“في رحلة البحث بين الأقسام والسجون عن زوجي بعد القبض عليه، في ذلك الوقت تحديدًا، بدأت الشعور بالأزمة، وكنت أعرف أنه وإن خرج سالمًا، فنحن الآن تحت التهديد المستمر”.. تقول الباحثة والصحفية هبة أنيس لـ فكّر تاني، عن بداية تفكيرها في الخروج من مصر.
تحكي هبة عن تلك التجربة التي اضطرت فيها إلى التردد على أقسام الشرطة والبحث عن زوجها المقبوض عليه، وهي تعرف أن هذه اللحظة لا رجعة فيها: “في بلدنا.. طالما أصبح لديك تاريخًا سياسيًا كلما خرج الناس في مظاهرة أو حدث شيء ما، يأخذونك من بيتك حتى لو كنت نائمًا”.
حتى بعد خروج وليد -زوجها- من الحبس الاحتياطي بصعوبة بالغة بعد أربعة سنوات، على حد قولها: “كنا نشعر بالخوف من أي شيء بسيط، طرقة على باب الشقة، أو أي صوت عالِ، حتى وصل الأمر، أنه إذا دعا أحد من خارج مصر إلى مظاهرة أو ثورة، كنا نخشى أن نكون جزءً من القبضة الأمنية التي قد تحدث”. وهذه كانت بداية المعاناة الحقيقية.

تقول هبة: “زوجي طبيب أسنان، وبعد أربعة سنوات من عدم ممارسته للمهنة، اضطر لأن يبدأ من جديد، وهو قبل أي شيء آخر، عبء مادي إضافي”.. وبحسب هبة، فإن من تعرضوا لفترات حبس طويلة، يفقدون وظائفهم وجزء من حياتهم العادية ويحتاجون إلى وقت طويل للعودة إلى عملهم وإعادة بناء سمعتهم أو محاولة اجتذاب زبائنهم من جديد.
“أُغلقت العيادة أثناء حبس وليد، لذلك، كان فكرة البدء من جديد صعبة للغاية، فقررنا السفر كعائلة، هو وأنا وابنتنا نور”.
تؤكد هبة، أن قرار السفر لم يكن سهلًا على الإطلاق، حيث كان لديها ارتباطات قوية بمصر، من عملها إلى أصدقائها وعائلتها. لكنها أوضحت أن التفكير في مستقبل ابنتها وسلامة الأسرة كان دافعًا قويًا لاتخاذ هذا القرار.
تحدثت عن خوفها من أن تعيش ابنتها بعيدًا عن والدها، ما دفعها إلى اتخاذ قرار السفر كعائلة، رغم الصعوبات التي كانت تتوقعها، فبدأوا البحث عن بلد يمكنهم اللجوء إليها، وجاءت المنحة إلى أمريكا، سافر وليد أولًا ثم لحقت به هبة وابنتهما نور بعد شهر.
وهناك، في البلد الغريب، تشير هبة أن عديد من المصريين الذين يغادرون، يضطرون للعمل في مهن بعيدة عن تخصصاتهم، مثل البيع أو العمل في محطات الوقود، وهو ما حدث مع العديد من المحامين والصحفيين وغيرهم.. “ورغم سيرتي الذاتية الغنية بالخبرات في مجال المجتمع المدني بمصر، اضطررت للبدء من الصفر، كان هناك صعوبة شديدة في العثور على وظيفة مناسبة”.
وتضيف هبة، أنها قضت عامًا وثلاثة أشهر في الولايات المتحدة قبل أن تبدأ في العمل بمجالها، حيث حصلت على وظيفة مؤقتة لمدة شهر وتوقفت عن العمل بسبب ولادتها، وتوضح، أن معظم الوظائف في مجال المجتمع المدني تتسم بأنها مؤقتة، ما جعلها تشعر بأنها ما زالت في مرحلة بناء جديدة: “شعرت أنني محاصرة بين ما كنت عليه في مصر وبين ما أحاول تحقيقه هنا، وهذا من أصعب التحديات التي واجهتها”.
ورغم صعوبة الحياة في الخارج والتحديات المهنية التي واجهتها، إلا أن هبة شعرت بالاختلاف الكبير بين ما كانت تعيشه في مصر وبين الحياة في الولايات المتحدة، حيث أدركت أن العديد من الممارسات التي كانت تحدث في مصر لم تكن طبيعية، مثل التحرش وفقدان حرية الحركة في الشارع.
ثمن المشاركة
“منذ انخراطي في الحركة الطلابية عام 2013، والمشاركة في المظاهرات المناهضة لسياسات النظام، كنت دائمًا تحت المراقبة. لم يكن الأمن يتوانى عن ملاحقتنا وتخويفنا باستمرار. في العديد من المناسبات، كان رجال بملابس مدنية يظهرون في الجامعة، يسألون عنّا ويحذرون الناس من التعامل معنا. كنا ندرك تمامًا أننا مراقبون في كل خطوة، سواء في الجامعة أو خارجها”.
تبلغ مريم 29 عامًا، وقد عانت من ظروف صعبة وتجربة مريرة مع الاعتقال، بعد مشاركتها في احتجاجات عام 2016 ضد بيع جزيرتي تيران وصنافير. حينها اقتحمت قوة أمنية منزلها فجأة في منتصف الليل، ثم أخضعت للاحتجاز لمدة ثلاثة أشهر دون توجيه أي تهمة واضحة.
“لم يكن هناك سبب لما حدث سوى أني عبرت عن رأيي وشاركت في المظاهرات المطالبة بالعدالة والحرية”؛ تقول لـ فكّر تاني.
قضت مريم ثلاثة أشهر مسلوبة الحقوق، تصفها بـ”الأسوأ” في حياتها، إلى أن غادرت مقر احتجازها وقررت أن البقاء في مصر شيئًا مرهقًا لا تحتمله.
“كان الخطر يُلاحقني في كل مكان، ولم يكن لدي خيار سوى مغادرة البلاد بحثًا عن الأمان”.
قمع الوطن.. عنصرية الغربة
بعد رحلة طويلة، وصلت مريم إلى ألمانيا، تفعيلًا لطلب لجوء كانت تظن أنه سيوفر لها الحرية والأمان، لكنها اكتشفت أن تحديات جديدة كانت بانتظارها.
“لم أعامل كإنسانة. كانت هويتي العربية تسبقني في كل تفاعل. تعرضت لمواقف عنصرية في الشارع، ووسائل المواصلات، وحتى في الأماكن العامة. بمجرد أن يلحظوا ملامحي العربية أو يسمعوا لغتي، كنت ألمس التغيّر في نظراتهم ونفورهم.. كل يوم هنا هو معركة أخرى. عليّ أن أثبت أنني لست غريبة أو دخيلة، وأن حقي في الأمان والعيش بكرامة لا يقل عن حق أي شخص آخر”.
تجربة مريم ليست حالة فردية؛ بل هي واقع معاش للعديد من المغتربات في الخارج. ففي ظل تصاعد موجات العنصرية والتمييز، تواجه هؤلاء النساء تحديات متزايدة، ليس فقط بسبب ابتعادهن عن أوطانهن، بل لتعاملهن مع أحكام مسبقة قائمة على هوياتهن العربية.
تزايد الهجمات العنصرية
سجلت ألمانيا أكثر من 22,000 جريمة ذات دوافع سياسية في 2022، ارتبطت في معظمها بالعنصرية والكراهية تجاه المهاجرين.
وفقًا لتقارير صادرة عن وزارة الداخلية الألمانية، شهدت تلك الهجمات العنصرية زيادة بنسبة 9% مقارنة بالأعوام السابقة، حيث كان اللاجئون والمهاجرون -خاصةً من أصول عربية وإفريقية- الهدف الرئيسي.
اقرأ أيضًا: حكايات النساء بين رحلة الصمود ومحاولة النجاة
وفي عام 2015، تضاعفت الحوادث العنصرية بشكل ملحوظ ضد اللاجئين، خاصة في أماكن إيوائهم. وفي عام 2020 وحده، سجلت الشرطة الألمانية أكثر من 1600 هجوم على مراكز إيواء اللاجئين، ما يعكس تصاعدًا مقلقًا في حدة الكراهية والتمييز ضد هؤلاء الفئات.
وكنت أظن أني هربت من العنف والألم
“تعرضت للتنمر المدرسي بشكل يومي. لم يكن يمر يوم دون أن أسمع سخرية من وزني وشكلي. كان زملائي يطلقون عليّ أسماء مهينة، ويسخرون من كل حركة أقوم بها”.
تنتمي ميرال البالغة من العمر 26 عامًا لمدينة أسوان. وقد انتقلت إلى القاهرة وهي في الرابعة من عمرها، وكانت منذ طفولتها عُرضة للتنمر المستمر بسبب مظهرها. ليس فقط بالمدرسة، بل ومجتمعها الصغير، حيث شارك الجيران في تلك الإهانات.
“لم أكن أستطيع الخروج من المنزل دون أن أسمع تعليقات جارحة. كنت أشعر أنني منبوذة حتى في مجتمعي الصغير”؛ تقول لـ فكر تاني.
الضغوط النفسية التي تعرضت لها دفعتها إلى البحث عن حياة جديدة بعيدًا عن تلك الإهانات، وبالفعل، غادرت مصر ولجأت إلى كندا على أمل الهروب من هذا الألم المستمر. لكن، ما إن وصلت إلى كندا حتى اكتشفت أن كابوسًا جديدًا كان في انتظارها.
“في كندا، لم يكن التنمر بسبب مظهري هذه المرة، بل بسبب هويتي. تعرضت للعنصرية لأنني عربية، وكنت أسمع تعليقات تحمل كراهية وتحقيرًا للعرب، مع نظرات استعلائية في كل مكان”.
شعرت ميرال بخيبة أمل كبيرة بعدما اعتقدت أن اللجوء سيمنحها الأمان. تضيف: “لم أكن أظن أنني سأعاني مرتين. ظننت أنني هربت من القسوة في مصر، لكنني واجهت عنفًا آخر هنا، كأن الألم يلاحقني، سواء بسبب مظهري أو هويتي.. كنت أعمل في مهن شاقة ومتعبة للغاية، وكنت أحصل على أجور زهيدة مقارنة بآخرين يعملون نفس المهن، فقط لأنني لاجئة”.
وعلى الرغم من كل التحديات التي مرت بها، ما زالت ميرال تسعى إلى تحقيق حياة أفضل.
“أحاول ألا أستسلم؛ فلا أحد يجب أن يمر بما مررت به. أحلم بأن أجد مكانًا أخيرًا أعيش فيه دون خوف أو تمييز أو كراهية”.
اقرأ أيضًا: قانون موحد لمواجهة العنف.. خطوة فعالة نحو حماية النساء
العنصرية والتسييس
يقول الدكتور أيمن زهري، خبير السكان ودراسات الهجرة، إن العنصرية لا تزال تشكل تحديًا حقيقيًا رغم القوانين والسياسات التي تسعى لمكافحتها. كما أن الدساتير والقوانين في دول مثل فرنسا وبريطانيا ترفض العنصرية بشكل صريح، لكن المشكلة تظهر في الممارسات الفعلية.
ويوضح زهري أن بريطانيا تمثل نموذجًا للتعدد الثقافي، بينما تتبنى فرنسا سياسات مناقضة لهذا التعدد، وهو ما ظهر بوضوح في الجدل المستمر حول الحجاب والبيكيني والبوركيني.

أما فيما يتعلق بالمرأة العربية، فيشير الدكتور زهري إلى أن “المرأة العربية تواجه تسييسًا لملبسها، سواء في دولها أو في دول المهجر”. ويوضح أن هذه الظاهرة بدأت مع ما عُرف بـ”الصحوة الإسلامية” في العقود الماضية، حيث تم استخدام غطاء الشعر كرمز سياسي، ما أثر بشكل عميق على رؤية المرأة لنفسها وللآخرين، وجعل الكثير منهن يشعرن بأن هويتهن مستهدفة في المجتمعات الغربية.
ويضيف أن التحدي الأكبر الذي تواجهه المرأة العربية في دول المهجر هو “التشتت بين الثقافتين، الموروثة من المجتمع الشرقي والجديدة في مجتمع المهجر”، وأن هذا التشتت يؤثر سلبًا على قدراتهن على الاندماج الكامل في المجتمعات الجديدة.
يشير زهري إلى أن العديد من النساء العربيات لم يستطعن الوصول إلى المناصب العليا إلا من خلال التكيف الكامل مع ثقافة المجتمعات الغربية.
ويختتم حديثه لـ فكر تاني: “ورغم مرور أكثر من سبعين عامًا على الهجرة، لا تزال العديد من النساء العربيات يعشن في ما يشبه -الجيتو الثقافي-، وهو ما يحد من فرصهن في التعليم والعمل والترقي الاجتماعي”.
تعقيدات عدة
تعكس الصحفية سلافة مجدي تعقيدات تجربتها كمغتربة وصحفية في المنفى، حيث تعمل في مجال حساس يتناول قضايا اللاجئين السياسيين والمهاجرين لأسباب سياسية، بينما تزيد هذه الظروف من التحيزات العنصرية والسياسية ضدها.
تقول سلافة إن العنصرية التي تواجهها تتجاوز التمييز العرقي أو الجنسي، لتصبح مشحونة بمواقف سياسية سلبية. وتذكر: “لا أُرى فقط كـ ‘امرأة عربية’، بل أُصنّف أحيانًا كشخص يمثل تهديدًا أو ‘صوتًا مزعجًا’ لمناقشتي قضايا حساسة بالنسبة لبعض الدول المضيفة”.
وتضيف أن العنصرية التي تواجهها لا تقتصر على المجتمع المحيط بها فقط، بل تمتد إلى بعض المؤسسات التي يُفترض بها توفير الحماية للاجئين والمهاجرين.

وتلفت النظر إلى أن الخطاب العنصري ضد اللاجئين غالبًا ما يتداخل مع مواقف موجهة ضدها كصحفية ومدافعة عن حقوق الإنسان: “ما يُعزز مناخًا معاديًا يجعل من الصعب العثور على أماكن آمنة أو فرص عمل تتيح بناء حياة جديدة”.
وتشير سلافة إلى أن النساء العربيات، وخاصة اللاجئات السياسيات، يُعانين بشكل مضاعف بسبب التمييز الجندري في أماكن العمل والتعليم، حيث تُرفض العديد منهن تحت ذريعة عدم توافق مؤهلاتهن مع المعايير المحلية رغم امتلاكهن الكفاءات المطلوبة. ويواجهن تحيزات متعددة مثل كونهن أمهات عازبات أو يعشن بعيدًا عن مراكز العمل.
وتتناول سلافة أيضًا موضوع التحرش والملاحقة التي تتعرض لها النساء العربيات في الخارج: “المرأة العربية، التي قد تختلف في أفكارها أو مظهرها عن المجتمع المحيط، تجد نفسها أحيانًا مستهدفة ليس فقط من المجتمع الغربي، بل من الجالية العربية المحيطة بها أيضًا”.
وفيما يتعلق بتعامل المؤسسات الحكومية في الدول المضيفة مع شكاوى اللاجئات المتعلقة بالتمييز والعنف، أشارت مجدي إلى أن التعامل الحكومي غالبًا ما يتسم بالبيروقراطية والتباطؤ. ورغم وجود بعض المبادرات الإيجابية لدعم اللاجئات، مثل الرعاية الاجتماعية والنفسية، تؤكد: “هناك حاجة لمزيد من الدعم لهذه المبادرات كي تتمكن من الاستمرار”.
وتختتم سلافة بالحديث عن تجربتها مع بعض اللاجئات السودانيات في مصر، اللاتي تعرضن لتمييز وعنف وكراهية، مشيرة إلى أنهن: “لم يحصلن على حقوقهن عند الإبلاغ عن الاعتداءات، سواء كانت تحرشًا أو اغتصابًا، بسبب النظرة المجتمعية المتدنية تجاههن”.
