كانت الطائفة البهائية موجودة في مصر منذ الأسس الأولى للديانة، التي تأسست في القرن الـ 19 في إيران على يد ميرزا حسين علي نوري بهاء الله. فبحلول عام 1900، انتشرت مجتمعات صغيرة من البهائيين الإيرانيين والمتحولين المصريين في جميع أنحاء مصر، لكنهم دخلوا في توترات مع أتباع الديانات الأخرى، أدت إلى ترحيل البهائيين الإيرانيين، ثم استهداف البهائيين المصريين وممتلكاتهم بالعنف.
يعترف البهائيون بالعديد من الأنبياء، بما في ذلك محمد وعيسى، وكريشنا وبوذا وبهاء الله، وديانتهم توحيدية عالمية، يؤمن أتباعها بالوحي التدريجي، بحيث يكون لكل عصر نبيه ووحي خاص بذلك الوقت، وفق ما يرد بمدرسة اللاهوت في جامعة هارفارد. وقد واجهوا أزمة كبرى منذ العام 1960 مع إقرار القانون رقم 263 في عهد جمال عبد الناصر، الذي منح اعترافًا حكوميًا رسميًا بالإسلام والمسيحية واليهودية فقط. الأمر الذي أدى فعليًا إلى تجريدهم إلى جانب أتباع الديانات الأخرى والملحدين من الحقوق التنظيمية، فمنعوا من الحصول على وثائق حكومية رسمية مثل شهادات الميلاد والزواج، وأجبرتهم الحكومة على إغلاق أماكن العبادة الخاصة بهم، كما تمت مصادرة ممتلكاتهم.
وقد ازداد وضعهم سوءًا مع إدراج المادة 2 من الدستور في عام 1971، والتي أعلنت أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع المصري. وعلى هذا النحو، فإن أي دين لا يعترف به علماء الإسلام على أنه شرعي لا يمكن أن تعترف به الدولة.
واستمر الوضع في التضييق حتى أحيل إلى القضاء بدعوى استمرت لقرابة 9 سنوات، قبل أن تقضي محكمة القضاء الإداري في 2008 بحق البهائيين في عدم ذكر ديانتهم بالوثائق الرسمية، وترك خانة الديانة بالبطاقة خالية، لكنها ذكرت أيضًا أن البهائية ما تزال دينًا محظورًا غير معترف به في البلاد. وهو الوضع الذي تفاقم تطورًا إلى المنع من إقامة مقابر خاصة بأتباع هذه الديانة، والذي يتحدث عنه بين أمور أخرى تشغل هذا المجتمع، في حوار خاص مع "فكر تاني"، الدكتور رؤوف هندي، وهو من أبناء الجيل الرابع للبهائيين في مصر، وأحد أبرز النشطاء الحقوقيين المصريين المهمومين بالقضية البهائية، صاحب قضية العام 2008، التي حصل بموجبها على حق توثيق شهادات ميلاد أبنائه دون الاضطرار لنسبتهم إلى دين آخر.
إلى نص الحوار:
ضحايا تمييز ينتظرون تطبيق الدولة المدنية
يقول "هندي" إن البهائيين في مصر يتعرضون لأبشع صور التمييز ضدهم. فرغم تمكنهم من الحصول على واحد من أحكم القرارات القضائية في تاريخهم بعدم نسبهم للمسيحية أو الإسلام، إلا أنهم لا يزالون ضحايا للتضييق والحرمان من فرص المواطنة، بدءًا من التعليم برفض انتسابهم للمدارس الحكومية، وإجبارهم على التعليم الأجنبي حيث يزداد العبء الاقتصادي عليهم، وصولًا إلى حرمانهم من التقديم بمشروعات السكن الحكومية لأن الدولة لا تمنح الأولوية للعائلات التي لا تعترف بعلاقاتها الزوجية، انتهاء بتضاءل فرص التحاقهم بالعمل في القطاعين الخاص والعام على حد سواء.
المرأة البهائية.. حقوق أقرها دينها وحرمها إياها المجتمع
"المرأة البهائية متساوية مع الرجل في عقيدتهما البهائية، وتتمتع بالحقوق والواجبات نفسها، بما في ذلك الميراث وحق العمل والتعليم وطلب الطلاق. ومع ذلك، فإنها تعاني من عدم الاعتراف بحالتها الاجتماعية بسبب أنها بهائية وهي في نظر القانون والمجتمع غير متزوجة، حتى وإن كانت صاحبة أسرة ولديها أبناء تعولهم.. هذا حدث بالفعل مع شقيقتي التي تجاوزت الستين وتتعامل معها مؤسسات الدولة باعتبارها امرأة غير متزوجة"؛ يقول "هندي".
هذا التعاطي مع وضع المرأة البهائية في المجتمع المصري، يرتد إلى أزمات أكبر تؤثر على حياة الأسر البهائية، فلا يمكن للمرأة التنقل بحرية رفقة زوجها، أو الإقامة في فندق أو استئجار شاليه أو مسكن. المتاح فقط هو شراء المسكن، لكنه خيار يبقى حصرًا على القادرين ماليًا.
المرأة هنا إلى جانب مشكلات التحرش والتمييز التي تعانيها النساء في مصر عامة، تعاني بصورة أكبر لأنها بهائية، فتخسر حقوقها في الميراث من الأبوين أو الزوج لعدم الاعتراف بالعلاقة الزوجية.
النساء بين الشريعة البهائية وعدم اعتراف الدولة
في الشريعة البهائية، تتمتع النساء بمساحة كبيرة من الحرية، إذ يتم الزواج البهائي بطقس ديني وعقد مشروط بموافقة والدي العروسين، بينما يوقع على العقد 8 أشخاص: العروسان، ووالداهما، وشاهدان، مع تلاوة آيات، وضمان حقوق العروس بمهر.
وفي حال الخلاف، لا يمكن للزوج الانفراد بقرار الطلاق، بل يجب تقديم طلب الطلاق للمؤسسة الإدارية البهائية، حيث يتم بحث الأمر في "عام الاصطبار". وخلال هذا العام، يترك الزوج المنزل لزوجته، وتجرى 12 جلسة صلح، فإذا لم يتم الصلح، يقع الطلاق، وتضمن حقوق الزوجة المادية كاملة بواسطة لجنة بهائية.
اقرأ أيضًا: حكايات حقوقية في مجتمع لا يزال يسأل “يعني ايه مرأة؟!”
ولكن، نظرًا لعدم الاعتراف بالزواج البهائي في مصر، يضطر الأزواج لعقد زواجهم مدنيًا في دول مثل الهند أو قبرص، ويتم توثيق العقد في سفارة مصر بتلك الدول. وعند العودة، ترفض الجهات الرسمية اعتماد الوثيقة وتحديث الحالة الاجتماعية للزوجين. "هذا الإنكار الرسمي لعلاقة الزواج البهائية يتيح لاحقًا للزوجة البهائية الزواج على زوجها دون عقوبة، وكذلك يكون الأمر متاحًا للزوج، وهو ما يعني هدمًا كاملًا للأسرة"؛ يقول الدكتور "هندي".
في الديانة البهائية، للبهائيات حق حرية التنقل والسفر دون الحاجة لإذن الولي، كما يحق لهن الولاية الكاملة على الأبناء سواء تعليمية أو مالية مثل الرجل. وكذلك، يسمح للبهائي والبهائية الزواج من أي ديانة أخرى بشرط أن يتم العقد وفقًا للشريعة البهائية. ويتمتع أبناء البهائيين بحق توثيق نسبهم والحصول على خانة الديانة في الأوراق الرسمية.
"ومع ذلك، لا يُسمح للمُنضمين الجدد للبهائية باعتماد بياناتهم الجديدة. لا يُسمح بعبور المسيحي إلى البهائية، رغم الترحيب بعبوره إلى الإسلام، وهو ما يعكس التقييد الذي تمارسه الدولة المصرية علينا كبهائيين"؛ يقول الدكتور "هندي".
قوانين الأحوال الشخصية لا تعرف البهائيين
شكل من أشكال التمييز والحرمان من الاندماج اجتماعيًا، يلقي الدكتور "هندي" الضوء عليه، فيقول إنهم كبهائيين لم يُدّعوا للمشاركة في مناقشات مشاريع قوانين الأحوال الشخصية التي طرحتها الحكومة، رغم أن الدستور ينص على أن لغير المسلمين الاحتكام إلى شرائعهم، ورغم أن بعض الأزواج البهائيين يضطرون لإقامة دعاوى إثبات العلاقة الزوجية في محكمة الأسرة، حيث يعتمد الحكم على رؤية القاضي، وبعضهم يحصل على إدراج الحالة الاجتماعية بينما لا يحصل آخرون.
ومع ذلك، فإن البهائيين في مصر قدموا مشروع قانون متعلق بالأحوال الشخصية تم كتابته في 1938 ولم يُنظر فيه منذ ذلك الوقت. وقد أعادوا تقديمه منذ حوالي 10 سنوات إلى وزارة العدل ومجلس النواب ومصلحة الأحوال المدنية، دون أي استجابة. ذلك لأن مناقشة مشروع قانون خاص بديانتهم يعني الاعتراف بها رسميًا، وهو أمر لا تريده الدولة المصرية، يرى "هندي" أن حله يكمن في اعتماد الزواج المدني إلى جانب الديني، لتمكين كل مواطن من الزواج وفقًا لعقيدته.
نعيش بلا هوية
لا توجد إحصاءات رسمية حول أعداد البهائيين في مصر الآن، لكنها كانت تُقدر بنحو 10 آلاف عندما حلت المحافل البهائية في البلاد في ستينيات القرن الماضي. والآن، يواجه البهائيون في مصر صعوبات كبيرة في السكن والتعليم والعمل وأيضًا في بناء دور عبادة وممارسة شعائرهم الدينية وحتى في دفن موتاهم.
يقول "هندي" إن بعض الأقليات يخفون هويتهم لتجنب التنمر، لكن البهائيين ناضلوا لسنوات لرفض تسجيلهم كأتباع ديانة أخرى. حصلوا على حكم يسمح بإثبات نسب الأطفال بشهادات الميلاد، مما يتيح لهم التعليم في المدارس الخاصة. ومع ذلك، ما زال هناك تمييز في المدارس الحكومية التي ترفض قبول أبناء البهائيين.

يواجهون مشكلات عديدة في إثبات عقود الزواج والاعتراف بالحالة الاجتماعية، وهو أمر يضر بكثير من النساء البهائيات ويفكك أسرهن. "أي حياة هذه نعيشها في مجتمعنا رغم أننا لا نريد أكثر من القبول والتعايش والاعتراف بحقوقنا"؛ يضيف "هندي" الذي يؤكد أنه "من دون تطبيق مفهوم الدولة المدنية سنبقى هكذا بلا أي حلول جذرية لأمراضنا الاجتماعية".
ويشير إلى الدستور باعتباره عقدًا ينظم حياة المواطنين اجتماعيًا، وليس عقدًا دينيًا كما هو حادث الآن. هذا لأنه في الدولة المدنية لا يعاني المواطن أو يحاكم بسبب اعتقاده الديني، إذ لا يحق للدولة الاعتراف أو إنكار أو اختيار معتقدات مواطنيها، بل دورها حماية حريتهم في اتباع هذه المعتقدات. ويضيف أننا كمجتمع بحاجة ماسة إلى تكريس ثقافة قبول الآخر والتعايش، وهذا يمكن أن نبدأ فيه عبر تفعيل القوى الناعمة، وعلى رأسها الفن والدراما، كما يقول.
حل أزماتنا داخلي.. ونرفض تدويل قضيتنا
وبطبيعة الحال، يرفض الدكتور "هندي" قانون ازدراء الأديان، ويرى ضرورة إلغائه لأنه يقيد حرية الإبداع والفكر والعقيدة، مشيرًا إلى أن الأديان لا تحتاج إلى حماية قانونية، وأن هذا القانون يخالف الدستور ويُستخدم لقمع الحريات. بينما في الوقت ذاته، يؤكد على أهمية إنشاء مفوضية مكافحة كافة أشكال التمييز التي نص عليها الدستور المصري، وجاءت توصيات بشأنها، لكنها لم تُطلق حتى الآن.
كما يرفض الدكتور "هندي" بشدة المطالبات بسن قانون دولي لحماية الأقليات، معتبرًا أن هذا القانون يجعل المواطنين يلجأون إلى دول أخرى للمطالبة بحقوقهم. ويوضح أن التمييز الفعلي ضد الأقليات في مصر، سواء دينية أو عرقية، يجب معالجته داخل البلاد من خلال مفوضية التمييز والمحاكم المصرية، مشيرًا إلى أن البهائيين تداولوا قضيتهم في المحاكم لسنوات طويلة حتى حصلوا على حكم قانوني تقره الدولة المصرية لا يُفرض عليها من الخارج.