في رحلة الهروب من الخرطوم إلى الإسكندرية

 

صباح الخامس عشر من أبريل العام الماضي، أصوات رصاص متقطعة، أخبار ضبابية عن اشتباك بين الدعم السريع والقوات المسلحة. ليس بالجديد سماع مثل هذه الأخبار منذ ديسمبر ٢٠١٨. فأصبح من الطبيعي حدوث تغيّرات سياسية مفاجئة نُلازِم على إثرها المنزل ليوم أو يومين، وتعود الحياة لمجاريها. وكنا نظن أن هذه المرة مثل كل مرة “يوم يومين وبتنتهي”.

لم نلجأ لاستخدام كلمة حرب من الأساس، مجرد اشتباك بسيط وسينتهي، ونعود لتنفيذ الخطط المعلقة من يوم الجمعة. مر اليوم الأول بشكل طبيعي، عدا أن أصوات الرصاص أصبحت أقرب وأعلى، وبدأت أصوات الطيران والقنابل تتسلل لتصبح جزءًا أساسيًا من يومنا. في صبيحة اليوم التالي، انقطعت الكهرباء بشكل كامل من منزلنا ومن الحي أكمله والكثير من الأحياء الأخرى؛ نظراً لتلف موصلات الكهرباء بعد أن تم قصفها.

بدأت تصلنا المزيد من الأخبار، وأدركنا حجم المصيبة، إنه الآن ليس مجرد اشتباك بسيط، إنها حرب! في ظهر ذات اليوم، سقطت إحدى القنابل بالقرب من منزلنا، تضررت غرفتي المطلة على الشارع، ومن هنا أصبح التواجد في الغرف القريبة من الشارع يشكل خطرًا.

اقرأ أيضًا:هل نكره اللاجئين؟

الآن أنا وأمي وأختي وأخي وجارتنا الحامل في شهرها السادس وزوجها في غرفة صغيرة في وسط المنزل، بلا كهرباء وبدون أي مصدر للتهوية. ومع زيادة أصوات الاشتباكات واقترابها، بدأت الأخبار تتسرب عن اقتحام الدعم السريع للبيوت وأخبار عن حوادث الاغتصاب والقتل والدمار. أصبح الخوف سيد الموقف، مع الوقت توقفت كل الهواتف عن العمل لنفاذ البطارية، ومع انقطاع الكهرباء لم نستطع أن نعيد شحنها ففقدنا التواصل مع الجميع وفقدنا الأخبار أيضاً.

وبدأت المياه تنقطع بشكل تدريجي من الحي، فكان لا بد أن نقتصد في المياه الموجودة في الخزانات لتكفينا أطول وقت ممكن. كانت أيام مظلمة ومخيفة. امتلأ عقلي بالتفكير في السيناريوهات الممكنة عند اقتحام الدعم السريع لمنزلنا، ماذا سأفعل؟ أو ماذا سيفعلون؟ هل سيقتلوننا جميعًا؟ هل سيختطفونني وأختي كما حدث للكثير من الفتيات من الاتجار بهن واغتصابهن؟

الخوف يتزايد ولا نملك سوى الدعاء تارة والبكاء تارة أخرى. أختي الصغيرة تنهار من البكاء، استطعنا توفير القليل من الشحن لإحدى الهواتف من أحد جيراننا، كانت مخاطرة حقيقية أن نخرج من المنزل. تحدثت أختي مع أبي الذي يقيم بالسعودية، وقالت له باللفظ “بابا إحنا حنموت ما تزعل”، وانهارت بالبكاء. لم أصدق أنني أسمع هذه الكلمات من أختي ذات ال ١٠ سنوات.

الجميع يبكي ولكن أنا؟ لم أستطع استيعاب الحدث للحزن عليه فقط. كل ما كان يدور في عقلي الدعم السريع وهم يقتحمون المنزل وما سيتبعه. لم أستطع البكاء ولا الحديث، فقط أنظر، أراقب، أفكر. ومع كل هذا القلق، كان لا بد أن تداهمني الدورة الشهرية.

كانت فظيعة جداً بعدد محدود من الفوط رديئة الجودة التي استطعت أن أحصل عليها، وبلا مسكنات للألم، وشح المياه الذي يجعلني أشعر بالذنب عند استخدامي لكمية كبيرة منها. وزاد الوضع سوءًا أن جارتنا الحامل بدأت بالنزيف، لأنها لم تأخذ مثبتات الحمل منذ بدء الحرب. لقد انهارت من مجرد التفكير أنها قد تفقد ابنها الذي انتظرته ١٠ سنوات، وباعت من أجله هي وزوجها الكثير من ممتلكاتهم لتخضع للحقن المجهري لتحصل على هذا الطفل.

ومن هنا بدأ التفكير الجاد في ضرورة مغادرتنا للخرطوم، لكن كيف؟ ونحن محاصرون بالاشتباكات من كل زاوية، وحتى سياراتنا ليست في المنزل. في النادي الذي يبعد عنا ٢٠ دقيقة، بدأنا نبحث عن أشخاص يريدون الخروج لنخرج معهم، أو إحدى وسائل النقل الجماعي، ولم نتوصل لنتيجة إلا بعد ٥ أيام.

لم يكن هناك مساحة، لم نستطع أن نأخذ سوى القليل من الملابس. تركنا خلفنا حصاد غربة أبي لأكثر من عشرين عامًا، الكثير من الذهب ما يقارب ٥ كيلوجرامات خوفًا من النهب، والأمر تَرْكُنا حياتنا، ذكرياتنا، غرفتي، منزلي، سريري، كتبي. تركت ملاذي الآمن خلفي، لكن مع أمل العودة مجدداً، ومن الخوف والاستعجال، حتى نظارتي تركتها خلفي، وجلست لما يقارب الشهر برؤية سيئة.

غادرنا الخرطوم، لم نستطع أن نصمد لأكثر من ٥ أيام، ولقد سمح لنا حظنا الجيد بإمكانية الخروج، وما زال الكثير يعانون حتى هذه اللحظة داخل الخرطوم ومناطق الصراع، بلا كهرباء وماء وغذاء، يفتقرون أدنى مقومات الحياة.

وبدأنا بذلك فصلًا آخر من فصول المعاناة، نظرًا لأن كل حياتنا ارتبطت بالخرطوم، ولم نغادرها قط لأي ولاية أخرى، فلا نملك منزلًا أو مأوى في الولايات. فبدأنا رحلتنا في التنقل من ولاية لأخرى، بين بيوت الأصدقاء وأقارب الأصدقاء، نظرًا لأن جميع الشقق والفنادق أصبحت ممتلئة وباهظة التكلفة. وتزامن ذلك مع توقف تطبيق “بنكك” المصرفي عن العمل، فأصبحنا غير قادرين على استخراج نقودنا من البنك. يا له من إحساس ثقيل أن تقيم مع شخص لا تربطك به صلة قرابة، ولا تستطيع أن تساهم حتى في الصرف على نفقات المنزل.

اقرأ أيضًا:الأزمة الاقتصادية وكراهية اللاجئين

ولكن بعد عدة أيام تمكنا من سحب النقود، وفي كل رحلة نزوح وبالرغم من الحرب والدمار والظروف الصعبة، لم نجد سوى الترحاب وحسن الاستقبال من الجميع. كانت تلك الابتسامات أو الثرثرة ظهرًا حول صينية القهوة أحد أسباب البقاء.

وأخيرًا، بعد شهر من التجوال والنزوح، استطعنا أن نصل إلى بورتسودان، والتقينا هناك بأبي الذي جاء عبر ميناء بورتسودان محاولة منه لتوفير طريقة للخروج من السودان واللحاق بأخي الذي يدرس ويقيم بالإسكندرية. وبحمد الله، تمكنا من الحصول على حجز طيران، الذي ارتفعت أسعاره أضعاف مضاعفة عما قبل الحرب.

وصل سعر التذكرة الواحدة ل٧٠٠ دولار. وفي نهاية المطاف، وصلنا الإسكندرية مجددا بعد أن قضينا فيها الصيف الذي سبق الحرب. لقد كان أول شهرين ثقيلين حقًا، تسارع الأحداث، لم يهملنا الوقت لاستيعاب الفاجعة.

ظهرت علينا جميعًا أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، حتى الأحاديث اليومية أصبحت ثقيلة، القيام بالمهام اليومية أصبح مستحيلا. فقط الصدمة ومحاولة استيعاب ما حدث وحقيقة الوضع الراهن. أننا الآن خارج الخرطوم، ولا نعلم هل سنعود مجددًا؟

ما أن نحاول الخروج من المنزل، محاولة منا لنسيان أو تناسي ما حدث، كنا ندرك حقيقة أننا لسنا في السودان. لا هذه الشوارع التي اعتادت أعيننا عليها، ولا هذه بلادنا، ولا مكاننا.

كان الخروج من المنزل في تلك الفترة، أسوأ بكثير من البقاء والتحسر. أكثر ما كان يؤلمني في تلك الفترة، السخط والعبارات الناقمة التي أراها في مواقع التواصل الاجتماعي عن ازدياد أعداد السودانيين في مصر، والكثير من الكلام المؤلم حقا.

لم أكن أنتظر التعاطف أو المواساة، لأنه بطبيعة الحال، صوت معانتنا دائما غير مسموع. ولكن لم أكن أتوقع أيضًا السخط وكل هذه الكراهية، وأننا السبب في ضيق الأحوال الاقتصادية؟ ماذا فعلنا لكل ذلك بالرغم من أننا لسنا مسجلين حتى في إحدى المنظمات ولا نملك أحد بطاقات اللجوء؟ وحتى اللاجئين، ألا تحصل الدولة على أموال لتغطية نفقاتهم؟

هذه العبارات كانت تملأ كل مواقع التواصل الاجتماعي، على عكس أرض الواقع. فقد كان الجيران يحاولون دائما الاطمئنان علينا، حتى من لا يعرفوننا في الشارع.

والآن، بعد مرور سنة على الحرب، استطعنا التأقلم بشكل أو بآخر، واعتدنا على الحياة والجو العام. حتى ظننت أننا يمكن أن نكون جزءًا من هذا المجتمع يوما ما بعد أن فرضت علينا الظروف ذلك.

ولكن قبل عدة أيام، حدث اختلاف بسيط محتمل الحدوث في أي مكان في العالم، على أحد أقسام القياس في إحدى المحال التجارية. ولكن استخدمت المرأة في هذا الخلاف عبارة “أنتو جايين مصر تقرفونا”.

لقد كانت عبارة مؤلمة حقا بالنسبة لي، لأننا لم نختر المجيء، ولكنه فُرض علينا قهريا. لم نختر الحرب ولا اللجوء. لم نختر شيئًا من كل هذا.

بالرغم من كل هذا فإني أعتبر نفسي من المحظوظين، استطعت الخروج من الخرطوم ومن السودان، في حين يتواجد الكثيرون في مناطق الصراع أو حتى في الولايات الآمنة في ظروف اقتصادية قاهرة، تصارع فيها لأجل الحصول على سكن، غذاء وعلاج.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة