بالتزامن مع انتهاء موسم توريد القمح المحلي، حاولت هيئة السلع التموينية استغلال تراجع الأسعار عالميًا لتأمين الجزء الأكبر من احتياجاتها السنوية، عبر ممارسة عالمية كان المفترض لها أن تكون الأضخم في التاريخ، بكميات إجمالية تصل إلى 3.8 مليون طن.
بلغت أسعار القمح (تسليم ظهر السفينة) في منطقة البحر الأسود مستوى 181 دولارًا للطن، بعدما خفضت روسيا الرسوم الجمركية على التصدير لـ 906.4 روبل مطلع شهر أغسطس، مقابل 1540.4 روبل للطن قبلها.
أثارت الممارسة المصرية جدلًا في البورصات السلعية العالمية بسبب ضخامتها، وكذلك بفعل تأخير سداد قيمة الشحنات التي كان يفترض وصولها في الفترة من أكتوبر 2024 إلى أبريل 2025، حال دون استفادة هيئة السلع التموينية منها بشكل كامل، إذ وضعت شرطًا للسداد ليكون بغضون 270 يومًا.
بحسب وزارة التموين، يقترب إجمالي احتياجات مصر من القمح سنويًا سواء للخبز المدعم أو القطاع الخاص بالأسواق من 20 مليون طن قمح.
استوردت هيئة السلع التموينية 7.5 مليون طن من القمح منذ بداية العام وحتى 15 يوليو الجاري، مقابل 5.6 مليون طن في الفترة نفسها من العام الماضي، بزيادة 53% أعلى من متوسط الفترة للواردات في آخر 5 سنوات.
وتسعى الهيئة حاليًا لاستكمال الشراء بـ 3.8 مليون طن متري دفعة واحدة، تُمثل العجز الذي تتوقعه الهيئة العامة للسلع التموينية لإنتاج الخبز حتى أبريل الذي يشهد بداية الحصاد المحلي وتوريده من قبل المزارعين.
تغيير تكتيكي أم إخفاق حكومي؟
يقول هاميش كينير، المحلل البارز لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في شركة “فيريسك مابليكروفت”، إن المناقصة المصرية الضخمة أول إشارة واضحة على تغيير تكتيكي في فكر الحكومة الجديدة، والسعي لتعويض مخاطر ارتفاع مفاجئ في الأسعار لاحقًا هذا العام.
في أول مؤتمر صحفي بعد توليه الوزارة أخيرًا، قال وزير المالية إن هناك انخفاضًا في أسعار السوق العالمية، ما يمثل فرصة لشراء ما تحتاجه البلاد من سلع.
ومع ذلك، لم تنجح هيئة السلع التموينية في شراء مستهدفها المطلوب إلا بنسبة تكاد لا تذكر، بسبب أن الأسعار المعروضة في العطاءات كانت مرتفعة جدًا؛ وفق رأي مدحت نافع الخبير الاقتصادي ورئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية سابقًا.
وبسبب تأخير السداد وارتفاع المخاطر، رفع الموردون أسعارهم؛ ليبلغ أقل سعر تلقته مصر في ممارستها من نصيب القمح الأوكراني نحو 244 دولارًا للطن المتري، دون احتساب تكاليف الشحن.
اقرأ أيضًا: “دولة مدبولي” التي تتحمل دون المواطن
ولم تصادف المناقصة المصرية إقبالًا كبيرًا بسبب شروط الدفع غير الجذابة وارتفاع الأسعار، إذ تلقت الهيئة كمية تبلغ 280 ألف طن من إجمالي 3.8 مليون طن، واضطرت إلى اتخاذ منحى آخر بإجراء محادثات مباشرة لشراء كميات كبيرة من القمح من مناشئ أغلبها روسي.
التحوط ضد التقلبات مطلوب.. ولكن
يشدد مدحت نافع على أهمية التحوّط ضد تقلبات الأسعار العالمية باستخدام عقود الخيارات والعقود المستقبلية والآجلة عوضًا عن اتخاذ مركز شرائي كبير عن طريق تراكم المخزون السلعي حتى لو كانت شروط التسليم والسداد فيها شق آجل فهذا لا يعني أن العقد آجل.
ظلت السلع التموينية تعتمد على شراء شحنات قصيرة الأجل للشحن بعد شهر أو شهرين، وليس لفترة طويلة كالتي تغطيها هذه الممارسة التي تمتد من أكتوبر إلى أبريل. وذلك رغم وجود احتياطيات القمح الاستراتيجية كافية لمدة 6 أشهر، بحسب وزارة التموين.
يضيف “نافع” أنه من المحتمل أن تكون المناقصات كبيرة الحجم سببًا في رفع الأسعار، لأنها إشارة إلى ارتفاع الطلب بشكل استثنائي. ومن الحكمة -وفق “نافع”- أن يتم تقسيم المناقصات لعدم تشويه الأسعار من ناحية وللاستفادة من موسمية سوق القمح طوال العام.
وارتفعت العقود الآجلة للقمح الأوروبي بعد أن فاجأت مصر السوق بإعلانها عن ممارستها الدولية للشراء لتحقق العقود الآجلة للقمح لشهر سبتمبر في “يورونكست”، بنسبة 1.2%، إلى 238.50 دولار للطن.
وبحسب متعاملين بالسوق العالمية، فإن شركتي يونايتد جرين ودميترا الروسيتين يمكن أن يوفرا كميات القمح التي تجري مصر مفاوضات مباشرة بشأنها، في ظل المخزون الوفير لمحصول روسيا وخطة زيادة صادراتها الزراعية 150% بحلول 2030.
زادت وزارة التموين السعة التخزينية للأقماح داخل الصوامع إلى ما يقرب من 5 ملايين طن مقابل 1.2 طن قبل عام 2014، لتقليل نسبة الفاقد من القمح التي كانت تتراوح ما بين 10 و15%، بسبب سوء التخزين في الأماكن المكشوفة.
لكن وزارة التموين حاليًا تستهدف زيادة المخزون المحلي ليكفي 9 أشهر.
ووقعت الشركة المصرية القابضة للصوامع والتخزين التابعة للوزارة نهاية مايو الماضي، مذكرة تفاهم لإنشاء 5 صوامع جديدة لتخزين الأقماح، بالتعاون مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
انتهاء التوريد المحلي.. ما الذي تحقق؟
تحركات السلع التموينية جاءت مع انتهاء موسم توريد القمح المحلي لعام 2024 الذي بدأ في أبريل الماضي، وانتهى الخميس 15 أغسطس الجاري، لتغلق جميع المواقع التخزينية التابعة للجهات المُسوقة الرئيسية للقمح المحلي أبوابها، على أن يتم سحب واستخدام الأقماح المحلية للطحن من المواقع التخزينية المحددة من لجنة برامج القمح التمويني، طبقًا لنسب الخلط المقررة.
جمعت وزارة التموين 3.4 مليون طن قمح، من أصل 3.5 مليون طن كانت تستهدفها خلال موسم توريد القمح المحلي بزيادة 10 آلاف طن عن موسم 2023، وبأقل 300 ألف طن عن موسم 2022.
ما مستقبل التوريد المحلي الجديد؟
بحسب حسام الجراحي، نائب رئيس الهيئة العامة للسلع التموينية التابعة لوزارة التموين والتجارة الداخلية، فإنه مستهدف، خلال الشهرين المقبلين، الإعلان عن الأسعار الاسترشادية للقمح في الموسم الجديد 2025.
يقول الجراحي إن السعر الجديد سيتضمن تغطية كل تكاليف الزراعة والمتغيرات التي طرأت على التضخم والأسعار، مشيرًا إلى أن تعاقدات الهيئة السابقة أسهمت في تخفيض الأسعار لدى البورصات العالمية، خاصة أن مصر أكبر مشترٍ للقمح.
اقرأ أيضًا: “زيادة الفلوس هترضي النفوس”.. ماذا يحتاج مزارعو القمح من الحكومة؟
في مارس 2024، رفع مجلس الوزراء سعر توريد القمح المحلي لموسم 2024-2025، إلى 2000 جنيه لأردب القمح 23 قيراطًا ونصف، مقابل 1600 جنيه، قد حددها سلفًا لتشجيع المزارعين على التوريد (الإردب حوالي 150 كيلو جرام).
وخفضت الحكومة المصرية هدف الاكتفاء الذاتي من القمح للعام المالي الحالي 2024/ 2025 ليبلغ 51% وهو رقم أقل من الهدف المعلن لعام 2025 في وقت سابق عند 65%.
في المقابل، كان الاعتماد أكبر على الاستيراد، إذ ظلت السوق الروسية متصدرة قائمة أكبر مورد للقمح إلى مصر منذ بداية العام بنحو 5.8 مليون طن مثلت 77% من إجمالي الواردات، مقابل 4.5 مليون طن في الفترة نفسها من العام الماضي.
حلت أوكرانيا في المرتبة الثانية بإجمالي كميات بلغت 1.6 مليون طن مثلت 15.5% من إجمالي واردات الفترة، مقابل 657 ألف طن، مثلت 11.7% من إجمالي واردات الفترة نفسها من العام الماضي.
مصر تريد معاملة تفضيلية
مع تعقد الممارسة الكبرى للقمح، قال وزير التموين شريف فاروق، في تصريحات صحفية: “قد يكون هناك تعاونًا مباشرًا مع حكومة أجنبية”، وذلك في خضم تعليقه عن كيفية تدبير احتياجاتها من القمح البالغة 3.8 ملايين طن قبل نهاية 2024.
وأضاف فاروق: “لابد أن تحظى مصر بمعاملة تفضيلية عند استيراد القمح سواء من حيث شروط الدفع أو الأسعار التفضيلية، كونها أكبر مستورد للقمح في العالم”.
لكن نادر نور الدين، مستشار وزير التموين الأسبق، يقول إن كون مصر أكبر مستورد للقمح في العالم أمر يعتبر نقطة ضعف وليس نقطة قوة ويمكن أن يسبب منع التصدير لمصر في تضاعف سعر القمح ومشكلات فيما يتعلق بإنتاج الخبز والمكرونة.
أضاف أن شراء القمح العالمي يتم عبر البورصات العالمية طبقا للسعر المعلن يوميا والمحدد بناء على الإنتاج العالمي للدول المصدرة الكبرى ثم إنتاج الدولة المكتفية ذاتيا وكثيفة السكان خاصة الصين والهند والتي لو دخلت إحداها كمشترٍ جديد قد تسبب ارتفاعًا قويًا في الأسعار، موضحا أن مصر كانت تطلب من المناشئ الكبرى لتصدير القمح منحنا بعض المنح أو إهدائنا صوامع ولكن ليس في السعر.