رسوم – سلمى الطوبجي:
صباح يوم جديد. عازمُ أنا أخيرًا على التحرر، لا أجيد البقاء بين قطعان الماعز. حان موعد عبوري من باب الخروج، وقد أردتُ له أن يكون على الطريقة الفشيرية: “لن أدعهم يفلتون بفعلتهم هذه المرة. لا، ليس هذه المرة. هذه غضبتي”.
غضبتي بعد الذي حدث لزميلي “سيد إبراهيم” الذي سقط مرات أمامنا بتوابع استنشاق الكلور المميت. غضبتي لأن هذا الانهيار في مؤشراته الحيوية لم يكن أعلى من صوت المكن، لم يعطل ساقية العمل، لم يؤثر في تعليمات المشرفين ومناديب مكاتب دوريات السخرة.
لن أدعهم يفلتون لأن الجميع داسوا بأقدامهم القانون رقم 12 لسنة 2003، وما نص عليه من ضوابط حماية العمال من مخاطر العمل.
سأغادر عل البقية يتمكنون. سأغادر لأننا لسنا أسماكًا صغيرة في حوض “القطط السمان”.
سأغادر أنا حسين جعفر، الذي ترك الصحافة مؤقتًا، مرغمًا، هاويًا إلى عالم سُفلي (مصنع الفلاتر ومبردات المياه في العاشر من رمضان)، حيث 1000 غيري من المكبلين بيد كفيلهم ومعاونيه، في ماكينات الإنتاج، وفي أسرّتهم. سأغادر، ولكن ليس قبل أن تنقل عيني ما أراه الآن.
فئران المعمل وكلور المصنع
“زي ما أنت عارف أنا بشتغل في تنضيف التانكات بالكلور وحتة خرقة قماش. كنت بقول أهي شغلانة والسلام لحد لما بدأت أحس باللي بيحصل لي”.
يستخدم الكلور الخام هنا في المصنع لتنظيف المنتجات من تانكات وزمزميات.
يعمل “سيد إبراهيم” وآخرون على سير يمر فوقه ما يزيد على 5 آلاف تانك ينتجها المصنع يوميًا، بينما تُصرف لهم قطعة من القماش وجركن صغير من الكلور، دون أي وسائل حماية لأجسامهم وأنوفهم من الكلور الذي يتعاملون معه ويستنشقونه طوال فترة عملهم.
“ساعة بعد ساعة، بدأت أحس بحرقان في ايديا الاتنين. عارف يا حسين لما قلت للمشرف عمل ايه. سلّمني فردة واحدة من جوانتي بلاستيك. ولما سألته مش المفروض فيه حاجة اسمها بدل مخاطر عمل، الكلور ده هيقضي علينا، رد عندك حق، روح قول كده للإتش آر، مش هايخليك تحط رجلك في المصنع تاني”.
قال هذا رغم أن قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 يُجبر المنشآت على الالتزام بتوفير وسائل السلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة عمل خالية من مسببات الحوادث أو الإصابات أو الأمراض المهنية؛ بما يضمن صحة العاملين وحفظ حقوقهم وتحسين مستوى العمل داخل كل منشأة.
كان المكان يشبه إلى حد بعيد معسكرات النازية في أداء المشرفين، لا ينقصه فقط سوى علم ضخم للرايخ يُعلق أمام أعيننا نحن الفئران التي اختبرت كل آثار القسوة والإهمال والكلور، حيث تسقط كل التحذيرات الطبية الصادرة عن المنظمات الصحية العالمية، وتبدأ أعراض الكحة الشديدة وسيلان الأنف والاختناق وضيق التنفس والغثيان والقيء والصداع ونقص الأكسجين، وأخيرًا الاحتمال الأرجح بتوقف القلب.
لامس “سيد إبراهيم” هذا تقريبًا، في يومٍ أسود، حين أُلقي على سريره المهترئ، بالكاد يتنفس، يعاني من عطس ورشح وسعال شديد. أبلغ مشرفه بطلب راحة وسُلفة لشراء دواء، لكنه رفض. قال: “بص يا سيد هو ده النظام. أنت تتحمل نفسك في المرض والغياب”.
لم يكترث أحد بحالته الصحية، ولم يحصل على إجازة الجمعة.
فئران المعمل لا تحصل على أية امتيازات. هكذا هو حالها دائمًا. تغيب مرضًا فيكون الجزاء خصمًا. لا يهم أبدًا إن ماتت إحداها ففي المعمل ألف فأر آخر. لكنني “خلاص” ما عدتُ ضمن فئران هذا المصنع.
اتخذت قراري وأنا أعلم أن هذا سيكلفني الكثير، إلا أنني كنت قد أوشكت على التمرد.
قال لي رئيس الخط: “لو عايز تشتغل ع الخط ده يا حسين هتشتغل في الكلور”، فجاوبته: “شكرًا.. دمي كله كلور يا شيخ عتمان”، ثم بدأ الاضطهاد عقابًا لتمردي.
جنتنا من صفيح
في كل سجن هناك عجوز صالح، صاحب فلسفة في الحياة، رؤوف رحيم بالمعذبين الجدد. وهكذا كان “عم عرفة“؛ حامل مفاتيح الصبر في مصنع العاشر.
“هنعمل إيه طيب، حكم القوي ع الضعيف يا حسين يا ابني”.
كان مريدو “عم عرفة” يلتقونه دومًا داخل عشة كبيرة من الصفيح، تتوسطها دكك خشبية استندت على براميل مقطوعة من المنتصف لإلقاء بقايا السجائر.
جنة عدن في أدبيات عمال مصنع العاشر كانت من صفيح، يقف على بابها عجوز خط الشيب مسارات في رأسه، بوجه مشوب بالحمرة، أبيض، نحسبه نورًا، يربت على أكتافنا، يعرفنا نحن الألف بأسماء كل واحد منا.
عم عرفة، توفت زوجته، وتزوج أبناؤه، ولا يبقى سوى المصنع. لن يغادره وإن بقي المُعذب الوحيد فيه. هنا يقتل “عم عرفة” أيامه الأخيرة الرتيبة، مستأنسًا بنا نحن الذين يسميهم عياله.
“كنت بعمل حسابي إننا هنطلع الساعة 8 إلا ربع، أنزل أشرب سيجارة، أخش الحمام، أتشطف، ألبس لحد الأتوبيس ما ييجي، ما احنا من الساعة 5 إلا عشرة للساعة 8 إلا ربع ما اتحركناش من على السير، لكن نعمل إيه يا حسين يا ابني في التعليمات الجديدة، يللا حكم القوي ع الضعيف”.
ملاكنا اسمه “عم عرفة”
ما رأيت “عم عرفة” إلا راضيًا بما قُسم له من أنين وأمل في نعيم أخروي، يقول عنه: “أنا قابل اللي أنا فيه عشان أنا في آخر أيامي وبعدين أكيد يعني ربنا شاف الجحيم اللي عشناه هنا، مستحيل يجمع علينا جحيمين في الدنيا والآخرة”.
لا يحب عم عرفة يوم الإجازة. لا يحب الثورة، ولا يجازف بتغيير الوضع البائس. وإن مرت كل نعال أصحاب المعالي سيبدو كمن لا يبالي.
فقط الوحدة هي رعب “عم عرفة” وشيطانه الذي يستعين بالأنس منه وبـ”توكتوك” يُلف به – كلما اشتاق – على بيوت الحبايب من الأبناء والأقارب.
– “سمعت يا عم عرفة إن عندك حتة أرض، ليه بعيد عنها؟.. حد يبعد عن الخضرة!”.
— “كنت بروح الأرض أنا وأم العيال، دلوقت اروح مع مين يا حسين يا ابني. خلاص بقى، سيبت الأرض للعيال، وبضيع اليوم في الشغل هنا، لكن لما بيكفروني في الشغل باخدلي يوم إجازة ألف على الحبايب.. صحيح بصرف أضعاف ما ببقى شغال هنا، بس ببقى مبسوط أوي وأنا شايف أحفادي.. أنا طول الوقت شايل هم ازاي أقضي اليوم عشان ما ابقاش وحدي”.
في برزخنا حكايات
في عُشة الصفيح برزخنا ما بين الجحيم وأحلامنا. هنا حكايات كثيرة للمارين بين مكتبي “أ” و”م”. هنا يلتقي السمك الصغير قبل أن يلتهمه السمك الكبير، بتعبير “عم عرفة”.
“طارق محمد”، شاب في الثامنة والعشرين، حصل قبل سنوات على دبلوم في التجارة، يعول والدته بعد وفاة والده، وضياع حقه في ميراثه.
“بلع فلوسي في بطنه، وادينا أهو مش لاقيين حتى ندفع لمحامي يرفعلنا قضية ومش عارفين نجيب أصول الورق اللي يثبت حقوقنا.. تخيل يا عم حسين كان زماني فين دلوقتي لو معايا فلوس أبويا.. دلوقتي يا دوب كل أحلامي أجيب حق إيجار شقة لأمي هنا بدل الشحططة رايح جاي.. ما بلحقش حتى أشوفها واترمي في حضنها أعيط واغسل همومي”.
لم يكن عم الشاب طارق من صفوة المتعلمين، لكنه طبّق نظرية ميكافيللي بحذافيرها، وهو مثال حي يثبت ما آمن به الفيلسوف البريطاني توماس هوبز؛ أن الإنسان ذئب أخيه الإنسان، يبدّل في العقود والأوراق اسم اخيه باسمه، فيستولى على ما يزيد عن 20 مليون جنيه، كانت كفيلة أن تنقل “طارق” من طبقة المصريين في مصنع العاشر إلى طبقة “الإيجبشينز” على شاطئ البحر في الساحل.
كلنا بنكح “دم”
بالكاد أمسك “سعيد البحيري”، وهو شاب في الثلاثينيات من عمره، سيجارة أشعلها. يده تملأها الجروح.
“ما تبصليش يا عم حسين، احنا لو لاقينا حاجة أنضف من اللي احنا فيه كنا هنترمي ليه الرمية دي.. عندي حساسية من الحشرات والبق مالي السراير زي ما أنت عارف”.
“سعيد” واحد من نحو 13 ألفًا و643 خريجًا في كليات الزراعة التي يقدر عددها بـ 17 كلية على مستوى الجمهورية، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2020. وهم مُعطلون أيضًا بفعل الأزمات المتلاحقة التي تطال قطاع الزراعة في مصر، وآخرها أزمة الأسمدة، يقول حينما يحدثنا عن دراسته: “خريج كلية زراعة، تفتكروا هيلاقي شغل فين؟ أهو رجلي حدفتني هنا ع المصنع ده”.
“ربنا ما بيضعيش عرق وجهد حد يا أستاذ سعيد، حتى لو ما لقيتش حقك النهاردة هتلاقيه قدام”.
هذه الحكمة المعجونة بكثير من أمل الأطفال سمعتها هنا في استراحتنا الصفيحية من “محمد منصور”؛ طالب في الصف الثاني الثانوي، توفي والده الذي كان يعمل مدرسًا، ويعيش مع والدته وأخته التي تكبره بعام، وتستعد لامتحانات الصف الثالث الثانوي.
بأي منطق يعمل طفل مثله داخل هذا الجحيم؟ بأي منطق أصلًا ينشغل بأي شيء آخر غير تحصيل دروسه، بأي منطق يقضي إجازات نصف العام والصيف ليساعد في مصاريف البيت؟
لا منطق فيما نشهد تعليمًا وعملًا وحياةً.
عرفت من هذا الجلد الصغير أنه تنقل بين أكثر من مهنة منذ صغره: عامل في محل عصير، ثم محل ملابس، ومطعم، لكنه أراد هذه المرة أن يقترب من جو القاهرة أكثر، فجاء إلى العاشر.
مات والده بفعل السجائر، كما هو مقدر غالبًا لبقيتنا هنا في كشك الصفيح. “كان بيكح دم يا عم حسين، اترميت في حضنه والدم كان مغرقه، وأنا مش فاهم حاجة.. كنت ببكي واصرخ على أبويا.. وبعد شوية مات زي ما كلنا هنموت”.
تغيرت العائلات المصرية كثيرًا في السنوات الأخيرة تحت ضغط الأزمات الاقتصادية والتضخم الذي وصل إلى 27.1%، وفق أرقام البنك المركزي المصري في مايو 2024، وقد أدرك “محمد” مبكرًا أن لا عم ولا خال له سيحمل ما حمله أبوه من هم أسرته، وبدأ في طاحونة شقاء خط على بابها قول أمه “حتى لو التعليم مش عاجبك أو الشغل مش عاجبك، اعمل اللي عليك واجتهد، وربنا ما بيضعيش عرق وجهد حد، حتى لو ما لقيتش حقك النهاردة هتلاقيه قدام”.
يعمل “محمد” مثلنا 12 ساعة يوميًا، ويقيم مع بلدياته في الحي العاشر، رغم أن القانون يُحرم عمل الأطفال أكثر من 6 ساعات يوميا، تتخللها ساعتان راحة، مع الاشتراط أن لا يكون العمل مضرا بالطفل، ويضع اشتراطات منها موافقة ولي الأمر، وما دون ذلك جريمة يعاقب عليها القانون.
ويحظر الدستور المصري في المادة 80 عمل الأطفال من سن 13 إلى 15 سنة إلا للتدريب على العمل فقط، ويجرم الزج بالأطفال من 15 سنة حتى 18 سنة إلى العمل لأكثر من ست ساعات يوميًا، كما يشير رئيس شبكة حماية الطفل المصري المحامي أحمد مصيلحي.
إلا أن هذا غير مطبق في مصنع العاشر الذي يقبل عمل الأطفال في وقت ذروة الطلب على الإنتاج وقلة العمالة المؤقتة، التي توفر عليهم كثيرًا من تكاليف الإنتاج، ما يضاعف أرباحهم. فلا قانون هنا والكل تروس في ماكينة لا تهدأ.
سيزيف يلقي الصخرة
محمل بحكايات غيري من ضحايا مصنع العاشر، قررت الرحيل أخيرًا.
لم أصدق زملائي في مكتب “أ”، عندما قالوا إن اليوم غياب حتى لو حصلت على إذن من المصنع به. سيخصم المكتب 3 أيام مقابله في كل الأحوال. “تشتغل 3 أيام اليوم 12 ساعة واقف على رجليك بلا أجر لو فكرت بس تريح يوم.. المكتب بيعمل كده بالاتفاق مع المصنع.. يحاسب المصنع على يوم، ومعاه الإذن اللي أنت جبته وسلمتهوله، ويقبض هو الـ3 أيام، ويخصملك أنت.. شفت كده في الدنيا”؛ قال زميلي “طارق محمد”، وكأنه يدغدغ أفكاري: “يا عم قوم حل نفسك من الجحيم ده”.
ذهبت إلى مكتب “الإتش آر” في المصنع، وطلبت إذنًا بالغياب يوم السبت حتى أحصل على يومين إجازة الجمعة والسبت، فوافق، وعندما علم مندوب المكتب في المصنع بذلك، أبلغ صاحب المكتب، ثم أبلغني أن الإذن مرفوض، وسوف يتم خصم 3 أيام مقابل هذا اليوم، فرفضت.
هددتهم.. سأترك العمل والمكتب لو نُفذ علي هذا الخصم.
وصل سيزيف إلى قمة جبل الغضب.
حاول المشرف محمد أن يقنعني بأن هذا حق المكتب، ورفضت منطق الاستعباد في حديثه.
صرختُ في وجهه صرخة أعلى صوتًا من انهيارات زميلي “سيد إبراهيم” المريض باستنشاق الكلور. صرخت وعقلي يضم الطفل الصغير “محمد”، يطمئنه بأن هناك من سيثور عنهم.
صرخت فتوقف المكن فجأة، كل الآلات بدت كأنها تلتفت ذهولًا إلى ذلك العبد الذي تمرد أخيرًا.
كان باب الخروج بعيدًا جدًا وصرختي أسقطت قفله وبدأ أزيز تحرره أخيرًا.
“عشان تسيب الشغل وتاخد ورقك: البطاقة وشهادة الميلاد، وقع على مخالصة بإنك تسلمت كل مستحقاتك المالية في المكتب”؛ قال المشرف محمد بهدوء. اعتاد هذا النخاس مشاهد التمرد وأجاد التعامل معها.
تخيل المشرف صمتي لـ 60 ثانية كاملة صدمة. لم يكن يدري بالجدال يحتدم داخلي بينما يقنع عقلي يداي ألا تطبق على رقبته غضبًا.. وقعت المخالصة، وحصلت على وعد بتسلم حسابي كاملًا لاحقًا، بعد خصم 1550 جنيه، يقولون إنها مستحقات للمصنع ولصاحب المكتب.
بعد 27 يومًا كاملة عملًا في الجحيم تقاضيت 770 جنيهًا، لم تصلني دفعةً واحدة؛ بقيتها تسلمتها في شهر لاحق.. كانوا يعاقبون ذلك المتمرد الذي تحرر أخيرًا من قيده.
تحرر كتف سيزيف أخيرًا وألقى صخرته.. تحرر وخلفه 999 عبدًا آخر ينتظر لحظته.
واقعية جدا ونقلتنا لأجواء المكان ببراعة حتي اني شممت رائحة الكلور واحسست طعم الالم وبشكل سلسل استطعت ان تلملم كل هذا بضوء من الامل ،، تحياتي