرت بضاعته، ولم تكتف بذلك، بل صفعته على وجهه أيضًا. قيل فيما بعد: إن البوعزيزي عندما أحرق نفسه، فإنه قد أعلن بذلك عن أنه لم يعد يقبل إهانة الكرامة والإذلال. ما لم يكن يعرفه ساعتها أن احتجاجه اليائس قد تسبب في انتفاضة الكرامة، التي سوف يكتب عنها التاريخ، ويصفها بالثورات العربية، أو الربيع العربي”.

انطلاقًا من هذا المشهد المعاصر، تعود المؤرخة الألمانية إلى قرون وعقود ليست ببعيدة عن زمننا الحالي، حيث كانت ممارسات الإذلال العلني جزءًا من القوانين والأعراف المجتمعية: “كانت تُستقبل عقوبات الفضح والتشهير، وتفهم، وتُقيم على نحو مختلف وفقًا للطبقة الاجتماعية. فقد كتب كل من جلوبيج وهوستر في مقالتيهما في عام 1783 أن أثر الفضح والتشهير على النبلاء وأصحاب المقام الرفيع أكثر حدة من أثره على الرعاع، لأن هذه العقوبة تدمّر السمعة الكريمة. ولم يحدث أن نُفذت قط على أحد أعضاء الطبقة النبيلة، وظل العقاب بالعصا والسوط يُنفذ فقط على الأقل مقامًا كما يصفهم رجال القانون في دريزدن. فقد تحدث كلاين في عام 1799 عن الأشخاص الذين لا نملك إلا معاقبتهم بدنيًا”.
وتضيف: “حتى القضاء كان يتعامل مع النساء على نحو مختلف عن تعامله مع الرجال؛ فارتداء حجر العار أو التشهير، الذي كان في بدايات العصر الحديث عقوبة شائعة، كان قاصرًا على النساء إذا كان سلوكهن شرسًا أو فاحشًا. إما حلق شعر الرأس، وهي العقوبة المعروفة منذ العصور القديمة، فكانت مخصصةً للنساء فقط. تعكس أغنية على لسان إحدى المسجونات في القرن الثامن عشر مقدار الإهانة التي تتعرض لها النساء مع حلق شعرهن، تقول كلمات الأغنية: أحتمل كل العطش، وأي بلاء يفكر فيه الرجال، فقط أعيدوا لي شعري. سأكفر عن سرور الجوع والعطش، وأي بلاء يفكر فيه الرجال، فقط أعيدوا لي شعري”.
هل للأطفال كرامة؟
حتى قرون وربما عقود قريبة، كانت أسئلة مثل “هل للأطفال كرامة؟” مطروحة مجتمعيًا دون إجابات واضحة وحاسمة. “شغل هذا الموضوع الكتاب كلهم تقريبًا، الذين اهتموا في القرن الثامن عشر بأمور التربية، وكان عددهم كبيرًا. فقد كان القرن الثامن عشر العصر الذي يُطلق عليه العصر التربوي. عدَّ هؤلاء الكتاب ‘الاعتزاز بالكرامة’ فضيلة من الفضائل المحمودة، وأولوا أهمية كبيرة لهذا الشعور، ورعايته والعناية به منذ الطفولة”.
تشير الكاتبة إلى أنه لم يكن أحد تقريبًا يفترض أن الأطفال يأتون إلى العالم وهم يملكون شعورًا بالكرامة والخجل، “فنقرأ في موسوعة التربية لعام 1860 أن الطفل في سنواته الأولى يوجد تقريبًا على الدرجة نفسها التي يقف عليها الحيوان. كان الرأي السائد أن الشعور بالكرامة والخجل يتطور خلال الحياة، ويحتاج إلى الرعاية والعناية بحرص. ويبدو أن هؤلاء الكتاب لم يكونوا على دراية بأنفس الأطفال الصغار”.
تغيرت الممارسات في المدارس التي بدأت تتخلى إلى حد كبير منذ سبعينيات القرن العشرين عن الخزي كوسيلة للتربية. سبق هذا التغير جدال ونقاش طويل وعنيف ممتلئ بالاختلافات في الرأي، ودار الجدل حول شرعية وقانونية وسائل ضبط التلاميذ والأطفال. “كانت الاستشارات والكتب التربوية تنصح منذ القرن التاسع عشر المعلمين بعدم اللجوء إلى عقاب الخزي إلا في حالات استثنائية، كما لا يجب أن يكون الخزي أبدًا بهدف إذلال التلاميذ. يدل استمرار وجود هذه النصائح في العشرينيات من القرن العشرين وزيادتها على أن هذا التصرف المجرم كان ما زال منتشرًا”.
الفرد والجماعة
يطرح الكتاب الكثير من التساؤلات على المستوى الاجتماعي، والفلسفي، والتاريخي، والسياسي، والثقافي، والتربوي عن الحقوق والحريات، وعلاقة الفرد بالمجتمع، والكرامة والإذلال، والحق في الاختيار، والمنظومة التربوية والسياسية الشائعة في المجتمعات المعاصرة، وأثرها على حياة الأفراد على المستوى النفسي والاجتماعي، والمسؤولية الفردية والجماعية لمن يتعرضون للإذلال ودورهم في المقاومة والدفاع وحماية أنفسهم.
تحذر المؤرخة الألمانية من الممارسات التربوية التي تنتهك خصوصية الأبناء، وتصيبهم بالشعور بالخزي والعار سواء داخل الأسرة أو المدرسة أو النوادي والمؤسسات العامة، مشيرة إلى أنه في أيار/مايو 2015، قامت فتاة بالقفز من فوق جسر في ولاية واشنطن الأمريكية؛ لأنها لم تستطع تحمل الخزي العلني الذي ألحقه بها والدها. فقد غضب الأب لأنها صورت نفسها صورة سيلفي تداولها زملاؤها في المدرسة تظهر ابنته في هذه الصورة وهي ترتدي حمالة صدر رياضية، وبنطالاً ضيقاً.
“عاقب الأب ابنته بقص شعرها، وصورها أثناء ذلك، وانتشر الفيلم، وأصبحت حديث المدرسة، هنا أنهت إيزابيل حياتها. قالت الصحفية التي نشرت الخبر إن ما جرى يذكرها بالعصور الوسطى المظلمة، فقد أصبحت العائلات تستعين بالتقنيات الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي لممارسة هذه الطقوس، ويُعدُّ فيسبوك ويوتيوب وسائل مناسبة تمامًا من أجل استعراض سوء التصرفات الفردية، وكثيرًا ما يؤدي هذا الأمر إلى نتائج مأسوية لمن يُوبَّخ”.
تتساءل الكاتبة من أين يأتي هذا الاحتياج عند بعض الناس إلى استعراض أخطاء الآخرين وفضحهم علانية، ولو كانوا أبناءهم؟ ما الهدف من هذا الخزي؟ وما هي الآثار التي تنتج عنه؟ لماذا ينتشر الخزي في مجتمعات تدعي الاهتمام بالكرامة والاحترام؟ هل ما زالت “العصور الوسطى المظلمة” قائمة فعلاً أم إن الحداثة “الساطعة” قد جلبت معها أساليب جديدة للخزي خاصة بها، واخترعت ممارسات جديدة للإذلال؟
تشير المؤرخة الألمانية إلى أن هناك بعض المجتمعات التي تستعمل الشعور بالعار والخزي وسائل للضبط التربوي والاجتماعي أكثر من غيرها، في حين أن هناك مجتمعات أخرى تستعملها على نحو أقل، أو لا تستعملها أبدًا. “يعود هذا أساسًا إلى درجة التباين الاجتماعي، والتقدير الذي توليه هذه المجتمعات لقيم الفردية والحرية والاستقلالية، ولكن حتى الناس الذين يشبون في مجتمعات تسود فيها قيم الفردية معرضون أيضًا إلى أن تنتابهم مشاعر العار والخزي”.
المسؤولية الفردية
في خاتمة الكتاب، توضح الكاتبة أنه بمقدورنا وفقًا لآراء “نوربرت إلياس” إدراك أن التعرض لهذه المشاعر في العصر الحديث آخذٌ في الازدياد، وليس العكس. فالشعور بالعار هو رد فعل الإنسان في حالة العجز عندما يخاف من انحدار منزلته الاجتماعية، أو يخشى أن يتعالى عليه الآخرون. وتحركت حدود الشعور بالعار والإحراج في أثناء مرحلة التمدن ليُصبح في الصدارة.
مشيرة إلى أهمية المسؤولية الفردية والجماعية في مقاومة وعدم القبول بالتعرض للإذلال، أو الصمت على ذلك في حال حدوثه من قوة قاهرة: “نجد دائمًا أن ممارسات الإذلال والخزي لها علاقة بالسلطة: بادعاء الحق في ممارسة السلطة، وفي الرغبة في الحصول على قبول الآخرين لهذه السلطة، فلا قيمة للسلطة بدون موافقة علنية من الآخرين، فبدون استحسان لا يتحقق الغرض من الخزي”.
توضح المؤرخة الألمانية أن مشروع مناهضة الإذلال في أوروبا تطور من خلال المواجهات بين الدولة والمواطنين الذين نزعوا الشرعية عن ممارسات الإذلال والخزي في المؤسسات العامة. في ألمانيا، أصبحت الكرامة الإنسانية في منزلة الملكية المحمية بالقانون، بعد أن اجتمعت الجمعية التشريعية لصياغة الدستور في عام 1948 لإعداد أول مسودة للقانون العام، وقدمت الجمعية تفسيرًا واضحًا لا لبس فيه للمادة الأولى في القانون: “الدولة موجودة من أجل البشر، ولا يوجد البشر من أجل الدولة، لا يجوز المساس بكرامة الشخصية الإنسانية، وتلتزم السلطة العامة بأشكالها كلها باحترام الكرامة الإنسانية وحمايتها”.
مصادر:
https://www.britannica.com/topic/Hippocratic-oath
