عبد الله السناوي في حوار خاص: هناك نزيف شرعية واضح في الشارع.. انتفاضة الخبز أمر محتمل.. ولا نعرف المستقبل بعد ٢٠٣٠

 

البلد لا تحتاج إلى “كبش فداء”.. من يمكنه تحمل المسؤولية بعد الرئيس السيسي في ٢٠٣٠؟

رؤساء مصر يتشائمون من مسألة نائب الرئيس.. وأحذر من استمرار التشويش على مؤسسة الجيش

الحوار الوطني “اندر كونترول”.. ولن يكون له قيمة دون مشاركة الرئيس نفسه

الشارع نبرة انتقاده حادة.. من يسمع صرخات المواطنين؟

إيران الدولة الوحيدة المستقلة في المنطقة.. وأرحب بزيارة أردوغان المتأخرة

 

عبد الله السناوي، صحفي صاحب تاريخ مهني لافت، ومحلل سياسي بارز كان ولازال يُسمع له ممن يهمه أمر مستقبل مصر في دوائر عدة، وحامل مفتاح الإرث الناصري وأيقونة العروبة، لا يرى القضية الفلسطينية سوى جزء من هوية مصر، حاورته منصة “فكر تاني”، في ملفات عديدة، أبدى قلقه من “المستقبل” وحذر من “انتفاضة خبز” أشار بوضوح إلى المناطق الملتهبة والتي قد تتسبب في كارثة مستقبلية لبلده التي دائما ما يقول عنها إنها “كبيرة”. تحدث، آملًا أن يلحق الجميع الفرصة الأخيرة للتصحيح وبناء حاضر أفضل ومستقبل يناسب تاريخ مصر الكبيرة قيمة وقامة.

فإلى نص الحوار..

ثوراتنا دون تراكم تاريخي

بعد 13 سنة على ذكرى 11 فبراير 2011، وسقوط مبارك، أعيد عليكم سؤال الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي طرحه على الرأي العام قبل ثورة 25 يناير، وهو: لماذا لا تكتمل في مصر ثورة؟

هذا سؤال مُعلق بطول التاريخ المصري الحديث. الثورات المصرية كلها تبدو ناقصة. الثورة في مصر تُجهض في أول الطريق كما حدث في ثورة يناير والثورة العرابية أو تُجهض في ثلاثة أرباع طريقها مثل ثورة 23 يوليو، أو في منتصف الطريق كما في ثورة 1919، حيث تم الالتفاف عليها في مطلبي الاستقلال والدستور.

هناك ملمح رئيسي في هذا المشهد، هو غياب التراكم في التاريخ المصري الحديث كله. كل ثوراتنا متناقضة مع بعضها البعض؛ الثورة العرابية تم انتقادها من مصطفى كامل بقسوة شديدة، كما جرى انتقادها بقسوة مماثلة أو أكثر من سعد زغلول، الذي كان ينظر بسلبية لمصطفى كامل بالأساس، ويقف ضد أحمد عرابي، وثورة 23 يوليو كذلك كان لها موقف انتقادي لثورة 1919، كما لو أنها ليست امتدادًا لها، وثورة 25 يناير أكملت مسيرة التناقضات، ففيها كان هناك قطاع من الشباب معهم الدكتور محمد البرادعي، كانوا يرون أن ثورة يناير جاءت انقلابًا على ثورة 23 يوليو وما قالوه إنه “كله حكم العسكر”.

كل هذا أدى إلى تجهيل المصريين بتاريخهم، ووحدة ثورات مصر.

من يتحمل ذلك؟

هناك تفسيرات عدة، ولكن النخب تتحمل قدرًا من ذلك، بسبب عدم نضجها السياسي والتاريخي.

يمكن دراسة العوامل الخارجية أو الطبيعية الثقافية والجغرافية لمصر، كل ثورة تُدرس بمفردها، فالظروف تختلف، ولا أستطيع توحيد الأسباب.

خذ مثلًا أحمد عرابي، وأنا أراه زعيمًا تاريخيا كبيرًا، عندما عاد من المنفى، وذهب يصلي جوار بيته، قابله شاب وطني متحمس من الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، قال له: “يا خائن”، ثم بصق على وجه، فبكى عرابي ومسح البصقة، وأنا أعتقد أن هذا مشهد تراجيدي مأساوي، تستطيع إدانته وأنت مستريح الضمير. ولكن هذا الشاب ضحية لمن زرع في ذهنه بالخطأ أن عرابي هو سبب احتلال مصر، رغم أن هذا الشاب وطني ومناهض للاحتلال.

وهذا الأمر للأسف تكرر في الحروب، فنحن لم نقرأ وثائق حرب يونيو 1967 ولم يُفرج عنها، بينما هي ليست سرًا، في ظل وجود الوثائق الإسرائيلية والأمريكية والفرنسية، ونفس هذا الكلام تكرر مع وثائق حرب أكتوبر 1973 وخاصة في قضية الثغرة التي لم نعرف حتى أين كان الخطأ وأين كان الصواب.

هكذا جرى تغييب الشعب عن الحقيقة

ما مرجع هذه التصرفات من وجهة نظرك؟

مرجعه شيوع ثقافة تغييب الحقيقة، لك أن تتخيل أن مصر ظلت تتحدث على مدار 30 سنة عن بطل الحرب والسلام وصاحب الضربة الجوية الأولى فقط، ولم نعرف أن هناك قادة كبار آخرين لهم قيمة واعتبار.

جرى أيضًا إحداث تناقض بين حربي الاستنزاف و1973. لو أنك أعليت قيمة حرب الاستنزاف، فكأنك تعيد قيمة نصر أكتوبر إلى جمال عبد الناصر، ما دفع البعض إلى إخفاء قيمة التضحيات والشهداء، رغم أنه في كلاسيكيات الجيش المصري حرب الاستنزاف هي بروفة لحرب أكتوبر، ما أحدث تناقضًا غير مبرر، وهو ما حدث مع حرب 1956 التي لاحقتها أوصاف المغامرة والحماقة وأبو الهزائم لجمال عبد الناصر، رغم أن أي قراءة في الوثائق البريطانية تحيلك إلى حقيقة أن مصر خرجت بعد هذه الحرب قوة إقليمية عظمي، طبقًا للنتائج السياسية، حيث ألهمت حركات التحرر وصارت أحد مراكز صنع القرار في العالم. الحروب تُقاس بالنتائج السياسية

اقرأ أيضًا: علي الدين هلال في حوار خاص.. يقيّم أزمات السلطة والمعارضة.. ويرفض مأسسة الحوار

غياب الوثائق جعل الذاكرة الوطنية معتلة، ولكن ما أقوله لا يمنع أن هناك الكثير جدًا فيما يمكن انتقاده في تجربة عبد الناصر، لكن ليست هذه قضيتنا؛ فالقضية أن نعرف ماذا حدث بالضبط وأين كانت الأخطاء، وأين كانت نقاط القوة، ولماذا انتصرنا حين انتصرنا ولماذا هُزمنا حين هُزمنا، وهو أمر يتعلق بالوثائق وسلامة الذاكرة الوطنية.

ضعف داخلي انعكس على الخارج

دعنا نوثق وضعنا.. أين وصلت مصر الآن داخليًا؟

لا نستطيع أن نفصل بين مصر داخليًا وخارجيًا، فالسياسة الخارجية تُعرف سابقًا أنها انعكاس للسياسة الداخلية، لكن هذه النظرة توسعت؛ فأصبحت السياسة الخارجية هي استمرار للسياسة الداخلية في محيط مختلف.

لا يمكن أن تنجح في السياسية الدولية وأنت لديك مشاكل داخلية عميقة.

مصر الآن تعاني من انهيار بنيتها الاقتصادية، وزيادة حدة الفقر في المجتمع، وضعف الطبقة الوسطى، وانسداد الأفق العام والمجال العام، وهو ما انعكس على ضعف المكانة الدولية، حتى لو عملنا من حين لآخر شيء صحيح، لكنه غير مبني على قواعد مستقرة، وسرعان ما ينهار.

أنا مستعد أن أقول أن زيارة أردوغان لمصر، وإن كانت متأخرة على مسار المصالحة المصرية التركية، خطوة صحيحة، ولكن لست واثقًا أن مصر تستطيع أن تبني عليها في إطار استراتيجي واضح.

وأقول صحيحة، لأن هناك ثلاث قوى كبرى في الإقليم؛ سكانية وعسكرية وتاريخية، هي: مصر وتركيا وإيران، من منطق نظرية الأمن القومي المصرية والمصالح العليا للبلد، وبالتالي، فتهدئة الصراعات مع تركيا خطوة صحيحة وموفقة.

يتزامن مع ذلك، الحوار مع إيران، والذي وإن بدا خافتًا، ولكنه خطوة مهمة تصحح ما حدث على مدار العقود الماضية من منع إقامة علاقات مع إيران بعد الثورة الإيرانية، بضغوط دولية واعتبارات عدة، لأن إيران فاعل رئيسي في المنطقة، وحتى السعودية خصمها الأساسي في المنطقة العربية، بدأت في إعادة العلاقات معها، لوجود مصالح استراتيجية مشتركة، وبالتالي يجب الانتباه إلى موقعنا وترتيبه بناءً على قواعد واضحة واستراتيجية.

دولتنا كبيرة ومهمة

البعض يرى أن مصر أصبحت الآن “صغيرة”.. هل تتفق مع هذا الرأي؟

هناك تناقض كبير بين مصر التاريخية والحالية. عبد الناصر نفسه لم يكتسب موقعه ومكانته في الإقليم إلا من مصر، والدور الذي لعبته مصر أيام عبد الناصر يعود الفضل فيه إلى مصر حجمًا وتاريخًا، وإدراك عبد الناصر لحقائق الأمن القومي، أن مصر فعلًا دولة كبيرة. ولكن بعد كامب ديفيد تحديدًا وحتى الآن، تم “تقزيم” البلد، و”صغرت أوي” بفعل خيارات في الداخل وقيود فُرضت عليها من الخارج، ومن نوع الحكام الذين تولوا قيادتها.

قلبي لا يطاوعني أن أقول “مصر بقت صغيرة”، والتاريخ لا يسمح أن تصبح مصر “صغيرة”، لكن “جعلوها تبدو كدولة صغيرة”. في نهاية الأمر هي دولة كبيرة ومهمة، بدليل أن الإيكونومست في تقريرها الاقتصادي الأخير، وجهت اتهامات حادة لنظام الحكم الحالي، وذكرت أن مصر تستحق المعونة والمساندة الاقتصادية لأن العالم والإقليم لا يتحملان سقوطها.

هذه مسؤوليتنا أولًا

البعض يتهم السعودية والإمارات باستغلال هذه الأوضاع والتغول داخليًا.. فيما يشكرهما البعض على المساندة.. أين تقف أنت؟

سأتكلم من حيث المبدأ.. لا أستطيع أن ألوم أحدًا يحاول أن يستفيد من انهياراتك ومن سوء أدائك الاقتصادي، ويوظفه في الاتجاه الذي يناسب مصالحه، لأن هذه مسؤوليتنا نحن أولًا، عبر إصلاح الوضع الداخلي سواء الاقتصادي أو السياسي.

نحن لا ندرك أهمية البلد الذي نحيا فيه، ويتعامل معه البعض أنه “لا قيمة له ولا وزن”، ولكن مصر دولة كبيرة بتاريخها وإرثها الثقافي وحضورها في العالم العربي.

ذات مرة، تحدث عبد الناصر مع الزعيم الهندي التاريخي نهرو، وقال إن مصر دولة من العالم الثالث، فنهرو، رد عليه: “ياسيادة الرئيس مصر أكبر من ذلك بكثير”، فرد عبد الناصر عليه: “أكبر من ذلك بعالمها العربي”، وللأسف مصر بسبب كامب ديفيد انعزلت عن العالم وتنكرت للقضايا العربية، وخاصة القضية الفلسطينية، وتحولت من العدو الأول للكيان الإسرائيلي إلى الصلح المنفرد ثم إلى وسيط في أفضل الحالات وليس طرفِا أصيلا.

هنا يجب أن نفهم جيدًا أن الدول ليست جمعيات خيرية، وإنما تصورات وإرادات، وفي الإقليم يمكن أن نزن الدول بمواقفها من القضية الفلسطينية، ومدى تواجدها بالقرب منها، وإذا نظرنا إلى المشهد الإقليمي من زاوية الحرب على غزة، فتركيا تراجع وزنها، لأنها أقصى ما تلوح به هو حديث عام يتبنى وقف الحرب بالكلام، ولم تتخذ خطوة واحدة في اتجاه إنهاء العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل، وظل الكلام عن غزة لدعاوى داخلية وللالتفاف على الغضب الشعبي الكبير والتضامن مع القضية الفلسطينية وغزة، ومصر مثلها تفعل ذلك، وتقف في موقف الوسيط.

وفي المقابل، يبدو أن الدولة التي وظفت إمكانياتها في المنطقة بمنهجية هي إيران، حيث بدت أنها الدولة الوحيدة المستقلة في هذه المنطقة، التي تمتلك قرارها وتستطيع أن تتصرف على هذا الأساس، وصاحبة دور صاعد، وهذه حقيقة مزعجة للبعض، ونتيجة دعمها للمقاومة الفلسطينية ضد المشروع الصهيوني، تُتهم بتحريك أذراعها.

إيران أكثر دولة الآن تحترم الإرث الناصري، وتحاول عبر وسائل إعلامها، تقدير جهوده، فهل إيران دولة ناصرية؟.. لا.. عبد الناصر ساندهم في فترة، ولكن إيران تعرف أن هذا الإرث هو وحده الذي يخاطب الضمير العربي العام، فيما نجد في مصر من يتفرغ بمناسبة أو بدون مناسبة للهجوم على عبد الناصر، الذي تتأكد قيمته مع كل هجوم فيما تخسر مصر حضوره.

اقرأ أيضًا: السادات في حوار خاص: مصر كلها “خسرانة” من استمرار الأوضاع الحالية.. و حمائم النظام الأقرب للرئيس

هنا، قد يتعجب البعض من أن تلقى المقاومة الفلسطينية، وحماس موجودة في قلبها، إجماعًا كبيرًا في ظل حساسيات كبيرة جدًا بين الإسلاميين والقوميين والناصريين، لكنهم لا يدركون أن القضية الفلسطينية هي الإطار الجامع في هذه اللحظة، والدم الفلسطيني، هو الجامع للجميع، ولا يوجد تناقضات أو تباينات. وهذا يؤكد أن القضية الفلسطينية هي مقياس المواقف والسياسات والأوزان في العالم العربي، وهذه حقيقة لمن رضى أو يأبى.

السعودية -على سبيل المثال- خسرت كثيرًا في الحرب على غزة بسبب استعدادها المعلن للتطبيع بضغوط أمريكية والذي يتجنب المواجهة، بينما كانت مرشحة لقيادة العالم العربي.

لا يحتفظ أحد باحترامه ومقبوليته ووزنه في العالم العربي، إلا إذا كان متبنيًا القضية الفلسطينية، ولا يوجد مثال واحد خلاف ذلك، وهو ما يجب أن تعيه مصر جيدًا، خاصة مع ما يحدث في رفح.

نزيف الشرعية

في هذا الإطار، يتحدث البعض عن أزمة غياب الرشد السياسي داخليًا وخارجيًا، هل تتفق مع ذلك وكيف تتجنب مصر توابعه؟

في كتابي الجديد الذي يصدر قريبًا “النهايات الطويلة.. كيف وصلنا إلى ثورة يناير”، أحسب أن نهايات حكم مبارك، امتدت 10 سنوات، حيث ظل سؤال “مصر إلى أين” يتردد كثيرًا، الوريث أم جنرال جديد، وأسئلة الشرعية.

أخطر شيء قد يحدث في أي وطن هو الاستهتار بمسألة الشرعية، فالشرعية كخيوط الصلب قد لا ترى لكنها صلبة تستعصي على الكسر، وهي أيضا مثل الجسور والكباري تستطيع تحمل أثقال كبيرة وامتصاص الضغط عليها.

مبارك قال تعبيرًا لافتًا للمشير طنطاوي أثناء الـ 18 يومًا: “يا إما تحمي الشرعية يا إما تشيلها”، والحقيقة أن الشرعية كانت قد انتهت وانتقلت إلى الشارع، ورصيد مبارك استنزف، وهو ما حدث مع الرئيس مرسي، ففي خطابه الشهير قال كلمة الشرعية عشرات المرات، ولكن الشرعية كانت قد انتهت.

الآن، هناك نزيف شرعية واضح في الشارع، والانتخابات الرئاسية نفسها كانت جملة في فراغ، وجاءت حرب غزة لتخفض التوتر العام في مصر، ولكن الانتخابات الرئاسية لا أثرت بالسلب ولا بالإيجاب، وهذا وضع مؤقت، خاصة مع الشعور بالقلق لما يحدث على الحدود، فإذا لم تكن هناك مراجعة حقيقة لصلب الأزمة والاعتراف أننا في أزمة حقيقة مركبة فيها ما يتعلق بالأمن القومي، في أزمة الحدود وأزمة المياه مع إثيوبيا، إلى جانب الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المتفاقمة، التي تتطلب على وجه التحديد الاعتراف بالمسؤولية عنها، فإننا أمام خطر حقيقي.

مصر ليست بحاجة للبحث عن أكباش فداء، مثل الدكتور مصطفى مدبولي، الذي نرى الإعلام يهاجمه الآن ويحمله المسؤولية، بينما هو يتحدث كثيرا بشكل يوحي وكأنه الذي يدير البلد، رغم أنه موظف كبير في البلد أو رئيس سكرتارية رئيس الجمهورية.

نحن نريد من المسؤول الأول دستوريًا وهو الرئيس السيسي أن يخرج ويتحدث ويتحمل قسطه في المسؤولية، ويصبح الكلام أكثر جدية مما هو حادث الآن.

كيف يتحدثون عن الذهاب إلى الحوار الوطني لمناقشة الشق الاقتصادي دون الحديث عن مخرجات الحوار الوطني في الجولة الأولى الطويلة في ظل وجود خبراء اقتصاد كبار مثل الدكتور أحمد جلال والدكتور جودة عبد الخالق  وآخرين.

أستشعر عدم الجدية في البحث عن مخرج للأزمة الاقتصادية، وأرى  أمامي نفس السياسات التي أفضت إلى ما وصلنا إليه.

أخشى الانتفاضات غير المتوقعة

إذن.. إلى أين تتجه مصر في ظل هذا التعقيد والقلق وسط ما أسميته في وقت سابق تصاعد المعارضة الاجتماعية؟

في السياق الحالي، يمكن لمصر أن تتجه إلى انتفاضة خبز ثانية، لأن الانتفاضات من هذا النوع، لا أنا ولا غيري نعطي لها تعليمات بالخروج، ولا توجد قوة سياسية على الأرض تستطيع أن تحركها أو حتى تمنعها.

المعارضة الاجتماعية باتت أقوى بكثير وبما لا يقاس من المعارضة السياسية التي يمكن قياسها وحصارها واعتقالها.

المعارضة الاجتماعية في الشوارع والأسواق وتعليقات المواطنين الغاضبة أمام محال البيع والشراء.

النبرة الحالية عالية جدًا وقاسية ضد الأوضاع، ومنتشرة في الشارع المصري، ولا يوجد تصور للحل غير الدعاء لرب العالمين.

اقرأ أيضًا: نجاد البرعي في حـوار مع “فكر تاني”: مصر “أون هولد”.. والمعارضة طفولية.. والثورة مستـحيلة.. والطنـطاوي حول الانتـخابات إلى خصـومة شخصية

المفترض أن يوجد جهاز إنذار مبكر في جميع مؤسسات الدولة، لتسمع لنبض الجماهير، وتتعامل بجدية حقيقية، لأننا إزاء أزمة عميقة إذا خففت الآن بإجراءات أمنية وجرعات ديون منشطة، فهذا كله مؤقت، لأن الأزمة عميقة في السياسات والخيارات والأولويات، وتستدعي المراجعة ونقد السياسات التي أفضت إلى الأزمة، مع الاستماع إلى صوت الاقتصاديين، وأن يتفرغ كل فرد لما يجيده ويعرفه، وأن يعبر كل حزب عن أفكاره وحلوله العملية، منعًا لاستمرار المشهد العشوائي الذي يتصدره من يتحدث في كل شيء حتى أصبح المذيعون موجهين عموميين في البلد، في تخصصاتهم وفي غير تخصاصاتهم. هذا كلام غريب يسود الآن.

هذا موقفي من الحوار الوطني

مؤسسات الدولة تتحدث عن أن الحوار الوطني يساعد في إثراء النقاش الوطني وبلورة الحلول.. ما تعليقك ولماذا لم تشارك فيه؟

الحوار الوطني مر بمراحل مختلفة؛ في مرحلته الأولى جاء مواكبًا مع ما كنت أطالب به هو تفعيل “حق الكلام السياسي”، وفتح المجال العام، ولذلك وافقت عليه من حيث المبدأ، لتحديد الأولويات ونقد السياسيات، خاصر لما قيل أن من علامات الجدية إلغاء الحبس الاحتياطي والإفراج عن المعتقلين السياسيين المدنيين الذين لم تلوث أيديهم بدماء.

وهنا أنا أفرق بين مخرجات مباشرة للحوار، ومخرجات غير مباشرة، الأولى لم تشهد إنجازًا، والثانية هي ما تم تفعيله بشكل ما، وبالتحديد فتح باب النقاش السياسي والحوار لفترة، هذه خطوة ليست كبيرة ولكن لا بأس بها.

بكل صراحة، كان لي حماس للمشاركة في الحوار ولكن الترتيبات التي حدثت هي التي أرجعتني عن قراري، لأنني أحسست أن الحوار “under control / تحت السيطرة”، والحوار من وجهة نظري حتى يكون حوارًا حقيقيًا لابد أن يكون مفتوحًا، ومتاح فيه أفق الحديث والمخرجات.

تأكد انزعاجي عند سماع المستشار محمود فوزي رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني، أثناء مناقشة قانون الانتخابات، والحديث عن القائمتين النسبية والمطلقة، جاء كلامه يُعني ضمنيًا منع المشاركين من إبداء آراء مختلفة والتفكير خارج السياق المحدد، رغم أن الحوار معناه الاختلاف. أيضًا، كان المفترض أن يتم تسجيل الاقتراحات المختلفة ورفعها لرئيس الجمهورية للاختيار من بينها، وأنا لست ضد هذا، لكن ضد أن يرُفع له ما هو محدد سلفًا.
الحوار يعني أن هناك مخرجات تأتي بعد نقاش بحرية، لكن إذا كنت تريد حوارًا بمخرجات محددة، عبر حضور شكلي ورمزي، فهذا إلغاء لصفة الحوار، ولهذا لم أشارك.

ورغم ذلك، لم أدعو أحدًا لمقاطعة الحوار حتى لا أغلق باب الأمل في تحسن الأمور.

لكن الحقيقة، أنني، خاب رجائي في الحوار الوطني.

الحوار خدعة طالما لم يشارك الرئيس

وما الذي يعيد لك الأمل في الحوار الوطني ويجعلك تشارك فيه؟

لابد أن يتم الانفتاح على الخبرات الاقتصادية لإنقاذ البلاد مما وصلت إليه، والانفتاح السياسي بشكل جاد، عبر حوار حقيقي جاد وليس بطريقة الحوار الوطني الماضية، وباختصار شديد: لن يكون للحوار قيمة ما لم يشارك فيه الرئيس بنفسه، لأنه صاحب القرار في الدولة.

 

الرئيس إذا شارك في مثل هذه الحوارات، سأكون أول المشاركين، لأنه سيكون حوارًا له صفة الجدية والأهمية، لكن حوار عبر وكلاء يرفعون المقترحات المتضادة بطريقتهم لصاحب القرار، ليختار ما يشاء أو ينحيها جانبًا، و يقرر ما هو مقرر سلفًا، فهذا ليس بحوار.

وأتذكر هنا لقائي مع الصحفي آرثر سالزبرجر ناشر ورئيس تحرير صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، عند بدء الدعوة للحوار الوطني، وهو أحد أهم الصحفيين في العالم، وبعد حواره معي، سألته :”هل يمكن أن يؤثر الحوار على مقاربات نيويورك تايمز من النظام؟”، فقال: “إنهم لا يشاركون في خدعة”، وأعتقد أن جميع قوى المعارضة -بعيدًا عما حصلوا عليه من بعض الإفراجات والمساحات- يشاركون الآن رئيس تحرير صحيفة نيويورك تايمز نفس الخلاصة، وهذا أسوأ شيء يمكن أن نصل له بعد هذه الفترة من الحوار، فالحوار الوطني فكرة بديعة إذا ما مورست بجدية، ولكن إذا تمت ممارستها في المرحلة المقبلة بذات مواصفات المرحلة الماضية، فهي خدعة جديدة.

الدولة بعد 2016 تحولت لحكم الفرد

كنت الأقرب إلى دوائر صنع القرار في الدولة، في فترة ما، فلماذا لا تتواجد الآن ليصل هذا الصوت إلى صاحب القرار؟

في 30 يونيو كان موقفي واضحًا من الإخوان ومن نوع الحكم الذي صنعوه، واعتقادي أن الإخوان خانوا عهد الثقة مع القوى المدنية باتجاههم إلى صناعة دولة دينية، والاعتداء على الشباب المختلفين معهم، سواء في التحرير أو المقطم، ما دفعني حتى لا تتحول الدولة إلى ساحة حرب شعبية إلى تأييد تدخل الجيش لمنع حرب أهلية، وكنت من الذين عولوا في البداية على الرئيس السيسي، باعتباره يستطيع صنع نقلة، كما تعهد هو بنفسه، لدولة ديمقراطية حديثة، دون ديكتاتورية، وعدم الجلوس على الكرسي أكثر من دورتين متتالتين، وحصل أن الأغلبية الساحقة من الشعب المصري أيدت تدخل الجيش، وأنا كنت في هذا الوقت واحد من هذه الأغلبية الساحقة.

وفي عام 2014، حاولت أن أساعد البلد أن تستكشف، المرحلة المقبلة، في ضوء التنوع السياسي. ولكن يبدو أن هذا الكلام كان غير مريح للبعض، إلى أن جاءت نقطة القطيعة بيني وبين النظام الحالي في أزمتين متلازمتين: قضية تيران وصنافير واقتحام الأمن نقابة الصحفيين؛ فالأولى كانت منذرة وصادمة في مسألة الأمن القومي والثانية منذرة في مسألة الحقوق والحريات، وكتبت كثيرًا حول هذا التصور السلبي على صفحات الشروق.

اقرأ أيضًا: حوار مع المرشح الرئاسي فريد زهران: لم تكن هناك حركة مدنية قبل الحوار الوطني.. فقط التهديد بالسجن

أعتقد أن النظام كان في حالة سيولة من 2013 حتى 2016، ليست له ملامح ثابتة، وكان يستكشف الأوضاع ولكنه اكتسب شخصيته وسماته بعد هاتين الأزمتين، فأصبحت الدولة صارمة وبوليسية، وأصبح حكم الفرد قائمًا، وأنا لم أكن في أي لحظة طرفًا في هذا الوضع واعترضت عليه موقفًا وكتابة، ولا يزال بعض أطراف الدولة تسمع لما أقول لأنهم أكثر ناس تعلم أنني أقول ما أعتقد فيه.

كل ما يعنيني أن تقف الدولة على “حيلها” وتحترم تاريخها وثوراتها والأهداف العليا: الحرية والديمقراطية والعيش والعدالة الاجتماعية، وأن تتنفس البلد عصرًا جديدًا.

لما وجدت كل الطرق مسدودة اختلفت وابتعدت.

لا يوجد حمائم ولا صقور

برأيك.. من الأقرب من صانع القرار الحمائم أم الصقور؟

لا أرى حمائم أو صقور، وبوضوح نحن في دولة لها صانع قرار واحد، وليس لدينا حكومة، لأنهم مجموعة من الموظفين، ولقد تحدثت علنًا مع بدء الحوار الوطني، وتسائلت بوضوح: “من يقود الحوار الوطني؟!” فوجدت مشكلة كبيرة جدًا.

في أوقات مبارك كان هناك صفوت الشريف يمكنه أن يدير حوارًا، وفي كل العهود كان هناك وزراء سياسيون، لديهم كفاءة الكلام والتصرف، لكن في حكومة مصطفى مدبولي لا يوجد أحد لديه الكفاءة، وهو ما قلته في وقته وحينه لأصحاب القرار وبعبارتي “معندكمش حد”، ولهذا جاء التفكير في ضياء رشوان رئيس هيئة الاستعلامات باعتباره صاحب خلفية سياسية قديمة من أيام الحركة الطلابية، فالنظام لم يكن مستعدًا للقبول بشخصية مستقلة، ولا يوجد لديه شخصية داخل بنيته الداخلية تستطيع أن تقود هذا الحوار، وهذا يعني أننا أمام نظام أمني بيروقراطي غير قادر على إفراز قيادات وكوادر تتحمل المسؤولية العامة.

ولك أن تتخيل بعد عام 2030، من يمكنه تحمل المسؤولية بعد الرئيس السيسي، الواقع يقول “مفيش حد”.

مصر ماشية بنظرية “كله في وقته لما تحدث الكارثة يبقى نتصرف”.

يتشائمون من مسألة نائب الرئيس

أليس من الممكن علاج هذا بتفعيل المادة الدستورية الخاصة بنواب الرئيس؟

هذا السؤال لا أعرف لماذا لا يريد البعض أن يفتحه بكل موضوعية من أجل مصلحة البلد.

أنا أؤيد طبعًا وجود نواب للرئيس، ولكن لدينا مشكلة أن الرؤساء تقريبًا كلهم بعد “عبد الناصر” يتشائمون من مسألة نائب الرئيس، فالرئيس مبارك قعد 30 سنة لم يعين نائبًا للرئيس إلا لما تدهورت الأمور، وكان السيد عمر سليمان في الأيام الأخيرة، ورغم أن الأمر خاضع لتصرف الرئيس، ويستطيع أن يغيره في أي وقت، إلا أن الأمر كان خاضعًا للتشاؤم.

والآن، طبقًا للدستور (المادة 150 مكرر) للرئيس حق تعيين نائب أو أكثر، وكانت التوقعات أن يختار شخصية عسكرية وأخرى مدنية وثالثة اقتصادية، كنواب له، وأنا أتمنى على الرئيس السيسي أن يفعّل النص الدستوري الذي وضعه هو بنفسه، بوجود نائب أو أكثر، يساعده، فمثلًا يرسل نائبًا للجلوس مع المعارضة، فالرئيس لم يجلس معهم ولا يريد ذلك، فيجلس معهم النائب، يتناقش معهم وينقل للرئيس مخرجات الحوار، ليبني على ما يستحق ويتخذ ما يراه من قرارات، فأي توسع في قاعدة صنع القرار في صالح الرئيس قبل أي أحد.

آخر ما يحتاجه السيسي هو التشكيل الوزاري الحالي، فالوزراء تعودوا أن يكونوا سكرتارية، ولا يجرؤون أن يصارحوا الرئيس بما يدور في خلدهم من مخاوف أو تصورات أو اقتراحات، وبالتالي ينتظرون ما يقترحه أو يريده، كي يثني عليه ويعملوا على تنفيذه وهذا آخر ما يحتاجه الرئيس أي رئيس، فالاحتياج الأجدى هو توسيع قاعدة صنع القرار، وأن تكون الحكومة شريكة في صنع السياسات ، ومن المهم أن تكون الوزارة القادمة شخصيات مستقلة قادرة على الحوار والاقتراح، كي تقدم حلولها للرئيس لتنتهي مرحلة انتظار ما يقوله الرئيس والثناء فقط عليه.

لا معارضة ولا موالاة.. حكومة الكفاءات أولى

ألا تعتقد أن المعارضة تمتلك كفاءات يمكنها المشاركة في الحكومة المقبلة؟

أنا لا أحب التمثيليات، مثل ما حدث في أول ثورة 25 يناير، عندما قالوا أعطوا فرصة للشباب للقيادة، وتم ضم بعضهم إلى وزراء بحسب مدى قربهم منهم. هذه التجربة لم يقيمها أحد، ولكن ليس لها عندي إلا عنوان واحد وهو الفشل التام.

أحد هؤلاء الشباب كان يستعد لدراسة الدكتوراة في الخارج، قلت له بوضوح: “هذا منصب سياسي، ما وظيفتك بعده: إما أن تكون وزيرًا أو تجلس عاطلًا”. نصحته بالسفر لاستكمال تعليمه وأخذ المنحة الدراسية، اعتقادًا مني أن الناجح مهنيًا لديه فرصة أكبر في استحقاق الوظائف العليا في وقت ما، وقد فعل.

لا أريد إشراك معارض في الحكومة لمجرد أنه معارض، يمكن أن تكون إمكانياته محدودة أو متوهمة، وهذا لا يمنع أن المعارضة قدمت كفاءات مهمة وتجربة ذات إشارات إيجابية في نقابتي الصحفيين والمهندسين مثل خالد البلشي وطارق النبراوي.

في الحكومة، أنا أريد كفاءات حقيقية في أي حكومة سواء من الشباب أو من الأحزاب، المهم لديّ هو الخبرات، وأنا مهتم باختيار مجموعة اقتصادية جديدة من الشخصيات الاقتصادية القادرة من أبناء مصر في الداخل والخارج، على ألا يتم المشي في الأواني المستطرقة، ويكفي ما مضى.

ملف الأزهر والكنيسة يحتاج دراسة وحكمة

ننتقل إلى مؤسستين من أبرز مؤسسات الدولة؛ الأزهر والكنيسة، كيف ترى دورهما في السنوات الأخيرة، وكيفية تعامل صناع القرار معهما؟

هذا الملف لابد أن يدرس باهتمام شديد واحترام واسع للمؤسستين، وحساسية لازمة من الجميع، مع بحث في جذوره والعهود السابقة، وعدم الاقتصار على فترة النظام الحالي، حتى نصل إلى تقييم يفيد كينونة الدولة المصرية.

كانت لدينا تجربة البابا شنودة، وأنا حاورته كثيرًا واقتربت منه وأعتبره شخصية تاريخية لها مواصفات الزعامة، والذي جعل ذلك ممكنًا القطيعة مع الدولة بعد كامب ديفيد وزيارة القدس، وصدامه مع السادات، وضعف المجال العام، فدخل ولعب الدور السياسي وهذا ليس دوره

والبابا تواضروس من حيث تكوينه السياسي الأساسي، عنده رؤية سياسية، كان موجودًا في الحركة الطلابية بجامعة الإسكندرية في أوائل السبيعينات، واحتك بقوى سياسية، ولكنه يريد أن ينأى بالكنيسة عن التجاذبات السياسية، فلا هو لديه الكاريزما الطاغية لشنودة ولا هو امتداد للقديس كيرلس السادس، لكنه ابن اللحظة التي صعد فيها إلى الرئاسة الروحية بالتزامن مع سيطرة الإخوان المسلمين على البلد، ثم جاءت السلطة الجديدة التالية وهي تراهن على علاقة أطيب، مع تصحيح الماضي والمضي بإيجابية في هذا الاتجاه.

شيخ الأزهر أحمد الطيب جاء في لحظة انهيار سلطة مبارك، وكان هناك نزاعًا بعد فترة الشيخ طنطاوي بكل ما فيها من جدل، والذي كان رجلًا طيبًا أوقعته عصبيته في مشاكل عدة وخصومات عديدة، وسحبت من رصيد الأزهر، حيث بدا التناقص فادحا بين الكنيسة العروبية، والأزهر المستعد للتطبيع في عهد طنطاوي، ولكن جاء الطيب من بين عدة أسماء، ولم يكن هناك تصور أنه يمتلك الشخصية القيادية القوية التي ظهرت فيما بعد، فكان ظن نظام مبارك فيه أنه من بيننا، ولكن جاءت ثورة 25 يناير لتفاجئه وتضعه أمام الأحداث، ثم وصول الإخوان للسلطة ومحاولة هيمنتهم على الأزهر الشريف، عبر علماء من داخله، ما وضع الشيخ الطيب أمام تحدي تلك الضغوط الداخلية والخارجية، وأتذكر جيدًا مؤزارة القوى المدنية له في هذا الوقت، فلما أطيح بالإخوان ظن البعض أنه لابد أن يتبنى خطاب الدولة وقتها في الاستئصال، وهو ما لم يكن يستطيع فعله لعدم اعتقاده فيه ورؤيته لوجود مزايدات في بعض المواقف والقرارات، وأن دماء كثيرة أريقت، ما دفعه إلى أخذ موقف مستقل، ولد حساسيات لا تزال موجودة حتى الآن وإن خفتت.

الحكمة تقتضي في كل وقت التعامل بحساسية شديدة مع منصب شيخ الأزهر، لأن في الفترات الأخيرة هناك أخطاء من مؤسسات بالدولة ومنابر إعلامية بحق شيخ الأزهر لا أستطيع أن أوافق عليها ولا أبررها وأرفضها قطعًا.

هكذا هما السياقان التاريخيان مختلفان لكل من الكنيسة والأزهر، والحكمة تقتضي التعامل بحساسية مع الملف الديني كله، وبوضوح كامل، فلا أحد يعترض على إصلاح الخطاب الديني، ولكن لا يعني ذلك إجبار رجل دين في الإسلام وبحجم شيخ الأزهر على التخلص من البخاري إلى آخر الأطروحات التي يتحدث عنها البعض، هذا غير معقول، ويجعله يفقد صلاحيته في مكانه، وللعلم كل الإصلاح الديني الذي تم حدث من خارج الأزهر، ولا يمكن أن تطالب مؤسسة دينية تقليدية بأشياء خارج تحملها، ولكن التركيز على الحركة الاجتماعية بالمجتمع ستدفع إلى ذلك، مثل قضية تعليم البنات، فالتطور دفع الأزهر إلى مجاراته وتقنينه مع الحركة العامة للمجتمع، والشيخ شلتوت وهو من أعظم شيوخ الأزهر صنع معارض للفنون التشكيلية بالأزهر وذهب إلى التقريب بين المذاهب واعترف بالمذهب الاثنى عشر الشيعي، والشيخ الطيب يحاول احتذاء الشيخ شلتوت.

إذا كنا نريد إصلاحًا دينيًا علينا بالفصل بين ما هو ديني مقدس وما هو سياسي متغير، ولا أحد يوظف الدين في الصراعات السياسية، ولابد من وقفة صريحة إزاء توظيف الدولة للدين في كثير من المواضع لأسباب سياسية بينما تحرمه وتحظره على آخرين وهنا الخلل، مع الالتزام بالدستور الذي يجرم الأحزاب على أساس ديني، فلا يمكن تجريم البعض لأسباب سياسية وترك البعض لأهداف سياسية أخرى، هذه الطريقة لا يمكن أن نبني دولة مدنية حديثة.

أعيدوا الجيش لمهامه الطبيعية

في 4 يونيو 2023، كتبت تحت عنوان “مراجعات 5 يونيو.. أين المسؤولية السياسية؟”.. ماذا تعني هذه المراجعات اليوم؟

هناك تشويش فكري ووجداني وسياسي في الرأي العام حاليًا بحق مؤسسة الجيش، وهو ما يجب أن نراجعه سريعًا ويتم التوقف عنه.

القوات المسلحة مؤسسة وطنية، بحكم التعريف، تحملت مسؤولية هائلة في التاريخ المصري الحديث منذ إنشائها، في عهد محمد علي ودخول أبناء الفلاحين الجيش، فكل بيت مصري به جندي أو ضابط من أبناء القوات المسلحة.

صناعة التناقض والصراع والتشهير بالجيش ورفع شعار” يسقط حكم العسكر” أنا ضده طول الوقت لأنه يحمل من التجهيل والتعميم ولا يصح هذا الكلام.

الدولة الحديثة بنيت على ركيزتين هما: البعثات التعليمية، والمؤسسة العسكرية، والجيش أعاد اكتشاف دوره وعقيدته وهويته وشخصيته في حرب 1948، رغم الهزيمة العسكرية، حيث دفعت تلك الهزيمة إلى إعادة تركيب صورة جديدة له في عيون الشعب والتهميد لثورة يوليو 1952.

وإذا حدثت ظروف أدت إلى التأثير على أوضاعه، فالحل هو تغيير تلك الأوضاع لا الانتقاص من الجيش، لأن من يضرب القوات المسلحة يضرب الركيزة الصلبة للدولة المصرية، وليس هناك مصلحة لأحد في ذلك كما أنه ليس هناك مصلحة لأحد أن يقوم الجيش بغير مهامه، وهنا أعود إلى حوار مع اللواء عبد الفتاح السيسي قرب الانتخابات الرئاسية في العام 2012، وكان هناك تراجعًا في شعبية المؤسسة العسكرية، قال مدير الاستخبارات في العسكرية في ذلك الوقت، بالحرف: “عندما يعود الجيش لمهامه الطبيعية سوف ترتفع شعبيته إلى عنان السماء” وهذه قراءة صحيحة، ولا أريد منه في موقعه هذا الآن إلا أن يعود الجيش لمهامه الطبيعية.

أنا عندي مشكلة كبيرة على الحدود، وممكن أن أجد نفسي في وقت ما في حرب مع إسرائيل، لذلك لابد من تفرغ الجيش لمهامه في حماية الحدود، وشعب يقظ يقف خلف جيشه.

الإفراج عن سجناء الرأي فورًا

البعض يربط بين توحيد الجبهة الداخلية في مثل هذه الظروف وبين الإفراج عن سجناء الرأي وتفعيل مادة العدالة الانتقالية.. كيف ترى الأمر؟

لابد من الإفراج فورًا عن كل سجناء الرأي. تفعيل مادة العدالة الانتقالية هنا حل مثالي أوافق عليه، ولكن لن يحدث لأن أطراف كثيرة لا تريد فتح ملفات قديمة.

العدالة الانتقالية ليست ثأرًا وانتقامًا، ولكن أهميتها أن نعرف ما جرى.

أحيانًا، لأسباب سياسية يتم إغلاق ملف الحديث عن العدالة الانتقالية، والمثال على ذلك ما حدث في تشيلي، فالرجل الذي أشرف على العدالة الانتقالية في تشيلي عندما تحدث عنها في ندوة عن تجربته في جامعة الدول العربية، تكلم كلامًا كثيرًا ومفيدًا عن الموضوع، ولكن عندما سُئل عن دور الولايات المتحدة الأمريكية في الانقلاب على الرئيس سلفادور اليندي، تجاهل السؤال وقال ليس لدي أي معلومات، بما يعني أن هيئة المصالحة في تشيلي لم تتطرق إلى هذه النقطة خشية أن تدمر فكرة المصالحة كلها، وهذا تفسيري، في ظل معرفة الجميع بالدور الأمريكي في انقلاب تشيلي.

المرحلة الانتقالية في مصر فشلت، وبالتالي، لن يفتح أحد هذا الملف، ويبدو أن هذا سيكون دور المؤرخين والباحثين والتوافق العام في المجتمع بدون لجان أو نصوص، في وقت ما، لأنه لابد أن يتم.

فرصتنا أن يقر النظام بالحقيقة

كيف نطمئن المصريين في الوقت الراهن؟

لا أريد أن أكون متشائمًا، مصر تستطيع أن تواجه كل التحديات شرط أن يقر النظام بالحقيقة، وقد مرت البلاد بظروف صعبة كثيرة ونجحت في تخطيها.

مصر تحتاج التحلي بالمسؤولية ومواجهة الأزمات بشكل جاد والدعوة لحوار حقيقي، مع البحث عن النقاط المشتركة، وتأكيد التماسك الوطني الواسع في لحظة تقرير مصائر، وهذا واجب الوقت، لأنه لم يتبق لمصر سوى فرصة أخيرة بعدها لا أحد يعرف ماذا سوف يحدث غدًا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة