في الجزء الثاني من كتابه "مجرد ذكريات"، تحدث المؤرخ والسياسي المصري رفعت السعيد عن الفلسفة التي بُنيَ نظام الرئيس السادات على أساسها، تجربة التعددية الحزبية (الثالثة)، والتي أطلق عليها السعيد نظرية (الخيط والعصفور). وتعني هذه النظرية تمتع الأحزاب بهامش للحرية يتسع ويتقلص حسب طول الخيط المربوط في قدم العصفور، الذي يحلق ويطير معتقدًا بحريته في أن يقول ويشاغب ويعارض، رغم أن جَذْبَةً واحدة للخيط قادرة على أن تعيده للواقع وتجعلَه يلتصق بالقفص، بحيث لا نستطيع التفرقة بين مكانه بجوار القفص أو داخله.

والمُدقِّق في كافة التجارب الانتخابية التي جرت بداية من الفصل التشريعي (الثاني) لمجلس الشعب عام 1976 وصولاً إلى الفصل التشريعي (الدراماتيكي) لمجلس 2010 يستطيع أن يتبين وبوضوح مدى نجاح تلك النظرية السلطوية وكفاءتها في احتواء طموحات الأحزاب السياسية وتحديد حجمها ومكانتها على المستوى النيابي والجماهيري، قياسًا بالسلطة وحزبها الأساسي (الحزب الوطني).
حدث ذلك إلى الدرجة التي جعلت العديد من المفكرين والخبراء يعتبرون أن تكلس وهامشية الأحزاب السياسية القائمة، وفساد تركيبة النخبة التي شغلت المقاعد النيابية، كان من ضمن الأسباب البارزة للفوران الشعبي الحاد والغاضب في يناير 2011، وما استتبعه من مواقف وانحيازات سلوكية للسلطة المضطربة. ومن بين ما أنتجته تلك الانحيازات، الذهاب بالتجربة الحزبية إلى حالة من السيولة، التي قفزت بعدد الأحزاب المشهرة قانونًا من (24) حزبًا في نهاية 2010 إلى (108) أحزاب في نهاية 2019، دون أن يترتب على تلك القفزة العددية تنوع فكري أو رسوخ جماهيري يعبر عن قطاعات المجتمع أو فئاته المختلفة. بل أصبحت تلك النخب أدوات يستخدمها البعض (مع/ضد) الدولة بحسب تداعيات المشهد العام أو القدرات المالية واللوجستية للعناصر المسيطرة عليه.
وبذلك أصبح السؤال الدائم والمتكرر في كافة حوارات الإصلاح السياسي العام يتمحور حول مدى قدرة وكفاءة الأحزاب السياسية، بشكلها القائم، على القيام بدور البديل السياسي أو طرح رؤى مغايرة للسياسات العامة القائمة لدى النظام، فضلًا عن كونها معززًا إضافيًا لاعتماد الإطار الديمقراطي التنافسي في بناء النظام السياسي.
التعددية السياسية والحزبية
فبالرغم من تأكيد المادة (الخامسة) من الدستور على اعتبار التعددية السياسية والحزبية أساسًا للنظام السياسي، والتي بموجبها نصت قوانين الانتخابات النيابية ذات الطابع التنافسي (النواب - الشيوخ) على اعتماد النظام المختلط (الفردي - القوائم المغلقة المطلقة) كأساس لتشكيلها، مع الوضع في الاعتبار التطور الشكلي الذي طرأ على نسب التقسيم العددي لحصص المقاعد من 120 مقعدًا للقوائم مقابل 448 مقعدًا للفردي في انتخابات مجلس النواب 2015، لتصبح مناصفة كاملة في انتخابات 2020، بواقع 284 مقعدًا لكل نظام، مع وجود قائمة انتخابية مهيمنة في التجربتين تضمن بداخلها تحالفًا حزبيًا متنوعًا، جرى التأكيد المتكرر على أنه تحالف انتخابي وليس سياسيًا. إلا أن النتائج الفعلية لهذا النمط لم تعكس أي تطور أو تقدم في أداءات تلك المجالس، مما يعزز الاعتماد على تلك النظرية كوسيلة لتطوير الممارسة العامة وتحقيق الرضا الشعبي العام عن إفرازاتها النوعية.

ولعل من أبرز دلالات الاختلال في تركيبة المشهد الحزبي والنوعي للمجلس التشريعي أن تجربة القائمة العددية المحدودة للقوائم في انتخابات 2015 والتي حققت تمثيلاً حزبياً توقف عند ( 249 ) مقعدًا استطاعت أن تضمن وجود (20) حزبًا سياسيًا داخل المجلس بعكس تجربة انتخابات 2020 والتي زاد فيها عدد المقاعد المخصصة لنظام القوائم وارتفاع تمثيل الأحزاب السياسية إلى ( 502 ) مقعد وتقلص عدد النواب القادمين من المجلس السابق إلي (176) نائبًا مقابل ( 419 ) نائبًا جديدًا إلا أنه كان من اللافت تقلص عدد الأحزاب الممثلة بعضوية المجلس إلى (13) حزبًا فقط.
بينما على مستوى الممارسة البرلمانية ذات المنطلق الحزبي والتوجه السياسي القائم على أساس أيديولوجي، فقد أظهرت التجربة البرلمانية الأخيرة حالة من الهشاشة والضعف غير المسبوق في الممارسات المباشرة للنواب، سواء على مستوى الكلمات خلال الجلسات العامة أو على مستوى تنوع وثراء الأدوات البرلمانية المستخدمة.
وقع ذلك بصورة جعلت من العسير التعرف على مواقف تلك الأحزاب تجاه بعض القضايا المصيرية التي خالف فيها نوابها ما هو معلن من مواقف أحزابهم، والتي افتقدت الكثير منها لتنويعات الممارسة ذات التباين الحزبي، التي يُفترض فيها القدرة على تقديم خطابات ورؤى متفاوتة، أو طرح حلول بديلة للسياسات التي تقدمها الحكومة وتدعمها أحزاب الأغلبية. بل وحملت بعض القضايا ظواهر برلمانية غير معتادة، مثل: تفتت تصويت نواب الأحزاب محدودة التمثيل، وتهرب العديد من نوابها عن حضور الجلسات، أو الالتزام باستخدام الأدوات المتاحة للكشف عن تصويتهم، حتى وصل الأمر ببعض هؤلاء النواب إلى تغيير أماكن جلوسهم لتكون وسط مقاعد نواب الأغلبية.
مسح بحثي
وهو ما رصدته العديد من الدراسات البحثية المتتبعة لتطور الممارسة البرلمانية. فقد أشارت إحدى المسوح البحثية، قيد الطبع، التي جرى تنفيذها على عينة قوامها (100) نائب بالمجلسين إلى فشل (79) منهم في تحديد الانتماء الحزبي لأحد النواب الشباب بالمجلس، ضمن سؤال يستفسر عن الانتماءات السياسية لعدد (10) نواب. بينما فشل (88) نائب في تحديد الرقم الحقيقي لعدد الأحزاب المتواجدة بالمجلس. فيما كان الأغرب هو فشل العديد من النائبات المتواجدات ضمن العينة في تحديد عدد النائبات داخل المجلس الحالي.

أما على مستوى الأدوات البرلمانية المتاحة للنواب، فقد عجز (66٪) من العينة في تحديد الفارق بين (مشروع القانون / الاقتراح بقانون / القرار بقانون)، كما لم يتمكن (47٪) من تأكيد معلومة مناقشة المجلس لاستجواب برلماني خلال الفصل التشريعي الحالي من عدمه، فيما فشل (91٪) من العينة في تحديد الفوارق اللائحية والتنظيمية بين طلبات إعادة (المناقشة / المداولة) عند إقرار مشروعات القوانين.
لذا، كان من الطبيعي والمنطقي أن تفتقد المجالس النيابية الدعم والمساندة الشعبية، أو النظر إليها باعتبارها أداة تنافسية ذات طابع مصلحي تصلح لتمثيل طوائف وفئات الشعب أو للتعبير عن طموحاتها وآمالها. حتى اضطر رئيس الجمهورية للدعوة إلى حوار وطني سياسي مفتوح حول مختلف القضايا المجتمعية، مع تعهد شخصي من جانبه بدعم ومساندة وتنفيذ ما تتوافق عليه تلك القوى، لتكون تلك الدعوة بمثابة "رصاصة الرحمة الأولى" لبيان عدم الرضا عن التركيبة المجلس، وإعلان صريح أن القواعد والمعايير التي تمت على أساسها تفضيلات الاختيار والتكوين لم تعد تصلح للاستمرار، ونحن على أعتاب مجلس جديد.
اقرأ أيضًا: النظام الانتخابي.. ماذا نريد منه؟
مراجعة شاملة
واقع الممارسة، والحال الذي صرنا إليه، يشهد بأن آلية التشكيل وقواعد المفاضلة والاختيار، التي تمت على أساسها التجربة الأخيرة لتكوين تلك المجالس، تحتاج إلى مراجعة شاملة وحقيقية، لقياس مدى قدرة مخرجات المشهد النيابي الحالي على التعبير الحقيقي عن هموم واحتياجات المواطنين، وطرح البدائل المناسبة للتعامل معها من بين السياسات الممكنة التطبيق. وذلك بأكثر مما يتوجب من تقييم تلك التجربة وفقًا لمستهدفات وقناعات الأطراف الرسمية المنوط بها متابعة وإدارة المشهد التفاعلي المستدام لتلك التركيبة عبر السنوات الماضية.
فالمجالس النيابية التي تشكلت لتكون معبرة عن رغبات وتطلعات المواطنين من جانب ومعاونة للسلطة التنفيذية في تقييم سياساتها وتقديم بدائل عنها، فشلت في تحقيق أي من الهدفين السابقين، بل أصبحت أحد أهم أسباب الاحتقان المجتمعي، في ظل عزلتها وانقطاع صلتها بالقواعد الجماهيرية ذات الوعي المنضبط، بقدر ما صارت عبئًا على النظام السياسي وخصمًا من رصيده الشعبي.
قد يبدو السؤال الذي تضمنه عنوان المقال متأخرًا كثيرًا في توقيت طرحه أو في إمكانية القدرة على توفير بيئة موضوعية مدعومة بالحقائق والأسانيد الحقيقية لمناقشته، إلا أنه في مقابل هذا التحدي تتبدى عظمة الثقافة المجتمعية وقدرتها على التلخيص المعجز، والتي تقول بأن القدوم متأخرًا ربما يكون أفضل بآلاف المرات من ألا تأتي مطلقًا، خاصة وأن ثمن الغياب الذي دفعناه في السنوات (الخمسة) الماضية من عمر الحياة والتجربة الديمقراطية صار من الصعب، بل ومن المستحيل، تخيل استمراره معنا لخمس سنوات أخرى قادمة.
وللحديث بقية.
كاتب المقال: مدير المجموعة المصرية للدراسات